أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

هل ستقضي تركيا على حلم كردستان سوريا؟

لقد وضع الانهيار السريع لنظام الأسد أكراد سوريا وحلمهم في بناء كيانهم المستقل في شمال شرق سوريا في اختبار صعب، وسط تكهنات بعملية عسكرية تركية وشيكة في ظل استمرار تقدم الجيش الوطني السوري نحو البلدات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، إذ يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يدعم المعارضة السورية المسلحة، حريص على اغتنام الفرصة الذهبية التي أتاحها التحول السياسي المفاجئ في سوريا للقضاء على الخطر التاريخي لتركيا المتمثل في وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني.

شواهد العداء بين أكراد سوريا وتركيا

تشير كردستان سوريا، أو “روج آفا”، أي الغرب باللهجة الكردية السورية، إلى ما يعدّه الأكراد الجزء الغربي من كردستان الكبرى، حيث تشكل كردستان السورية، إلى حانب كردستان الإيرانية، وكردستان التركية، وكردستان العراق، ما يُسمى بكردستان الكبرى، وتغير  اسم “روج آفا” من فيدرالية روج آفا شمال سوريا إلى النظام الاتحادي الديمقراطي لشمال سوريا إلى النظام الاتحادي، ثم اعتُمدت أخيرًا التسمية الحالية، وهي الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، لمنح الكيان تسمية كردية أكثر شمولًا تضم المجموعات العرقية والدينية المختلفة في المنطقة، ومن بينها العرب السنة المسلمون، ومجموعات مسيحية مختلفة، ومع أن العرب يشكلون غالبية مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، فإن ضباط القوات هم في الغالب من العرقية الكردية.

ومنذ بداية الثورة السورية، سعى نظام الأسد إلى استرضاء الأقليات بإصدار مرسوم يمنح الجنسية للأكراد في محافظة الحسكة، غير أن عملية الحصول على الجنسية تضمنت مقابلة مع جهاز أمن الدولة، وتجنيدًا عسكريًّا محتملًا بعد الحصول على الجنسية؛ لذا رفض كثير من الأكراد المضي قدمًا في تلك العملية. ومع ذلك لم تشهد المناطق الكردية في بداية الصراع بين النظام والمعارضة كثيرًا من الاحتجاجات بسبب محاولات النظام التقارب مع حزب الاتحاد الديمقراطي -الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني- كما أن الأحزاب الكردية كانت حذرة من المجلس الوطني السوري المعارض؛ لأن زعيمه برهان غليون أكد الطبيعة العربية لسوريا، كما لم يثق الأكراد بعلاقات المجلس الوطني السوري مع تركيا.

وخلال سنوات الحرب الأهلية، نفذت القوات التركية عمليات عسكرية في الشمال السوري تحت ذرائع متعددة؛ إذ جاءت عملية “شاه الفرات” عام 2015 لنقل رفات سليمان شاه، جد السلطان عثمان الأول، من ضريحه في إحدى قرى حلب إلى مكان آخر خاضع لسيطرة تركيا داخل سوريا، وأعقبتها عملية “درع الفرات” عام 2016، التي انتهت بالسيطرة على مدينتي إعزاز وجرابلس بريف حلب لطرد تنظيم داعش من تلك المناطق، ثم عملية “غصن الزيتون” عام 2018، التي نجحت فيها القوات التركية -بالتعاون مع الجيش الوطني السوري- في السيطرة على مركز مدينة عفرين، وطرد تنظيم حزب العمال الكردستاني منها، وفي عام 2019 أطلقت تركيا عملية “نبع السلام” لإبعاد وحدات الحماية الكردية عن الحدود التركية السورية، وإنشاء منطقة آمنة بعمق نحو 30 كم، بموجب اتفاقيات أستانا وسوتشي. ورغم النجاحات التي حققتها تلك العمليات، فإن نتائجها لم تُرضِ طموح تركيا في تقويض أكراد سوريا تمامًا.

أهداف العملية العسكرية التركية المرتقبة

لطالما أكد أردوغان أن المقاتلين الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية، الذين ينتمون في الغالب إلى وحدات حماية الشعب، هم امتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي صنفته تركيا منذ فترة طويلة جماعةً إرهابية، فمع أن الرئيس التركي أمر بمئات الضربات الجوية ضد مواقع “قسد” في السنوات الأخيرة، ونجح في السيطرة على ممر حدودي في شمال شرق سوريا منذ عام 2019، فإنه لم يتمكن من إنهاء الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية حتى الآن؛ لذا يرتبط الهدف الرئيس لتركيا في سوريا بالقضاء على الحكم المتعدد الأعراق الذي يقوده الأكراد، ودفعهم إلى الصحراء السورية من خلال إنشاء منطقة آمنة، وهناك ستعمل أنقرة على إعادة توطين اللاجئين السوريين في المستوطنات الكردية سابقًا كوسيلة لإرضاء المشاعر المعادية للاجئين في الداخل؛ ومن ثم يسعى الجيش الوطني السوري حاليًا إلى الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي لإبعاد الأكراد عن الحدود التركية.

