أخبار العالمبحوث ودراسات

مستقبل العالم الجديد: انهيار القطبية الأحادية

تتميّز السياسة الدولية بالتجدد والتغير الدائم فليس هناك عناصر أو أدوات ثابته تحكم سيرورتها او تسيّرها باتجاه معيّن أو مجموعة من الاتجاهات الاخرى، وقد فرضت الحرب الباردة هذه الحقيقة، فشهد النظام الدولي تغيّرا كاملا على مختلف المستويات، حتى أنّ الاطراف لم تعد نفسها والموارد لم تعد المحرّك الوحيد للكسب وبلوغ الاهداف، فقد فرض عصر العولمة ذلك الغموض في خوض الصراع، لأننا لم نعد ندرك جيّدا بأي اتجاه ستتحرّك الامور في ظلّ التواتر السريع للأحداث وفي ظلّ تعدّد العناصر التي يمكن تحليلها لفهم هذه التغيرات، وبطبيعة الحال تكون هذه العناصر إمّا سلبية أو إيجابية، علنية أو سرية، سلمية أو حربية، اقتصادية أو سياسية، وتقف ورائها وتشكّلها مؤسسات دولية تتخذ طابعا رسمي أو خفي تسيّر الفضاء الدولي وتخلق منه في معظم الأحيان جملة من التناقضات التي يصعب فهمها أو الربط فيما بينها لفهم منطق التحولات وقراءة أحداث المشهد الدولي دون طرح أسئلة استفهامية.

ومع ذلك فإنّ هنالك عنصرين تقليديين يحكمان المشهد الدولي، يمكن بالاستناد إليهما فهم مختلف التناقضات وتصنيفهما بالاعتماد على التباين الكامن في المصالح وتضاربها، ويتمثّل هاذين الاتجاهين في: “حلف وارسو” و”حلف الناتو” وتتميّز علاقتهما بالصراع الدائم حول النفوذ، بحيث تكون أوجه الصراع مكشوفة رغم ما تحيط بيه من عناصر سرية معظمها مرتبط بوكالات الاستخبارات وتقنياتها التقليدية.

كيف يمكن تحديد النظام الدولي الحالي؟

وماهي الاطراف والاشكال الجديدة للصراع؟

يُعبّر مفهوم النّظام الدولي عن عدّة عناصر متشابكة ومتداخلة فيما بينها، أحيانا تكون متجانسة وأحيانا متنافرة، وهي تتفاعل فيما بينها وفقا لعديد المتغيّرات الناتجة عن تأثيرات خارجية أو داخلية، وبصفة عامّة فهو يلخّص العلاقات الدولية بكلّ ما تنطوي عليه من خصال وسمات معيّنة في فترة معيّنة.

تحتلّ هذه العناصر مراتب غير متساوية ومتباينة في النّظام لذلك قد يكون الصراع وعدم الثّبات سمة بارزة فيه، ويمكن اعتبار هذا الصراع والتغير تحدّيا مباشرا للعنصر المهيمن فيه (النّظام الدولي)، باعتبار انّ الصراع يعني عدم قبول هذا النهج الدولي ممّا سينجم عنه المساس بمصالح القوّة المهيمنة، لذلك ستسعى الاخيرة لاعتماد عديد الاستراتيجيات والاتجاهات حتى تحافظ على مكانتها ويخلّص ذلك السياسة الخارجية، وهذا ما تقوم به الولايات المتحدة الامريكية للحفاظ على هيمنتها  ونهجها الأيديولوجي، حيث انّها تقوم ببناء مؤس سات اقتصادية وسياسية ومنظمات اقليمية أمنية مكرّسة ايديولوجيتها الليبيرالية، وهي بذلك تبني النّظام الدولي محيطة مصالحها بهذه المؤسسات التي تعتبر بمثابة الدرع الذي يحمي اهدافها ومصالحها.

ويعني ذلك، أنّ الصراعات الحالية هي بمثابة مساعي أمريكية للحفاظ على النفود باعتماد الكثير من العناصر المتنوّعة منها المؤسسات والقواعد العسكرية والمنظّمات والتكنولوجيا … التّي تمارس تأثيرا على سلوك الدّول، وتمثّل بعض ردود الافعال تحديا واضحا للنّظام الدولي الذي يحمي منطق القطبية الاحادية، فشرعيّة النّظام الدّولي تُستمدُّ من تفكير الدول بأنّ مشاركتها فيه سيضمن لها الاستفادة، لكن هناك بعض العوامل التي يمكن أن تضعف نظاما ما وهي الاختلافات الاقتصادية والايديولوجية والاجتماعية التي يجمع فيما بينها، فهو لا يعتبر كلاّ متجانسا، بل متكوّن من العديد من الوحدات، أي مجموعة من الانظمة الفرعية ذات المستويات والنّطاقات المختلفة، ويثير هذا الاختلاف الكبير مشكلة عميقة، بحيث كلما تعدّدت عناصر النّظام و أشكالها اختلفت تأثيراتها، ويكوّن ذلك تلك التّحديات المختلفة والمتباينة حسب المصالح والاهداف، وبالتالي سيتوجّب على السياسات الخارجية الامريكية أن تكون متناغمة مع كل مشكلة ناجمة عن كلّ نظام فرعي من النّظام الدولي، ولتحديد سياسات مستقبليّة أكثر استجابة لتطلعاتها تقوم الولايات المتحدة الامريكية بالتدقيق في مدى نجاعة آليات النّظام في الماضي وعلى ضوء ذلك يقع التغيير والاصلاح.

تعتبر قضيّة الهرمية الدولية ضمن النّظام الدولي قضيّة تاريخية، اثّرت بعمق على السياسات الامريكية ومختلف مساراتها وجعلتها متذبذبة ومتغيّرة، لكنّ ذلك لا يلغي وجود بعض السّمات الثابتة التي من أبرزها “مشروع فرض الهيمنة” ودعم فكر “القطبية الاحادية” إلى جانب اتجاه اخر وهو “المشاركة في صياغة النظام الدولي وقيادة العالم”، لأنّ الامور لن تكون دائما في صالح الولايات المتحدة الامريكية خاصّة في ظلّ التغير العميق في موازين القوة العالمية، وذلك يعني ظهور عناصر منافسة.

يشير الباحث ورئيس مركز الإعلام والدراسات العربية-الروسية ماجد بن عبد العزيز بن ناصر التركي ضمن مقاله بعنوان “فلاديمير بوتين … ومستقبل العالم الجديد” الى أربعة عناصر رئيسية تلعب دورا رئيسيا في رسم ملامح العالم الجديد:

  1. منظمة شنغهاي للأمن والتعاون (The Shanghai Cooperation Organisation): منظّمة أوراسية دولية تجمع بين ثلاثة جوانب مختلفة “سياسية، اقتصادية، وأمنية”، تضم سته دول، وهي: الصين، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان وأوزبكستان.
  2. طريق الحرير الصيني الذي ينطوي على العديد من التحالفات الدولية المؤيدة لأهدافه والأخرى المعادية والرافضة لمبادئه، لما له من تأثيرات سلبية على نهج القطبية الأحادية ومصالحها الاقتصادية، خاصّة بعد إدراجه ضمن دستور جمهورية الصين الشعبية في عام 2017. 
  3.    بريكس ((BRICS والذي يضم سته دول متمثّلة في” الصين، روسيا، الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل، وتنوي عديد الدول الأخرى الانضمام الى مجموعة تحالف البريكس بتقديمها مطالب من أجل ذلك.
  4. أوبك (organization of the petroleum Exporting Countries)، تعد أهدافه اقتصادية بامتياز باعتبار أنّها تتمحور حول آليات ضبط اتجاهات سوق الطاقة العالمي والتوازن المتكافئ بين العرض والطلب بما في ذلك ضمان أسعار عادلة بين المنتج والمستهلك، إلاّ أنّ هناك بعض التأثيرات الناجمة عن عدم ثبات مواقف الدول الأعضاء.

ويشير الباحث، إلى أنّ دور هذه المنظّمات يظل محدودا في إحداث تغييرات جذرية ما لم تنضوي في منظومة متكاملة ذات قرارات سيادية عليا، فهي بمفردها لن تحقّق سوى جملة من التأثيرات الطفيفة وسيكون نسقها في تحقيقها محدودا وبطيئا جدّا بحسب التركي، مقابل فعالية الأدوات التقليدية الأخرى المعتمدة في التكتيكات الغربية.

  1. المؤسسات المالية التقليدية الخاضعة لنفود الجهة الغربية والتي تتمحور أهدافها حول تحقيق مصالح الغرب، بحيث يسيطر الدولار على الحركة الاقتصادية الدولية.
  2. تآكل المؤسسات الأممية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن) بسبب خضوعها للهيمنة الغربية وجعلها تنئ عن مسارها الطبيعي في تحقيق العدالة لصالح تحقيق المصالح الغربية.
  3. المؤسسات الحقوقية المنسجمة مع القيم الغربية والضامنة لاستمراريتها بمختلف أجنداتها الاجتماعية والثقافية والدينية.
  4. استبعاد الرأي الآخر المخالف للأيديولوجية الطاغية بسبب غياب جانب الإشراف عليه ضمن منظومة متكاملة “سياسية عسكرية اقتصادية” تضمن الموازنة في المواجهة. 
  5. تخوف الكثير من القيادات السياسية والاكتفاء بالمراقبة الصامته للتغيرات السياسية والجيوسياسية في المشهد الدولي.

إنّ العناصر الفرعية في النّظام الدولي لن تكون بمنأى عن الصراعات بين عناصر القوى الكبرى، بحيث ستتأثر وتنتج عناصر اخرى تؤثر بدورها على العلاقات بين هذه العناصر الفاعلة فيه، لذلك فإن خاصية العزلة صعبة التّحقق في النظام الدولي الحالي، حيث أنّ جميع الابعاد والمجالات تتداخل، لكن درجة التأثير والعلاقات ليست بنفس الدرجة ومثال على ما تمّ ذكره، هو التداخل الحاصل بين الابعاد المحلية والدولية، كما أنّ اتجاهات الصراع في النّظام الدولي ليست خاضعة لمبدأ النّظام أو التناسق فهي واسعة النطاق.

وتوجد علاقة حتمية بين ثلاث متغيّرات، وهي التغير المتواصل لأطراف القوة وتسارع نسق انتشارها على المستوى العالمي، تحوّل أسباب الصّراع وبالتالي اتجاهاته، والتحول الذي يمكن أن يحصل في الهرمية الدولية. كلّ هذه العناصر غير ثابته ومتحوّلة، فتغير القوى العالمية سيؤثّر على مناطق انتشارها نظرا في أنّ المصالح والايديولوجية والاهداف ليست نفسها، بالتالي فإن مضامين الصراع ستكون أيضا مختلفة.

أصبح الاتجاه الطاغي في الصراع بين أطراف النّظام الدولي، هو اعتماد القوة الناعمة، توظيف المشاريع والمحاربة بالعلاقات والتحالفات والمساومة والتهديد وكذلك اللجوء لنظام العقوبات والتضييق، توظيف القوة النووية للتخويف، التحريض…  مع عدم اعتماد القوة العسكرية أو الحرب المباشرة إلاّ نادرا، وهو ما يمكن تسميته التحول من استخدام القوة التقليدية الى الغير تقليدية، من خلال التّركيز على استغلال التكنولوجيا المعرفة، المال والاعلام وغيرها من العناصر الاخرى التي تلعب دورا هامّا في التأثير.

كمالم تعد عناصر القوة حكرا على بعض الدول أو هدفا يصعب تحقيقه، بل عملية انسياب هذه القوة من دولة الى اخرى اصبح أمرا غير مستحيل، وهو ما يضفي سمة التغير وعدم الثبات في النظام الدولي، حيث خرج النّظام العالمي اليوم من الشكل التقليدي للصراع، و دخل في أوج الصراع “المعولم”، أي لا توجد نهايات واضحة ويمكن لقوى صغيرة الظهور في النظام الدولي على حساب القوى الكبرى نتيجة سوء استغلال عناصر القوة لمواردها، و ينطبق ذلك على الولايات المتحدة الامريكية بحيث عملت قديما على الحفاظ على مكتسباتها العسكرية وأتاحت الفرص لدول اخرى على غرار روسيا و الصين في بناء كيانها في ذلك الوقت.

أمّا بعض القوى الدولية الصغيرة، فقد غيرت مسارها نحو خلق مناطق نفوذ اقليمية متعارضة مع الولايات المتحدة الامريكية في مناطق النفوذ الكبرى مما أدّى الى احتدام الصراع وخلق حرب باردة، بالتالي فإنّ العولمة قد أثرت بشكل كبير على النظام الدولي نتيجة عدم وجود مجالات ثابته للصراع، حيث أصبح التنافس إقليميا وأثّر ذلك بدوره على المجال المحلي.

ونستخلص إذا بأن الصراع لم يعد تقليديا أي بين دولتين، فقد أصبح النظام العالمي يحتمل عدّة عناصر مختلفة ومتباينة، كما أصبح التنافس عابرا لكل المجالات ولم تعد عناصر القوة التقليدية بتلك الجدوى التي كانت عليها سابقا، فقد ظهرت عناصر اخرى تمتلكها أطراف محدودة القوى توظّفها لصالحها ضدّ القوى الكبرى، و يبرز ذلك سير النّظام الدولي نحو التعددية القطبية وبروز عوامل قوّة اخرى مختلفة تماما عن القوة العسكرية ولها قدرة على الانتشار بصفة كبيرة جدا، ويقود ذلك الى تداخل كبيرة بين ما هو دولي، إقليمي، ومحلي نتيجة تقاطع المصالح بين مختلف الاطراف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق