الدكتورة بدرة قعلول : مديرة مركز الدراسات الامنية والاستراتيجية بتونس
أصبح الوضع التونسي خلال هذه الفترة يوصف بالحساس والمضطرب، خاصة في المناطق الداخلية وعلى الحدود الليبية،إذ تحوّل الوضع- في بعض الأوقات- من حراك اجتماعي مطالب بالتنمية، إلى حرق مقرات السيادة كمراكز الأمن ونقاط متقدمة حدودية، وكانت الإحتجاجات عنيفة في كل القطاعات والمناطق، هذا الوضع بالنسبة لبعض الصحافيين والمحللين لا يعدو كونه عمليات فردية وليس لها وقع على المشهد السياسي العام، لكن النتائج الأولية للإنتخابات الرئاسية السابقة لأوانها 2019 أبرزت اليوم على السطح ما كان يحدث في تونس الأعماق،في تونس الشباب المهمش والناقم..
وما خفي كان أعظم, فما الذي يحدث ؟ ليس ببعيد..ففي فترة الحملات الإنتخابية التشريعية والرئاسية عام 2014 ، تم التلاعب بمشاعر أهل الجنوب وكادت أن تشتعل نار الفتنة وتقسم البلاد إلى نصفين: جنوب شمال، ولم يكن ذلك سوى تهيئة أرضية للفوضى والعصيان داخليا ومتنفس إرهابي، وتحضير لما نعيشه اليوم من نتائج اقتصادية واجتماعية كارثية وخاصة سياسية، ومن خروج كل الطبقة السياسية بهزيمة لم تسبق في التاريخ.
كانت الأحداث على مدى أربع سنوات تتواتر وتتلاحق بوتيرة لم يفهمها السياسي ولم يجد لها حلولا، فهذا المشهد عملت عليه أطراف داخلية من بارونات التهريب وكبار المسؤولين ورجال السياسة، وكذلك أطراف خارجية إقليمية ودولية حتى كبرت الأزمات .
واتسعت المخاطر الإرهابية وعمليات التهريب والإتجار بالبشر،وكادت نُذر اشتعال المناطق الداخلية وخاصة الجنوب تلوح في الأفق على المدى المتوسط والبعيد،ونحن اليوم في تونس نتابع هذه الأوضاع بكل حذر إذ أن نتائج السياسات السابقة بدأت تظهر بشكل جليّ، وتدلل على ذلك نتائج الإنتخابات وكذلك ما يُتوقع أن تسفر عنه الإنتخابات التشريعية من هزيمة كبرى وخاصة تلك التي في الحكم.
ما هي العلاقة بين داعش الشرق الأوسط والجماعات الإرهابية في شمال إفريقيا؟ نبدأ بوضع داعش في الشرق الأوسط خاصة العراق وسوريا، فالضربات التي يتلقاها التنظيم الإرهابي كبيرة وشديدة وتشدد الخناق عليه وعلى تحركاته بعد أن وصل إلى قدر كبير من السيطرة بجيش كبير يفوق ثلاثين ألف إرهابي، ولخفيف الخناق عليه، أعطى تنظيماته الفرعية في دول شمال إفريقيا بأن تشن هجمات قاسمة وقوية ربّما تضطرب لها أوروبا خاصة أن هذه الأخيرة أعلنت عن تخوفها من انتقال الإرهاب من الضفة الجنوبية للمتوسط أي من شمال إفريقيا ليصبح على شواطئها.
ولهذا التنظيم أجنحة سياسية أعطيت لها الإشارة لتتحرك داخل بلدان شمال إفريقيا لتهيئة الأرضية لحواضن اجتماعية،وهذه التجربة قد تخاض بتونس في ظل ما يراد للتجربة التونسية أن تفشل. فهل ستسقط في تونس كل الأحزاب السياسية ذات الطابع الإيديولوجي من يمينها إلى يسارها ، ومن سيطفو على الميدان في ظل ما يجري من طبخات سياسية؟
ولكن ماذا عن ليبيا؟ المطبخ الليبي استغل التنظيم الإرهابي الداعشي مستنقع ليبيا حيث الفوضى واللاّدولة وسطوة الميلشيات المسلحة والعصابات ووجود التيارات الإخوانية المتطرفة وأجنحة الإرهاب من القاعدة إلى داعش التي تتقارب فيها إيديولوجياتهم وأهدافهم، وفي هذا الوضع شهدنا في أواخر أكتوبر 2014 و بدايات نوفمبر، المبايعات بين داعش والتنظيمات القاعدة وخاصة أنصار الشريعة وفروع القاعدة من تونس وليبيا ومصر والجزائر وتأسيس إمارة داعش في شرق ليبيا بمدينة درنة الليبية، ومواجهة لهذا الخطر انطلقت عملية الكرامة بقيادة الجيش العربي الليبي بتعاون مصري إماراتي سعودي للقتال ضد هذه الجيوب الإرهابية وصولا إلى حرب تحرير طرابلس.
