أخبار العالمأنشطة المركزبحوث ودراسات

من مبادرة الحزام والطريق إلى الحوكمة العالمية: أبعاد رؤية الصين للمستقبل المشترك

نظم المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية ورشة عمل أمس الخميس 16 أكتوبر 2025 تحت عنوان “مبادرة الحوكمة العالمية للرئيس شي جين بينغ: قراءة في أبعادها الإستراتيجية ودلالاتها في التحولات الجيوسياسية الراهنة”، وشاركت الأستاذة صبرين العجرودي بمحاضرة علمية بينت فيها أهمية المبادرة والتسلسل الزمني للمبادرة من الحزام والطريق وصولا الى الحوكمة العالمية.

نص المحاضرة: من مبادرة الحزام والطريق إلى الحوكمة العالمية: أبعاد رؤية الصين للمستقبل المشترك

طرحت مبادرة الحوكمة العالمية التي دعا إليها الرئيس الصيني شي جين بينغ رؤيةً متكاملة لإعادة صياغة قواعد التفاعل الدولي بما يتجاوز منطق الهيمنة القطبية الواحدة. فقد أثبت النظام الأحادي القطبية، الذي ساد بعد الحرب الباردة، محدوديته في التعامل مع الأزمات المعقدة، إذ عمّق فجوات التنمية، وكرّس التفاوت بين الشمال والجنوب، وأضعف قدرة المنظومة الدولية على تحقيق العدالة والشمول.

سعت الصين من خلال رؤيتها إلى إرساء نموذج جديد للعلاقات الدولية يقوم على التشاور الواسع والمنافع المتبادلة والنتائج المربحة للجميع، أي على مبدأ “المجتمع ذي المصير المشترك للبشرية”.

هذه المقاربة لا تنفي وجود القوى الكبرى، لكنها تسعى إلى تحويل تنافسها من صراع صفري إلى تعاون منظم يخدم الاستقرار العالمي. فالحوكمة العالمية، من منظور بكين، لا تعني إلغاء السيادة أو فرض نمط واحد من القيم، بل إعادة توزيع الصوت والتمثيل داخل المؤسسات الدولية بما يعكس التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة.

ويمثل هذا التحول في جوهره رداً عملياً على إخفاقات النظام الأحادي الذي احتكر القرار واحتكم إلى منطق القوة على حساب العدالة الدولية. إذ تقترح الصين نظاماً يقوم على التعددية القطبية المنفتحة، حيث تتكامل القوى الإقليمية الكبرى في إدارة الملفات المشتركة مثل الأمن، والمناخ، والتنمية، دون وصاية أو إقصاء.

كما تسعى الحوكمة العالمية، في بعدها الأخلاقي، إلى ترميم الثقة بين الدول عبر تعزيز الحوار الحضاري واحترام الخصوصيات الوطنية، وهو ما يجعلها إطاراً لتقويض النزعات الانعزالية وإحياء التضامن الإنساني. بذلك، تتحول الحوكمة العالمية من مجرد آلية تنظيمية إلى مشروع حضاري شامل يعيد التوازن للنظام الدولي ويمنحه بعداً أكثر إنصافاً وتشاركية.

من التعاون الاقتصادي إلى الشراكة الحضارية

قدّمت مبادرة الحزام والطريق نموذجًا رائدًا للتعاون الدولي يرتكز على المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة، بعيدًا عن منطق التبعية أو الهيمنة.
لم تقدم الصين نفسها كقوة متفوقة تفرض إرادتها، بل كشريك يسعى إلى ربط الشعوب والقارات عبر التجارة، والبنية التحتية، والتبادل الثقافي، ما يعزز التفاهم والتقارب بين الدول.

ومع توسع المبادرة وامتدادها إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا، بدأ يتضح في الفكر الصيني إطار أوسع للحوكمة العالمية، يقوم على مبدأ توزيع المسؤولية والمشاركة الفعلية في صنع القرار الدولي، بحيث تُتاح لكل دولة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فرصة المساهمة في رسم السياسات العالمية.
وهكذا تحوّلت المبادرة الاقتصادية تدريجيًا إلى رؤية حضارية شاملة، تعكس التزام الصين بتعزيز التوازن والعدالة والاستقرار في النظام الدولي، عبر دمج البعد الاقتصادي بالبعد السياسي والثقافي والاجتماعي.

