“محبو روسيا”… لعالم متوازن تسوده العدالة والقيم الروحيَّة
د. زياد منصور
قسم الدراسات والبحوث والعلاقات الدولية 04-03-2024
حمل الحدث الدولي الذي حصل في موسكو، في السابع والعشرين من الشهر الفائت، دلالات مهمة لجهة وضع أسس لمواجهة “حماة الروس فوبيا عبر العالم”، ومواجهة التوجهات الليبرالية للنخب الحاكمة في الغرب، كما عبَّر عن ذلك المشاركين في “منتدى التعددية القطبية” والمؤتمر الدولي لحركة “محبي روسيا”، وكذلك المنظمون وخلفهم ملايين الناس عبر المعمورة، الذين “يتشاركون في هدف مشترك، ورغبة في مواجهة هستيريا الخوف من روسيا، التي يغذيها أعداء روسيا في المجالات كافة، من خلال نشاط فكري بنَّاء وإبداعي مشترك، نشاط لا يهدف إلى تقويض العلاقات بين الثقافات التي تطورت على مر القرون كما يجري اليوم، ولكن يسعى إلى تعزيز وتقوية جسور العلاقات بين البلدان كافة”.
والمقصود هنا ليس فقط العلاقات الديبلوماسية وما لها وعليها، ولكن أيضًا العلاقات الشَّعبية، وعلاقات المنظمات الاجتماعية والمدنية التي ترى أنَّ إقصاء حضارة ما، واعتبارها حضارة بربرية وهمجية دون وجه حق، هو مجرد تخرُّصات ويحمل أهدافًا إيديولوجية.
لنتصور مثلاً أنَّ هناك بعض الغرب لا يزال يعتبر المواجهة مع روسيا هي مواجهة مع الاتحاد السوفياتي السابق، في خلط فكري عجيب ينم عن ضيق أفق، أو ربما هو أمر مقصود لإنعاش فكرة الحروب والعنف في العلاقات الدولية، وعدم الأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب وأمن الدول، ورغبة هذه الشعوب في بناء ثقافتها وحضارتها كما ترغب وتريد…
لقد اعتبر المشاركون في هذا الحدث أنَّ مشاركة الشعب الروسي والحكومة الروسية هذه الهواجس هو واجب لاعتبارات عدة، وهو أنه لا يمكن اليوم حل النزاعات عن طريق الهيمنة “مهما اختلفت رؤية بعض الدول لما يجري في أوكرانيا، حيث لم تؤخذ الهواجس الروسية بعين الاعتبار” فجرى التنكر لها، وبرأي هؤلاء.
فإنَّ هذا هو تعبير عن منطق الأحادية والتفرد، ولا يتوافق مع منطق الحوار وحل النزاعات عن طريق التفاوض وأخذ مصالح دولة كبرى بعين الاعتبار، وهذا ما دفع المشاركون للإعلان جهارا ودون أدنى تردد في الوقوف بجانب روسيا وبجانب طموحات ممثلي الدول المشاركة وممثلي قطاعات واسعة منها، كي لا يكونوا هم أيضًا عرضة لما تتعرض له روسيا من محاولة اغتيال لتاريخها وثقافتها إذا صح التعبير، ولذلك كانت المشاركة مهمة في لحظة حاسمة.
فلكل من هؤلاء المشاركين ودولهم معركته الخاصة ويقاتل من أجل هدف خاص هو حماية تراثه وثقافته، وأمنه، وصون العلاقات الإنسانية، وحماية الأسرة والعائلة.
من المعلوم أن روسيا تقاتل كما تقاتل هذه الشعوب وهي اليوم في الجبهة الأمامية من أجل الحقيقة والعدالة، من أجل الكرامة والإنسانية. فجميع المشاركين على وعي تام بأنهم في خندق واحد من أجل مستقبل أوطانهم وشعوبهم وعائلاتهم وأطفالهم.
ودون شك فإن الحدثين والمقصود منتدى التعددية القطبية، والمؤتمر الثاني للحركة الدولية “محبو روسيا” أظهرا أسئلة مفاهيمية مثل مفهوم “الجنوب العالمي، والهندسة العالمية المتغيرة”، و”الغرب بعد الهيمنة”.
وهل من الممكن إنقاذ الحضارة الأوروبية؟
وما هو “دور الصين في عالم متعدد الأقطاب”.
والأهم تمَّت مناقشة قضايا إعادة المواطنين إلى وطنهم، والقيم التقليدية والحفاظ عليها، ومواجهة الحرب المعلوماتية الهجينة والجيل الخامس، وغيرها من المواضيع التي تحتل أولوية في حياة شعوب العالم، بل هي بمثابة هواجس في مستقبل قاتم، حيث طُرحت جملة كبيرة من الأفكار البناءة، وطرحت حلول، أهمها التركيز على حماية العادات والتقاليد وتعزيز القيم الإنسانية والدينية، وحماية الثقافات من همجية الثقافات الأخرى التي هدفها تقويض وهدم البنيان الاجتماعي لغالبية الدول تحت مسميات مختلفة.
باختصار لقد اجتمع في موسكو الأشخاص الذين يتطلعون إلى بناء عالم جديد متعدد الأقطاب.
تجدر الإشارة إلى أنَّ هؤلاء من مشارب فكرية وإيديولوجية مختلفة من الراديكاليين الماركسيين إلى رجال دين، وما يتوسط بين هؤلاء من مفكرين وكتَّاب ليبراليي النزعة، لكن هؤلاء متشابهون في التفكير، من ذوي التفكير المماثل أرادوا القول إلى أنه لدينا فكرة.
نعمل على تطويرها ونبحث عنها وهي حماية الناس والحضارات والثقافات ومنع الهيمنة والأحادية.
وهؤلاء الناس يمثلون حضاراتهم – الصينية والهندية والإسلامية والأفريقية وأمريكا اللاتينية. وهي الحضارات التي اعتبر المناقشون إنها حضارات بديلة للفكر الغربي المهيمن، رغم أن بعضهم يعترف للغرب بحضارته، ولكن برأيهم وجب على الغرب فعل ذلك، أي أن يكون هو أيضًا ضد فكرة الإلغاء والتقويض والنبذ والعزل، هؤلاء يبحثون أيضًا عن أفكارهم الخاصة. ما يوحدهم هو الرفض بشكل قاطع للهيمنة والعالم الأحادي القطب.
لقد رأى هؤلاء أن العالم بالفعل أصبح بحاجة إلى إنهاء حالة أحادية القطبية التي أثبتت عدم جدواها، فالعالم بحاجة إلى التعددية، إلى علاقات ونماذج أخرى في العلاقات، لا يمكن أن يقود السفينة ربان واحد، فهناك مجموعة تريد أن تصل بالكون بحجم مشاكله الكبرى إلى بر الأمان من خلال التعاون والتفاعل والانفتاح، وعدم استخدام القوة وفرض الإرادة الواحدة، ولذلك فإن الحاضرين في موسكو عبروا بوضوح عن أنهم لا يريدون هذه الهيمنة، بما في ذلك بالمناسبة مشاركين وممثلين لعدد من الدول الغربية أنفسهم (الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وتركيا وغيرها) الذين أتوا إلى موسكو.
هؤلاء ما يسمى بالنخب المضادة، لقد قال هؤلاء إنَّ هناك نخبًا حاكمة – أنصار العولمة، وهناك نخبة عالمية مضادة، وهم من الأشخاص الذين يتمتعون بإمكانات فكرية وأكاديمية وتعليمية وإرادة ومعرفة هائلة، ولا يتفقون مع الطبقة الغربية الحاكمة.
لقد اجتمعت هذه النخبة المضادة من أجل بناء معايير عالم متعدد الأقطاب، ويعملون على خلق عالم جديد، ليس فقط مجرد شعار بل من خلال فعل مثابر.
لقد شكل مؤتمر “محبي روسيا” حدثًا كبيرًا، وهو محطة في المواجهة الثقافية، التي تقول لا يمكن محاربة شعب ما، بتغييب مفكريه وكتابه وأدبائه، ورياضييه، وخصوصا الذين لهم اسم عريق في الوعي الفكري العالمي، لا يمكن أن تنتقم من دولة وشعب بحجب لغتها وملاحقة حتى من يتحدث بها، أو ينطق بهذه اللغة، فهل هذا لا يتناقض مع المبادئ التي وضعتها هذه الدول بنفسها تحت شعار حماية الحريات، إذ لا يمكن أن تقوم العلاقات الدولية على إقفال مكتبة أو مدرسة، أو معهد لأنه يدرس اللغة الروسية، مثلا…
لعل المشاركين كانوا على حق، إذ طرحت فكرة مفادها، أنه لنتصور أن روسيا مثلاً حجبت اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ومنعت تدريسها ومنعت الإتيان على ذكر شكسبير، وهمنغواي، وشوبنهاور، فهذا يسمى جنونا…
واللافت أن غالبية الشباب الروس المنظمين لهذا اللقاء كانوا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وهم ليسوا محافظين في الفكر، ولكنهم واعون جدًا إلى أهمية حماية لغتهم وثقافتهم، وهذا هو السمو في العلاقات الثقافية الذي لا يقوم على الترهيب اللغوي، والإقصاء والتحدي، ونكران القدرات الروحية الخلاقة للشعب الروسي وحضارته الروسية والسلافية.