وفي هذه الفترة،وتزامنا مع عملية الكرامة بقيادة حفتر والمحاولات الأممية للمصالحة الوطنية الليبية وتلك التي تقودها العديد من البلدان بين جماعة طربلس وطبرق، تكثفت العمليات الإرهابية الداعشية الجماعات الإرهابية من القاعدة وهي رسالة ممضاة من داعش بأن وجودها لا يقتصر على سوريا والعراق بل يطال كذلك شمال إفريقيا، حيث تتحدث الجماعة اليوم عن الحديقة الخلفية للدولة الإسلامية وهي شمال إفريقيا وكأننا اليوم قد وصلنا إلى مراحل متقدمة لتواجد إرهابي بالمنطقة سياسي وعسكري، فهل ستكون تونس العاصمة السياسية للخلافة وليبيا العاصمة العسكرية لها؟.
فمثلا العماليات الموجعة التي قام بها تنظيم داعش في مناطق مختلفة من شمال إفريقيا مثل منطقة سيناء المصرية والتي أدت إلى مقتل أكثر من 30 شخصا، ثم عملية الفندق في طربلس والتي راح ضحيتها 10 قتلى من بينهم أشخاص من البعثة الأممية، كذلك عملية مدينة غريان الليبية التي راح ضحيتها 43 جنديا ليبيا والعملية التي كادت أن تضرب تونس العاصمة في أبرز مكان على مقربة من وزارة الداخلية وغيرها من الضربات التي مست المغرب ومدنا في بلدان شمال إفريقيا، أليس كل ذلك مؤشرا خطيرا على أن مهام داعش قد بدأت في المنطقة على عديد الأصعدة وبخاصة الجانب العسكري، وربما تشهد المنطقة تغيرات وتحولات جيواستراتجية خطيرة وتدخلات إقليمية ودولية.
وبداية من شهر ديسمبر 2017 حوصرت أطماع داعش في ليبيا كما تم تضييق الخناق هناك على جماعة عقبة وأنصار الشريعة ، لذلك يبدو أن ملاذهم هو جنوب تونس الذي يعتبر حلقة هشة يسيطر عليها أكبر بارونات المهربين وخاصة تجار السلاح الذين كبرت تجارتهم وأصبحوا يتعاملون مع أكبر تجار السلاح في العالم وكذلك مع “داعش”، وبهذا تمّ العمل على الجنوب التونسي سياسيا ليبقى دائما في اضطراب وغير مسيطر عليه إلى جانب مساعي من بعض القوى الخارجية لإبقاء تونس في حالة اضطراب سياسي واجتماعي واقتصادي لكن دون أن تسقط.
كذلك لا ننسى أن الأطماع تتجه نحو الجزائر كجزء من لعنة الثورات العربية كما قال “ليفي برنار” يجب أن يشمل الربيع العربي الجزائر، وهو ما يجسد أقذر المؤامرات التي يمكن ان تحاك على بلدان شمال إفريقيا ليطلق عليها اسم “الحديقة الخلفية لداعش” ولضرب استقرار كل الدول العربية و تحطيم الجيوش العربية التي لها تاريخ.
إذن وكأننا اليوم أمام جزء متقدم من العملية التنفيذية لمشروع الدولة الإرهابية في شمال إفريقيا بدئً من الساحل الصحراوي وصولا إلى الضفاف الشمالية المتوسط، في ظل الإنتخابات الرئاسية والتشريعية التونسية والإضطرابات في الجزائر والحرب في ليبيا والمشهد الهش في السودان والتململ في المغرب،مما يوحي بأن العملية قد بدأت في المنطقة.
وهذا ما نبه إليه “دافيد كامرون” بأن خطر الدولة الإرهابية بات يتقدم وبسرعة إلى شمال إفريقيا وحاضنته ليبيا وبالتالي يقترب من أوروبا باعتبار أن الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط هي على مسافة قريبة من أوروبا. فالمليشيات المسلحة الليبية وإخوان ليبيا والفرق الإرهابية من القاعدة إلى داعش يريدون التوسع في الجنوب التونسي ليجدوا المتنفس من حالة الحصار والضربات القاسمة للجيش العربي الليبي، في حين تعلن أمريكا وبصورة علنية أنها لا يمكنها إرسال جنودها إلى بؤر الإرهاب لأنها تريد أن يبقى المشهد على ما هو عليه بينما الأوضاع في الخليج العربي تبعث على القلق، لذلك ربما يُوكل الموضوع بالوكالة إلى تركيا لحراسة وتأمين إمدادات النفط الليبي وقد لا تتدخل أمريكا في بعض مراحل الصراع إنما سيكون تدخلها للحسم وفي الفترة الأخيرة منه، وستترك الوضع يتعفن أكثر فأكثر بليبيا و بالمنطقة ككل.
فهل يمكن أن تحدث الفوضى وأن تتلقي تونس ضربات إرهابية في ظل هذه الأوضاع غير مستقرة؟ الرسالة الأخطر التي أعتبرها هامة جدا من خلال نتائج الإنتخابات الرئاسية هي السيطرة من خلال دينامكية سياسية خطيرة جدا وتمكّن ميداني رهيب اشتغلوا عليه منذ 7 سنوات وخاصة في السنوات الأربع الأخيرة.. لربما هم يسكنون معنا وبيننا ونحن لا نعرفهم وهذا هو الأخطر.