ومع الإطاحة بنظام الأسد، وانسحاب داعميه، لاحت فرصة ذهبية لأنقرة لسحق مساعي الحكم الذاتي الكردي في سوريا، والتهديد الذي تشكله وحدات حماية الشعب لتركيا، ومع اقتراب الجيش الوطني السوري من نهر الفرات، يرجح أن تكون هذه المناوشات بمنزلة استعدادات عسكرية تركية لغزو “كوباني”، ذات الأغلبية الكردية، في ظل الحديث عن حل “هيئة تحرير الشام” التنظيمات الإرهابية بعد تشكيل الحكومة المؤقتة، ودعوة حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء أسلحته والانضمام إلى صفوف الجيش السوري، وإذا رفض حزب العمال ووحدات حماية الشعب هذه الدعوة فإن الجيش الوطني السوري والقوات المسلحة التركية سينفذان عملية مشتركة لإخراج حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من الأراضي التي يسيطرون عليها.

اعتبارات مستقبل الحلم الكردي

مع تركيز أنظار المجتمع الدولي على تحركات هيئة تحرير الشام في الأسابيع الأخيرة، لم يتم إيلاء اهتمام كبير لتقدم الجيش الوطني السوري في المدن التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، حيث سقطت بلدة تل رفعت في أيدي الجيش، الذي سرعان ما تحرك نحو منبج، غرب نهر الفرات مباشرة، وهي المدينة التي لطالما أرادت تركيا حرمان الأكراد منها؛ ما يشير إلى مخاوف كردستان سوريا من عملية عسكرية تركية على شمال سوريا وشرقها، تقضى على الحلم الكردي في البلاد، غير أن هذا يرتبط بعدد من المحددات تتمثل في:

الانسحاب الأمريكي

قدمت القوات الخاصة الأمريكية في سوريا -على مدار السنوات الماضية- دعمًا لوجستيًّا وعسكريًّا مهمًّا لقوات سوريا الديمقراطية لمحاربة داعش، ولا تزال إدارة بايدن تسعى في أيامها الأخيرة إلى حماية قوات “قسد” من تقدم الجيش الوطني السوري، وهو ما دفع وزير الخارجية أنتوني بلينكين إلى زيارة تركيا في 12 ديسمبر الجاري، حيث توصلت الولايات المتحدة وتركيا إلى اتفاق يقضي بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية من منبج، ووقف تقدم تركيا وحلفائها شرق نهر الفرات، لكن دخول ترمب الشهر المقبل البيت الأبيض يثير قلق الأكراد من تخفيف الدعم الأمريكي لقواتهم، خاصة في ظل العلاقة الوثيقة بين ترامب وأردوغان، واعتراف الرئيس الأمريكي الجديد بالمخاوف الأمنية المشروعة لتركيا في سوريا، فضلًا عن الجدل بشأن بقاء القوات الأمريكية الموجودة في سوريا، الذي لم يعلق عليه ترمب حتى الآن، لكن في حالة انسحاب الجنود الأمريكيين من شمال شرق سوريا، فهناك احتمال كبير أن يأمر أردوغان القوات التركية وحلفاءها من الجيش الوطني السوري بغزو المنطقة بهدف تدمير قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها.

الإصرار التركي

من المرجح أن تنتهز أنقرة الفرصة التاريخية للقضاء على الخطر الكردي على حدودها، ويدعم هذا تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن هدف أنقرة الإستراتيجي هو القضاء على “وحدات حماية الشعب“، كما تفيد تقارير عدة بمحاولة مسؤولين أتراك الضغط على الولايات المتحدة للسماح لأنقرة بنشر ثلاثة ألوية كوماندوز لتحل محل قوات سوريا الديمقراطية في الإستراتيجية الأمريكية للقضاء على داعش، وتولي مسؤولية حراسة كثير من مراكز الاحتجاز التي تؤوي مقاتلي داعش وأسرهم، كما تسير تركيا في مسار موازٍ؛ إذ سمحت لحزب “المساواة وديمقراطية الشعوب”، المؤيد للأكراد في البرلمان، بإجراء محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، في سجنه في جزيرة إيمرالي؛ بهدف إنهاء الخطر الكردي.

