مجلة فورين أفيرز الأمريكية: أوروبا تتخذ منحىً ترامبياً.. لكنها لا ترى ذلك
قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 11-09-2024
مجلّة “فورين أفيرز” تتحدث عن حالة من الذعر تسود أوروبا، عقب المكاسب الانتخابية الأخيرة التي حققها أقصى اليمين في القارة، وانعكاس ذلك على أمن أوروبا وعلاقاتها الخارجية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
تحدّثت مجلّة “فورين أفيرز” الأميركية عمّا وصفته بـ”قدَر لا يستهان به من الذعر يسود أوروبا”، عقب المكاسب الانتخابية الأخيرة التي حقّقها أقصى اليمين في فرنسا، والنجاحات في ألمانيا وإيطاليا وهولندا وأماكن أخرى في القارة، لافتةً إلى انعكاس ذلك على الأمن الأوروبي، وعلاقة الاتحاد بالولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وأوضحت المجلة، في مقال، أنّ هذه المكاسب، التي حقّقها اليمين، في العامين الماضيين، “أجبرت كثيرين من أنصار الاتحاد الأوروبي الوسطيين على الاستيقاظ على احتمال استيلاء اليمين على الاتحاد”، مُشيرةً أنّ هذا الأمر كان يُنظَر إليه، خلال فترةٍ طويلة، على أنّه “مستحيل من الناحيتين المفاهيمية والتطبيقية”.
من وجهة نظر هؤلاء الوسطيين، “تشكل القومية، التي يتبناها أقصى اليمين، تهديداً أساسياً لمشروع التكامل الأوروبي”، كما يُشكل أقصى اليمين، بالنسبة إليهم، “نوعاً من القوة الغريبة المناهضة للاتحاد الأوروبي، في طبيعتها”، على أساس مجموعة القيم التي أُسّس عليها الاتحاد.
غير أنّ هذا التفكير “يرتكز على سوء فهم أساسي لكل من أقصى اليمين والاتحاد الأوروبي”، وفق “فورين أفيرز”، فالحقيقة أنّهما “أكثر توافقاً ممّا يعتقد كثيرون”.
وبيّنت المجلة أنّ “نخب السياسة الخارجية الأوروبية بدأت تستيقظ ببطء على الطريقة التي يؤثر عبرها اليمين المتطرف في الاتحاد الأوروبي، بعد أن استخفت، فترةً طويلة، بتقديره”.
ولفتت إلى أنّ “الطريقة، التي تصوّر فيها هذه النخب الاتحاد الأوروبي، بصورة مثالية، وتتخيل اليمين المتطرف كياناً غريباً، تسيء فهم العلاقة بين الطرفين”.
الأمن الأوروبي
وتطرقّت المجلة إلى ما “يخلّفه صعود أقصى اليمين في أوروبا من آثار أيضاً في المناقشات الحالية، بشأن الأمن الأوروبي”، مع اقتراب الانتخابات الأميركية، واحتمال قدوم المرشح دونالد ترامب رئيساً لولاية ثانية.
وكشفت “فورين أفيرز” سلسلة من المقترحات “قُدِّمت إلى الأوروبيين، في الأشهر القليلة الماضية، بشأن كيفية الرد على رئاسة ترامب الثانية”، أو بشأن “كيف يمكن لأوروبا أن تكون محصَّنةً ضد ترامب”.
وعقّبت على ذلك بتوضيح مفاده أنّ “كثيرين من أولئك، الذين يقدمون هذه التوصيات، يتحدثون، بصورة عامة، عن أوروبا كما لو كانت جهة فعّالة موحَّدة ومحدَّدة بوضوح، في حين يميل عدد من المحللين إلى تجاهل التطورات السياسية في أوروبا ذاتها”، كأنّ “حكومة أقصى اليمين الوحيدة في أوروبا هي حكومة فيكتور أوربان في المجر”، في حين أنّ هناك آخرين موجودون، “بمن في ذلك رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، وربما يكون هناك المزيد في المستقبل”.
وأضافت أنّ النقاش الحالي في بروكسل والعواصم الأوروبية الأخرى، بشأن الحاجة إلى “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي وعدم الاعتماد على الحماية العسكرية للولايات المتحدة، هو “إعادة للنقاش الذي أثاره انتخاب ترامب في عام 2016”. فمنذ ذلك الحين، ركّز المحللون الأوروبيون، في الغالب، على آليات كيفية تحقيق ما يسميه الألمان “القدرة على التصرف”.