أما الفكرة الثانية فهي أنه لا يمكن لعقل أن يفهم كيف تتم إزالة نصب تذكاري لدوستويفسكي، أو غوركي، أو بوشكين أو شولوخوف لأسباب غير واضحة وتتنافى مع معايير حتى منظمة الثقافة الدولية (اليونيسكو)، طارحين أسئلة عن دور اليونيسكو في هذا الصدد، إذ لماذا لا تتحرك هذه الأخيرة في مثل هذه القضايا، والجواب برأيهم لأننا نعيش في عالم أحادي القطب أليس كذلك؟
غالباً ما تقاس التأثيرات العالمية للدول بالقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، لكن بالنسبة لبعض البلدان، تعد القوة الثقافية، ومنها تطور الأدب والموسيقى، الطعام والأزياء والفنون، هي التي تُحدث التأثير الأقوى في العالم الأوسع، وهو ما تتفوق به روسيا لذلك جرى العمل على محاربة هذه الثقافة وإلقاء تهم جوفاء بحقها، مما يستدعي فك العزلة في هذه المجالات، التي هي عموما بعيدة عن السياسة وتحدياتها وسلوك القادة والحكومات ومواقفهم..
إن كل ما نراه اليوم هو انقسام البشرية. وإذا حدث توحيد فهو يجري على أساس التضاد والتنابذ، تحت شعار: “نحن نتحالف ضد من؟” ويكتسب هذا الاتجاه قوة ويهدد بتحطيم النظام العالمي المعتاد.
بهذا المعنى، أين هي الحرية مما يجري اليوم، وهل سبب ذلك هو فقط ما تقوم به روسيا في أوكرانيا هناك؟.
يبدو أن الحرية في فهم النخب الغربية تعني الالتزام الحر الإجباري بنماذجهم في فهم النظام العالمي ورؤيتهم الأحادية له. اليوم لا نجد أحدا يتحدث عن مصالح كافة البلدان والشعوب – فمصالح الشعوب والجنوب العالمي والشرق العالمي – ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار على قدم المساواة. واليوم أصبح الأمر واقعاً.
في كل ما يجري يبدو أن روسيا أصبحت الرائد في هذا الصراع، ولذلك يتم تدفيعها أثماناً باهظة من حصار وعقوبات، وقرارات تتنافى وقواعد القانون الدولي، والمسألة الأوكرانية تبدو ذريعة أكثر منها مسألة تضامن مع شعب واحتلال لدولة.
كما أنَّ روسيا تريد الأسرة كقاعدة لتنظيم المجتمع، ولا يعني أنها تناصر الفكر المحافظ، ووهناك من يفكر بالجنسانية والمثلية، وينسف القيم الطبيعية، وما خطَّته الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، وبالتالي تبدو مهمة ملحة التركيز على قضايا تحمي روحانية المجتمعات وتحمي الأسر والأطفال والآباء والأمهات، وتستخدم الفكر الإنساني وابداعاته لمصلحة البشرية، ولا على تقويض قيمها.
على هذا الأساس نرى اليوم الاهتمام الروسي بمسألة صوغ نوع جديد من العلاقات مع كافة الدول، بما فيها علاقات ندية ومتوازنة مع العالم العربي، حيث اجتذب الشرق الأدنى والأوسط دائمًا اهتمامًا متزايدًا، وهو اليوم، محط أنظار القوى العظمى، وهناك العديد من النقاط الساخنة في هذا العالم العربي الغني بالموارد البشرية كما الطبيعية، وروسيا كدولة كبرى لها علاقات تاريخية ووريثة الاتحاد السوفياتي السابق لن تقف مكتوفة الأيدي حيال كل ما يجري في هذه المنطقة الضخمة والمكتظة بالسكان والغنية بالموارد الطبيعية..
إن القضايا المتعلقة بالأمن، والتهديد الإرهابي، والطلب المتزايد على موارد الطاقة لها أهمية كبيرة هنا. وليس من قبيل المصادفة أن هذه المنطقة بالذات كانت هدفاً لأكبر المبادرات الدولية في السنوات الأخيرة.
ويكفي التذكير بخطة الولايات المتحدة لإعادة البناء الديمقراطي لـ”الشرق الأوسط الكبير”، والتي انعكست لاحقاً في مبادرة مجموعة الثماني لـ”الشرق الأوسط الكبير”، فضلاً عن مشاريع الأمم المتحدة المختلفة الهادفة إلى تحفيز التنمية ومحاولة تحقيق التنمية، والقضاء على الفقر وعدم المساواة.
لقد أثبت تطور الأحداث بوضوح أنه لا توجد قوة، حتى قوة مثل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، أو حتى الصين، قادرة بمفردها على التعامل مع المشاكل الناشئة في هذه المنطقة الرئيسية.
إن روسيا في الشرقين الأدنى والأوسط ليست مجرد مراقب خارجي، بل إنها تتمتع باحترام كبير هنا. إذ تاريخيا بفضل القروض السوفياتية والمساعدة الفنية، تمكنت الدول العربية من بناء بنية تحتية كبيرة، وتحقيق إنجازات في مجالات الطاقة، والمعادن، ومرافق الصناعة الدفاعية، وغير ذلك من أطر التعاون.
كما تشهد المنطقة تطوراً سريعاً في سوق رأس المال، كما وتظهر مراكز مالية قوية. وفي الآونة الأخيرة، نشطت البحرين والإمارات العربية المتحدة، وقطر والمملكة العربية السعودية وقطر بشكل خاص في هذا الاتجاه، حيث تعتزم دوائرها الحاكمة تحويل بلادهم إلى مراكز تجارية ومالية رئيسية ليس لها أهمية إقليمية فحسب، بل أيضا أهمية دولية.
ولذلك هناك فرص حقيقية متاحة أمام روسيا لتوسيع التعاون الاقتصادي مع الدول العربية. نحن نتحدث عن التقنيات العالية والخدمات المصرفية وتوريد المنتجات المعدنية والمواد المخصصة للاستخدام الصناعي، فضلا عن نقل الخبرة التكنولوجية وخاصة في قطاع النفط والغاز، فضلا عن العلاقات الثقافية والتعليمية.
كما أن تكثيف التفاعل الاقتصادي بين روسيا والدول العربية له أهمية جيوسياسية هائلة.
أولا، روسيا راع مشارك معترف به دوليا لتسوية النزاع في الشرق الأوسط. إن الوجود السياسي للروس في المنطقة مستقر تمامًا ويلبي أهم مهمة للدولة الروسية- وهي لعب دور أحد الأقطاب في عالم متعدد الأقطاب.
وكانت الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط منذ شهرين ونيف إلى السعودية وقطر، تعتبر سبباً في زيادة نفوذ روسيا على المستويين الإقليمي والعالمي إلى حد كبير.
أما على المدى الطويل، فإن روسيا قادرة على لعب دور فريد في حماية مصالح الشعوب العربية على المستوى الدولي والمساهمة في منع نزوحها إلى هامش العالم الحديث، وهو ما يحدث في كثير من الأحيان.
فتحت شعار مكافحة خطر “التطرف الإسلامي” هناك قوى تسعى للرد على اشتداد الإرهاب الدولي بتقسيم جديد للعالم. الآن فقط من المفترض أن يتم رسم الحدود ليس على أسس إيديولوجية، بل على أسس حضارية. وتخاطر معظم الدول العربية بالوقوع في فئة الدول “المشبوهة”، أي تلك التي يُسمح باتخاذ كافة الإجراءات تجاهها، بما في ذلك التدخل المسلح المباشر في شؤونها الداخلية.
وتظل روسيا شريكاً جديراً بالثقة بالنسبة لأولئك الذين يعارضون الأحادية (متجاوزين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) وساعين لاستخدام القوة ضد أي دولة.
وفي القضايا الملحة، فإن مواقف روسيا والدول العربية متطابقة أو متقاربة جداً “القضية الفلسطينية”. إذ تدعم روسيا كما عدد كبير من الدول العربية فكرة التسوية العادلة للصراع في الشرق الأوسط على أساس قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصيغة مدريد “السلام مقابل الأرض”.
يبقى أن الموقف من النزاع في سوريا والسودان وغيرها، هي تعبير عن اختلاف الرؤى الجيوبولييتكية التي تنخرط فيه كل الأطراف دون استثناء، ودون شك لا بد من منح شعوب هذه البلدان الحق في تقرير شكل نظام الحكم الذي تريد، وتفعل وتطبيق القرارات الدولية، ورعاية كل جهد تقوم به الأطراف من أجل تحقيق ذلك.