غموض العلاقات مع هيئة تحرير الشام

لم يرحب نظام الأسد بالحكم الذاتي الكردي في سوريا، وطوال الحرب الأهلية السورية، لم تكن المعارضة السورية المكونة من مجموعات متباينة على استعداد لقبول الحكم الذاتي الكردي أيضًا، ولم تقبل فكرة الدولة الفيدرالية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأيديولوجية الإسلامية لهيئة تحرير الشام، وجذورها القاعدية، تجعل الأكراد قلقين من مستقبل العلاقة بين الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها وقيادة هيئة تحرير الشام. ومع أن الأخيرة لم تعلق على وضع الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، ولم تقم بأي تحركات عسكرية كبيرة ضد مواقع قوات “قسد” في هذه المنطقة، تظل عودة جميع حقول النفط في منطقة دير الزور، التي تسيطر عليها حاليًا مكونات قبلية عربية من قوات سوريا الديمقراطية، إلى سيطرة الحكومة المركزية، هو هدف أي حكومة سورية مقبلة؛ ما يجعل تلك الحقول ذات أهمية محورية لقوات سوريا الديمقراطية، وورقة للضغط في الأمد القريب.

مخاوف الانشقاق

احتمال انشقاق العرب الذين انضموا إلى قوات سوريا الديمقراطية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وتشكيلهم مجموعات متمردة أخرى، تحت ضغط من تركيا وهيئة تحرير الشام، من شأنه أن يضعف القوات الكردية، ويشتت نفوذها، ويثنيها عن هدفها في تشكيل وطنها الخاص والاستقلال عن الدولة السورية، ويعزز هذا الطرح إعلان زعيم فرع هجين في مجلس دير الزور العسكري التابع لقسد، أبو الحارث الشعيطي -مؤخرًا- انشقاقه، وتعهده بالولاء لهيئة تحرير الشام؛ ما يرجح تكرار هذا مع قادة آخرين مؤثرين في هيكل قوات سوريا الديمقراطية.

الدعم الإسرائيلي

يزيد تقدم الجيش الإسرائيلي في سوريا مخاوف أنقرة بشأن التهديد الذي يشكله حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه السياسي، وفي الشهر الماضي، وصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الأكراد بأنهم حلفاء طبيعيون لإسرائيل، وهو التعليق الذي جاء وسط توترات إسرائيلية تركية في سوريا؛ إذ تعمل إسرائيل الآن على حفر ممر يربط الأراضي التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني بأراضيها، وفي ظل الوجود الإسرائيلي في سوريا، من المرجح أن تزيد أنقرة ضغوطها على وحدات حماية الشعب، وعلى إدارة ترمب لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.

الخاتمة

ستتوقف كل الرهانات على مستقبل حلم الأكراد ببناء كردستان سوريا فور تنصيب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة الشهر المقبل؛ إذ إن السيناريو الأفضل للأكراد قد يتمثل في حصولهم على دعم كافٍ من الولايات المتحدة لتأمين الأراضي التي يسيطرون عليها في شمال شرق سوريا، ما يمنحهم نفوذًا لدى الحكومة الجديدة في دمشق لمواصلة إقامة دولة مستقلة بالكامل.

وعلى النقيض، قد يواجه الأكراد السيناريو الأسوأ المرتبط بنشوب صراع عنيف مع الجيش الوطني السوري؛ ما قد يضطرهم إلى التنازل عن السيطرة على بعض أراضيهم الغنية بالنفط، وإذا قرر الرئيس المنتخب سحب القوات الأمريكية من سوريا، فهناك فرصة استثنائية لتدمير تركيا الكيان المستقل الذي يقوده الأكراد.

مجمل القول أن تركيا قد تنتظر حتى تتحقق مصالحها مع الحكومة السورية الجديدة قبل أن تقرر ما إذا كانت ستشن هجومًا عسكريًّا شاملًا ضد القوات الكردية، وقد تراقب أيضًا ما إذا كان ترمب سيسحب القوات الأمريكية. والآن، ومع خروج إيران وروسيا من اللعبة، ووقوع الغرب في موقف محرج، سوف تصبح أنقرة اللاعب المهيمن في سوريا الجديدة، إذ يبدو أن الرئيس التركي الذي استفاد -سنوات- من وضع الوسيط بين موسكو وطهران وواشنطن، أصبح يمتلك كل الأوراق أخيرًا.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق