من قيصر إلى “قوانين الفتنة الأبدية”: كيف صاغوا قانون تجويع السوريين باسم العدالة

الدكتور بسام أبو عبد الله قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 03-10-2025
منذ أن طُرح قانون “قيصر” قيل لنا: إن الهدف ليس الشعب السوري بل “معاقبة نظام الأسد”. كرروا هذه الأسطوانة البالية حتى صدّق بعض البسطاء أن واشنطن فجأةً تحوّلت إلى جمعية خيرية للعدالة الدولية.
واليوم، وبعد أن انهارت الليرة، وسُحقت معيشة الناس، وتحوّل الخبز إلى كنز، والدواء إلى حلم، صار بعض من ساهموا في صياغة القانون يتباكون كالأطفال، ويقولون: “لقد أصاب القانون الشعب السوري”.
لكن ما يثير السخرية حقاً أنهم هم أنفسهم الذين هرولوا إلى الكونغرس، وشاركوا في صياغة القانون، وروّجوا له، وصفّقوا حين أُقرّ، ثم تركوا الشعب في حفرة عميقة، وجاؤوا اليوم يذرفون دموع التماسيح وكأنهم لم يوقّعوا بأيديهم على صك التجويع. فبأي وجه يتباكون الآن؟
البداية: صور قيصر وجلسات الكونغرس
قانون “قيصر” لم يهبط فجأة من سماء واشنطن، بل بدأ بقصة فريد نداء المَذهَن، المعروف بـ”قيصر”، الضابط المنشق عن الشرطة العسكرية عام 2013، الذي حمل معه آلاف الصور من المعتقلات السورية. في 31 يوليو 2014، عُرضت هذه الصور أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، تحت عنوان “Assad’s Killing Machine Exposed” لم يكن “قيصر” وحده، بل كان إلى جانبه رجل لعب دوراً أخطر: معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لمنظمة Syrian Emergency Task Force، الذي قدّم نفسه كمترجم للشاهد، بينما كان في الحقيقة العقل المدبّر والعرّاب الذي فتح أبواب الكونغرس لهذا الملف، ورتّب لقاءات وصاغ الحجج السياسية التي تحولت لاحقاً إلى نص قانون.
من صاغ القانون في واشنطن؟
في 2017–2018 صاغت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب التقرير الأول، ثم في 8 يناير 2019 قدّم السناتور الجمهوري James Risch مشروع القانون (S.52) في مجلس الشيوخ، بمشاركة الديمقراطي Bob Menendez والجمهوري Marco Rubio. هؤلاء ليسوا محايدين ولا حقوقيين، بل من أشد أصدقاء “إسرائيل” في الكونغرس، ومن أشد المتحمسين لتدمير الدولة السورية وتحويلها إلى حزام أمني لصالح تل أبيب.
في ديسمبر 2019، وقّع ترامب القانون ضمن قانون الدفاع الوطني، ليدخل حيّز التنفيذ في يونيو 2020.
إذن، القانون لم يكن لحظة إنسانية، بل قراراً استراتيجياً صاغته واشنطن وتل أبيب معاً، بغطاء سوري شكلي.
اللوبي السوري – القطري
لم يكن معاذ مصطفى وحيداً، فقد تحركت منظمات مثل Syrian American Council، وSAFMCD، و”الائتلاف الوطني” بقيادة أنس العبدة الذي صرّح يومها بأن القانون “يستهدف النظام فقط”. لكن خلف هذه الواجهة، كان هناك تمويل قطري سخي ضخّته الدوحة عبر جمعيات ولوبيات في واشنطن، لتعزيز نفوذها السياسي، وتقديم أوراق اعتمادها لدى الأميركيين على حساب دم السوريين.
بكلمة أخرى: واشنطن أعطت التوقيع، وتل أبيب باركت الهدف، والدوحة دفعت الفاتورة، بينما الشعب السوري وحده من جاع.
الكارثة التي صنعها القانون
منذ لحظة تطبيقه، النتائج كانت مدمّرة:
- انهيار العملة السورية بشكل غير مسبوق.
- تضاعف أسعار المواد الغذائية 3 و4 مرات.
- نقص الدواء والمعدات الطبية، وحرمان آلاف المرضى من العلاج.
- شلل شبه كامل في الكهرباء والنفط والتصدير.
- تجميد مشاريع إعادة الإعمار، وهروب أي مستثمر محتمل.
- توسّع الفقر ليشمل أكثر من 90% من الشعب السوري.
أي أن القانون لم يعاقب النظام كما وعد أنصاره، بل عاقب الشعب
صحيح أن ملف حقوق الإنسان في سورية لم يكن مثالياً، وهناك انتهاكات حقيقية، لكن لنسأل: هل واشنطن، التي قصفت فيتنام، واحتلت العراق، وأحرقت غزة، أحد همومها حقوق الإنسان؟
أم أن هذا الملف مجرد شماعة رخيصة لتحقيق أهدافها؟
كل الدلائل تقول إن “الإنسان” في الدول الأخرى هو آخر ما تفكر به أميركا، أما أولوياتها فهي: مصالحها الاستراتيجية، وأمن إسرائيل، وإبقاء سورية ضعيفة ومنهكة.
أين هم اليوم؟ ولماذا لا يُرفع القانون؟
اليوم، يخرج ترامب بوعود وردية: “سأرفع قانون قيصر”.
لكن أين أولئك الذين هللوا وصاغوا ووقّعوا؟
لماذا لا يملكون الجرأة ولا القدرة على رفعه بعدما صار وصمة في جبينهم؟
الجواب واضح: لأن القانون لم يُسنّ لأجلهم، بل لأجل مصالح أميركا وإسرائيل. كانوا مجرد أدوات، أعطوا الغطاء السوري، ثم رُكنوا على الرف بعد أن استُخدموا.
الثمن المطلوب لرفعه
لا يُرفع قانون قيصر مجاناً. رفعه مشروط بـ:
- تغيير سياسي وفق الرؤية الأميركية.
- قطع العلاقة مع إيران وحزب الله، وحركات المقاومة.
- ضمان أمن إسرائيل على حدود سورية.
- فتح السوق السورية أمام الاستثمارات الغربية بشروط إذعان.
هذا هو الثمن الحقيقي الذي لم يجرؤ أحد من صانعي القانون على قوله للشعب.
لقد أثبتت السنوات أن من صنعوا قانون قيصر لم يكونوا سوى أدوات في مطبخ واشنطن، يطبخون الوصفة المسمومة باسم “العدالة”. قانون قيصر لم يكن نصاً مكتوباً في الكونغرس فقط، بل نصاً محفوراً في ذاكرة السوريين: نصّاً من الجوع، والمرض، والذل.
وإذا كان كل طرف يريد أن يسن قانوناً باسم ضغينته، فلماذا لا نرى قريباً قوانين جديدة بأسماء المذابح أو القبائل القديمة؟ ربما يسمونها “قانون بني أمية”، أو “قانون حرب الطوائف”، أو “قانون الفتنة الأبدية”. أليس هذا ما قادونا إليه: عبث لا ينتهي، يشرّع الجوع والدمار تحت لافتة العدالة؟