أحد الجوانب المحددة للمشكلة، وفق المجلة، هو أنّ المملكة المتحدة، التي تُعَدّ مزوداً أمنياً أوروبياً رئيساً، كما أظهر دورها في دعم أوكرانيا، “أصبحت الآن خارج الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يحدّ إمكانات الاتحاد كوسيلة لتحقيق الأمن الأوروبي”.
لكن المشكلة أعمق من ذلك، بحيث “يُظهر صعود أقصى اليمين في أوروبا أنّ الحصول على قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة ليس البديل غير المثير من المشكلات لحلف شمال الأطلسي، كما يفترض كثيرون في ضفتي الأطلسي”، وفق المجلة.
وبيّنت “فورين أفيرز” أنّ “ما قد يعنيه الاستقلال الاستراتيجي عملياً، بالنسبة إلى أغلبية البلدان الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، هو تبادل الاعتماد على الولايات المتحدة في مقابل اعتماد بعضها على البعض، وخصوصاً على فرنسا، القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي”، لكن احتمال تشكيل حكومة يمينية متطرفة في فرنسا – وهي نتيجة معقولة للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027 – “يجعل هذا النوع من الاعتماد على فرنسا أقل جاذبية ممّا كان عليه بالفعل، لأسباب ليس أقلها علاقات مارين لوبان العامة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.
وأضافت “فورين أفيرز” أنّه “قد يكون ممكناً تقديم حُجّة، مفادها أنّه سيكون من الأفضل للدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، أن تعتمد على لوبان بدلاً من ترامب من أجل أمنها”، وبصورة خاصة، “قد يزعم أنّ الدول الأوروبية سوف تتقاسم مصالح استراتيجية مماثلة، أياً كانت الأيديولوجيا التي تتبناها حكوماتها، الأمر الذي يُحدث تداخلاً من شأنه أن يجعلها شريكة يمكن الاعتماد عليها بصورة أكبر”.
لكن الاتحاد الأوروبي “ما زال يتصور نفسه مدافعاً عن قيم تتناقض مع قيم أقصى اليمين، وبدلاً من القول إنّ الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخلى عن تلك القيم، ويتّبع نهجاً قائماً على المصالح المشتركة، يبدو أنّ معظم محللي السياسة الخارجية يستبعدون ببساطة صعود أقصى اليمين، كما لو أنّ ذلك لا يحدث في أوروبا نفسها”.
اليمين يتأصّل
إنّ الاتحاد الأوروبي “أصبح فعلاً أكثر ميلاً إلى ترامب ممّا يدرك كثيرون من الأميركيين، وخصوصاً بشأن نهجه في التعامل مع الهجرة، فالاتحاد أيضاً كان يبني جداراً”، وفق “فورين أفيرز”، التي لفتت إلى أنّ الحدود الجنوبية للاتحاد “أكثر فتكاً من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة”.
“لقي أكثر من 30 ألف شخص حتفهم في أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2014، أي أكثر من 5 أضعاف عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم في أثناء عبور صحراء سونوران، أو نهر ريو غراندي (في الولايات المتحدة)، في الفترة نفسها”، بحيث إنّ “سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه المهاجرين هي ببساطة السماح لهم بالموت”، وفقاً لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”.
وفي هذا الصدد، “أدّى حزب الشعب الأوروبي، الذي ينتمي إلى يمين الوسط، دوراً في تعميم وتطبيع أفكار أكثر تطرفاً، وهو ما يشبه إلى حد ما الدور الذي أدّاه الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة”.
وبحسب المجلة، فإنّ الشخصية الرئيسة في هذا الأمر هي أورسولا فون دير لاين، الديمقراطية المسيحية الألمانية، والتي أُعيد انتخابها لولاية ثانية كرئيسة للمفوضية الأوروبية في يوليو الماضي، والتي أنشأت وظيفةً جديدةً للمفوض الأوروبي لتعزيز أسلوب الحياة الأوروبي بهدف تنسيق نهج الاتحاد تجاه الهجرة، عندما أصبحت رئيسة المفوضية الأوروبية للمرة الأولى في عام 2019″.
وأوضح هذا المكتب الجديد، سواء باسمه أو بعملياته، أنّ “الهجرة لم تكن مجرد مشكلة سياسية يصعب حلها فحسب، بل كانت أيضاً تهديداً ثقافياً لأوروبا”.
وأكدت المجلة أنّهم “يفشلون في رؤية مدى تأصل اليمين المتطرف في الاتحاد الأوروبي بدلاً من التهديد الخارجي له”، بحيث إنّ “الاعتماد على الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي، والتي لديها حكومات من أقصى اليمين، أو قد تتولى هذه الحكومات في المستقبل القريب، يهدد بخلق أزمة أخرى تماماً”.