و السؤال المطروح اليوم و في ظل هذا المشهد الضبابي المخيف والمحيّر: ما هو التموقع الحقيقي للتطرف ولداعش في تونس ونحن نعلم جيدا أن أكبر نسبة إرهابيين هي من التونسيي،وقد عاد الكثير منهم إلى تونس وانغمسوا داخل المجتمع في حين يوجد الكثير من الشخصيات “الأبواق” السياسية والناشطين داخل المجتمع المدني التونسي تدافع عنهم ؟
فهل خرج هؤلاء للتصوت و اختاروا الرئيس القادم لتونس؟ ثم تلك المجموعات التي رجعت من سوريا و العراق و الذي برأهم القضاء و رجعوا بيننا وقد تلطخت أيديهم بالدماء والقتل هل لا تزال لهم علاقات مع قادة داعشيين؟
و لماذا رجعوا من بؤر التوتر؟ هل فعلا تابوا ؟ هل توجد أيادي تونسية متورطة و تهيأ للإرهاب في تونس ؟ هل هناك تجربة سياسية داعشية تطبخ في المطبخ التونسي لتعمم بعدها على دول عربية؟ نرجع إلى ليبيا لنربط الأحداث ببعضها..
هناك ارتباط كبير ووثيق بين ما يحصل في تونس في هذه الفترة من تحولات جيوسياسية وانتخابات رئاسية وتشريعية و بين ما يحدث في ليبيا على مستوى التحولات الجيوعسكرية، فمثلا ، يعرف عن داعش في ليبيا بأنها غير مسيطرة تماما لكنها تحاول السيطرة وفرض قانونها الإرهابي وخاصة بوضع جماعتها على طول الشريط الساحلي في ليبيا وهذا معطى جد خطير لما سيحدث في المنطقة في الفترة القادمة وخاصة بنسب تأثيره على المشهد الإقليمي ككل.
وكما نعلم جيدا فإن الذي حصل ويحصل في ليبيا ليس بالفوضى العابرة بعد سقوط النظام أو بعد ثورة، بل إن كل الأيادي والمخابرات العالمية التي لها مصلحة من قريب أو بعيد قد تدخلت لتصبح قاعدة تدريب وتجنيد وتهريب للأسلحة لاستخدامها في أي مكان آخر في المنطقة وخاصة تونس و الجزائر و مالي و النيجر و لتشكيل جماعات تابعة لها.
كما أن ليبيا أصبحت أكبر قاعدة عسكرية تدريبية لجماعة القاعدة بفروعها الثلاثة وهي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب وكتيبة الملثمين بالجزائر..
هذه الفروع قد انشأت قواعد تدريب بليبيا، و أسست علاقات كبرى مع الجهاديين المحليين مثل جماعة أنصار الشريعة خاصة أن مجموعات كبيرة منهم قد فرت من مالي على أثر الضربات الفرنسية واحتضنتها ليبيا، بالإضافة كذلك قام جهاديون من تونس باستخدام ليبيا كقاعدة للتدريب في طريقهم للقتال في سوريا و ربما العودة للقتال، كما يدعون إلى “فتح تونس” وعددهم كبير بفوق ألفا وخمسمائة إرهابي تونسي دُربوا في ليبيا.
ولا ننسى أن عدم الإستقرار والفوضى في ليبيا قد أثارت إعجاب وجاذبية “البغدادي ” وأنصاره حتى أنه قام بإرسال نائبه” أبو علي الأنباري” ليعلن درنة إمارة داعشية حيث استحوذ داعش على مدينة درنة التي يقطنها أكثر من مائة ألف ساكن قبل أن يحررها الجيش الوطني الليبي، وكذلك إعلان البغدادي عن أن منطقة شمال إفريقيا هي الحديقة الخلفية للدولة ،كما لا ننسى اليوم هذا التطعيم الخطير لأجنحة القاعدة بالمنطقة بعناصر داعش الإرهابية المحترفة للقتال والتكتيك العسكري والسياسي.
فهل ستؤثر التغيرات والتحولات الكبرى السياسية في تونس على الوضع الإقليمي؟
وهل ستجد العناصر الإرهابية الأرضية لتتحرك بحرية وتفرض قوانينها؟ فالبغدادي لم يتمالك نفسه أمام إغراءات الفوضى الليبية وثرواتها التي يمكن أن يستغلها فيما بعد، واتبع بذلك نفس اللعبة التي مارسها على سوريا للتأكيد على وجوده، بعد بدء الإرهابيين الليبيين الذين قاتلوا في سوريا في لواء التيار التابع لداعش في العودة بأمر من البغدادي، كذلك الأمر بالنسبة للذين أمرهم البغدادي بالعودة إلى تونس تحت غطاء إعلان التوبة لكنهم قد يستعدون وينتظرون الإشارة للإستيلاء على مناطق حدودية مع ليبيا والجزائر في محاولة لخلق فوضى وتقسيم المنطقة، وخاصة ليبيا نظرا لأهميتها البترولية والغازية وما يمكن أن يكون لذلك من انعكاسات على مصر.