هل تفجر المسيرات الأوكرانية فرص التهدئة؟ التصعيد الميداني عشية مفاوضات إسطنبول

إعداد سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 03-06-2025
يزداد المشهد الميداني والسياسي في الأزمة الأوكرانية تعقيدًا عشية الجولة الثانية من مفاوضات إسطنبول، المقرر عقدها منتصف يوم 2 يونيو 2025.
وبينما تسعى أنقرة جاهدة إلى توفير أرضية محايدة على أمل أن تفضي إلى مسار تفاوضي مقبول، فجّرت أوكرانيا مفاجأة من العيار الثقيل باستهداف أربع قواعد جوية روسية في العمق الإستراتيجي، في عملية معقدة تحمل دلالات نوعية تتجاوز البعد العسكري إلى ما هو سياسي ودبلوماسي بامتياز.
وإذا حاولت تقديم قراءة أولية في طبيعة الضربة الأوكرانية، فينبغي الإشارة بداية -مراعاة لمبدأ الحياد- إلى إعلان أجهزة الأمن والاستخبارات الأوكرانية تنفيذها عملية وصفتها بالسريّة، حملت اسم “شبكة العنكبوت”، استخدمت فيها مسيرات من نوع FPV الانتحارية، تم تهريبها وتخزينها داخل الأراضي الروسية، في شاحنات مدنية جُهّزت لإطلاق المسيّرات من أماكن متنكرة قرب القواعد الجوية المستهدفة.
وهذا الكلام إن صح، فهو أخطر اختراق أمني للأراضي الروسية منذ بدء الحرب.
وقد شملت الضربة الأوكرانية -حسب مصادر مختلفة- قاعدة جوية في مقاطعة ريازان، وثانية في إيفانوفا وسط روسيا، وثالثة في إيركوتسك بسيبيريا، وقاعدة رابعة في أقصى شمال روسيا.
وقد أسفرت العملية -حسب البيانات التي ينشرها الجانب الأوكراني وبعض المواقع- عن تدمير أكثر من 40 طائرة، منها قاذفات إستراتيجية نووية من طراز (Tu-95 وTu-22M3) وطائرات إنذار مبكر من طراز A-50.
وإن صدقت هذه البيانات عن حجم الخسائر، فقد تصل قيمتها المادية إلى أكثر من ملياري دولار.
فضلًا عن ذلك، تعد هذه الضربة الأكبر من نوعها منذ اندلاع الحرب، وتحمل رمزية إستراتيجية كبرى، خاصة أنها وصلت إلى العمق الروسي على مسافة تفوق 4000 كم من الحدود الأوكرانية، وهو ما يدفعنا إلى القول -دون مواربة- إنها تعيد تعريف “مسرح العمليات” في الحرب الروسية الأوكرانية على نحو غير مسبوق.
وإذا انتقلت إلى تحليل توقيت هذه الضربة، ومدى ارتباطها بمفاوضات إسطنبول، فيمكن القول إنها جاءت في توقيت بالغ الحساسية، فمن المقرر أن تبدأ الجولة الثانية من المحادثات في إسطنبول بين الوفدين الروسي والأوكراني، برعاية تركية، وبمشاركة وزير الدفاع الأوكراني رستم أوميروف، ومساعد الرئيس الروسي فلاديمير ميدينسكي.
وقد كانت التوقعات متواضعة بالأساس؛ بسبب تباين المواقف بين الطرفين تمامًا، وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق يوم 30 مايو.
فكييف تطالب بوقف شامل لإطلاق النار، وتبادل شامل للأسرى، وإعادة الأطفال الأوكرانيين من روسيا، والانطلاق في مفاوضات ترسيم نهائي انطلاقًا من خطوط الجبهة الحالية، مع احتفاظها بحق الانضمام إلى الناتو.
في المقابل، تطرح موسكو شروطًا قاسية، تشمل تعهدًا ملزمًا قانونيًّا بالحياد العسكري، وعدم الانضمام إلى الناتو، وانسحابًا أوكرانيًّا من باقي الأراضي التي لا تزال تحت سيطرتها في المناطق الأربع التي ضُمَّت في 30 سبتمبر عام 2022، فضلًا عن إدخال تعديلات تشريعية تخص اللغة الروسية.
لكن ما يفاقم تعقيد الصورة الآن، هو أن روسيا، حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تقدم أي مذكرة تفاوضية مكتوبة، وهو ما يشير ضمنيًّا إلى رغبة في اختبار نتائج التصعيد الميداني قبل التورط في التزامات سياسية.
أما القراءة الروسية للهجوم، فتشير ردود الفعل الأولية من داخل موسكو أن أصداء العملية الأوكرانية تبدو أشبه بصدمة عسكرية ودعائية.
بل بلغت الحال ببعض المحللين العسكريين الروس إلى تشبيه هذه الضربة بهجوم “بيرل هاربر” عام 1941؛ نظرًا إلى حجم الخسائر، ومباغتة الأسلوب، وهو أمر يحسب للأوكرانيين، ومن يخطط لهم.
كما أن الطيف المحافظ داخل القيادة الروسية يرى في هذا التطور مبررًا إضافيًّا لتوسيع العمليات العسكرية، وربما التراجع عن خيار التهدئة، أو حتى حضور جلسة التفاوض من الأساس.
من جهة ثانية، تحاول الدوائر المعتدلة، ولا سيما في وزارة الخارجية، تبني قراءة أكثر حذرًا، مفادها أن أوكرانيا تُدير الميدان والتفاوض بميزان دقيق، بمعنى: “ضربة تُوجّه لإثبات اليد الطولى، بالتوازي مع طرح خطة سلام جريئة تُحرج موسكو أمام الرأي العام الدولي”.
إذن، وعلى ضوء ما سبق، يمكن توقع تداعيات، ويمكن استشراف عدة سيناريوهات محتملة:
- انهيار المفاوضات قبل أن تبدأ، إذا قررت موسكو الرد ميدانيًّا، وتعليق مشاركتها بحجة انعدام النية لدى الطرف الأوكراني.
- استمرار اللقاءات على نحو رمزي فقط، دون الدخول في العمق السياسي الحقيقي، أي حوار طرشان شكلي للاستهلاك الإعلامي.
- تصعيد روسي نوعي في جبهات خاركوف وسومي، ردًا على ضربة القواعد الجوية؛ بهدف فرض وقائع جديدة على الأرض تسبق أي جولة تفاوض لاحقة.
- تدويل الأزمة على نطاق أوسع، إذ إن الضربة قد تفسرها موسكو بأنها ضوء أخضر غربي مباشر لأوكرانيا، وهو ما يعيد طرح فكرة استهداف مخازن السلاح في بولندا أو دول الناتو.
وفي الختام، ومن واقع المتابعة من موسكو، يبدو أن النخبة السياسية الروسية لم تُغلق باب التفاوض بعد، لكنها أيضًا باتت ترى في الحرب مع أوكرانيا معركة وجود لا تقبل أنصاف الحلول.
أما كييف، فيبدو بعد هذا الهجوم أنها قد اختارت أن تفاوض من موقع قوة نارية وميدانية، حتى لو أدّى ذلك إلى مجازفة دبلوماسية كبرى.
وعليه، فإن مفاوضات إسطنبول، إن عُقدت أصلًا، ستدور في ظل ظلال كثيفة من الشكوك، وقد تكون بمنزلة جولة اختبار لا أكثر لقياس النيّات أكثر منها خطوة حقيقية نحو تسوية مستدامة.