الحوكمة العالمية كبديل عن النظام الأحادي

ترى الصين أن النظام الأحادي القطبية الذي تشكّل بعد الحرب الباردة لم يعد قادرًا على تلبية حاجات العالم المعاصر.
فقد أدت سيطرة قوة واحدة على القرار الدولي إلى تفاقم الأزمات والحروب، وتراجع الثقة في المؤسسات الدولية، وغياب العدالة الاقتصادية.
ومن هذا المنطلق، تدعو الحوكمة العالمية إلى تعددية قطبية متعاونة، تُوزَّع فيها المسؤوليات ويُتَّخذ القرار عبر التشاور، لا عبر الإملاء.
إنها تسير في منحى مغاير تمامًا للأحادية، إذ تركّز على الشراكة والتوازن، وتمنح كل طرف حق المساهمة في إدارة الشأن العالمي بما ينسجم مع مصالح الجميع.
وتعتبر الصين أن هذا التحول لا يعني تفكك النظام الدولي، بل تحريره من التمركز والهيمنة، وإعادة بنائه على أسس الاحترام المتبادل والمساواة في السيادة.

مزايا الحوكمة العالمية في فكر الصين

تقدّم الحوكمة العالمية — كما يراها الرئيس شي — عدّة مزايا استراتيجية للنظام الدولي:

  1. العدالة والتوازن: فهي تضمن توزيعًا أكثر إنصافًا للموارد والفرص بين الدول.
  2. الاستقرار والأمن: لأنها تقوم على الحوار والتعاون بدل الصراع والمواجهة.
  3. الوحدة في التنوع: إذ تحترم خصوصية كل دولة وثقافتها مع الحفاظ على هدف مشترك هو التنمية العالمية.
  4. التكامل الاقتصادي والبيئي: حيث تشجع على مواجهة التحديات المشتركة كالتغير المناخي والفقر والأوبئة بروح المسؤولية الجماعية.

هذه المزايا تجعل من الحوكمة العالمية نموذجًا واقعيًا لعصرٍ لم يعد يحتمل الانقسام أو الإقصاء.

نحو مجتمع المصير المشترك للبشرية

تبلغ رؤية شي جينبينغ ذروتها في فكرة مجتمع المصير المشترك للبشرية“، التي تعبّر عن الإيمانٍ بأن مصير الشعوب مترابط، وأن التعاون هو السبيل الوحيد لضمان التنمية والسلام، والإستقرار العالمي وليس فرض “السلام الغربي الأمريكي” بالعنف.

فالعالم في نظر الصين لم يعد ساحة صراع على النفوذ، بل فضاءً للتكامل الإنساني، وحوارا للحضارات المتنوعة، حيث يتحول مفهوم القوة من السيطرة إلى المسؤولية المشتركة.
وهكذا تتجسّد الحوكمة العالمية كدعوة إلى توحيد الجهود العالمية ضمن تعددية متكاملة، تجمع بين تنوع القوى ووحدة الهدف.

نحو نظام دولي أكثر إنصافًا وإنسانية

من خلال هذا المسار، يتضح أن الانتقال من الحزام والطريق إلى الحوكمة العالمية ليس مجرد تحوّل في السياسة الخارجية للصين، بل تعبير عن رؤية حضارية لعالمٍ جديد يسوده التوازن والاحترام المتبادل.
إنها دعوة إلى تجاوز منطق الأحادية والهيمنة، وبناء نظام دولي يقوم على العدالة والوحدة والمسؤولية المشتركة.
وفي هذا الإطار، تسعى الصين إلى أن يكون المستقبل مشتركًا في المصالح، متوازنًا في القوة، وإنسانيًا في الجوهر — وهو ما يشكّل جوهر الحوكمة العالمية كما تراها بكين.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق