“مثلث الموت” وغارة “غولاني” أنموذجاً..
اعداد الدكتورة سماهر عبدو الخطيب: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية 21-10-2024
تدحرج الصراع ما بين “إسرائيل” والمقاومة اللبنانية منذ منتصف أيلول المنصرم مع أحداث تفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية وما تبعهما من عمليات اغتيال استهدفت قادة النخبة في المقاومة وما تبعها من غارات عنيفة وفق ذرائع عارية عن الصحة جملة وتفصيلاً يقول بها “الإسرائيلي”، ومع العلم بأنه لا يحتاج لذرائع للقيام بالمجازر والجرائم ولكنه حاول يائساً بتلك الذرائع ضرب المعنويات لدى البيئة الحاضنة للمقاومة وتقليب المجتمع اللبناني على جمهور المقاومة و”الطائفة الشيعية” وبث الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد والطائفة الواحدة وعدم الوقوع بخانة الاتهام الدولي.. ورغم كل الضربات الموجعة التي تلقتها المقاومة ونالت من صميم العاطفة، ولكنها لم تنل من صميم عزيمتهم وإرادتهم بل فاضت تلك العاطفة ثأراً وقوةً وعزيمة وإرادة باستكمال ما بدأه الشهيد السيد نصرالله..
ومع إعادة ضبط إيقاع المقاومة بدأت صواريخها تدك معاقل الاحتلال العسكرية وكان أكثرها إيلاماً استهداف قاعدة “غولاني” والتي حتى القاطنين بالقرب منها لا يعلمون بوجودها، فكانت الضربة كما قال السيد نصرالله “من حيث يحتسبون وحيث لا يحتسبون” وكان التأكيد بأن المقاومة استعادت عافيتها وضمدت جراحها وعادت أقوى من ذي قبل..
وبالرغم من أن المقاومة خسرت الجولة الأولى “عاطفياً” وذلك حتى نكون منصفين ونوصّف الواقع بلا مرواغة استطاعت “إسرائيل” تحقيق بعض المكاسب عبر تحقيقها بنك أهداف وبسلسلة من الأحداث بدءاً من تفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية وما تلا هذه العمليات من سلسلة اغتيالات وعمليات عدوانية استهدفت قادة في المقاومة، وارتكبت العديد من المجازر بذرائع واهية، فقتلت عناصر في الجيش اللبناني وعناصر في اليونفيل، وفجّرت دور العبادة وحتى قوافل المساعدات لم تسلم من استهدافاتها وسط غياب الأمم المتحدة وعدم اكتراث الإسرائيلي بالقرارات الدولية في ظل توافق أميركي على الحرب على لبنان، ولكن الحرب جولات يوم لك ويوم عليك ..
واليوم بدأت تلوح بالأفق ملامح خسارة إسرائيل في هذه الحرب الوجودية التي حاولت ضرب القدرة العسكرية للمقاومة، ولكنها خسرت وبالتالي بدء الحديث دولياً عن القرار 1701 وهناك من بدأ “داخلياً” يطرح القرار 1559 والقرار 1680 وكل ذلك أمام صمود المقاومة والتفاف شعبها حولها فبدأ الحديث أيضاً عن معادلات المواجهة الجديدة.
معادلات المواجهة
باعتبار أن الميدان هو من يحكم المفاوضات فسنبدأ بمعادلات المواجهة الحالية فمنذ تاريخ 17 أيلول انتقلت جبهة لبنان من الإسناد إلى مواجهة عدوان إسرائيل على لبنان، وتجلت هذه المواجهة مع تجلي هذا العدوان باستباحة كل الخطوط الحمر والمحاذير الدولية، وعليه بتنا في مرحلة جديدة اسمها “مواجهة العدوان الاسرائيلي على لبنان”..
أما في المعارك الدائرة على الحافة الأمامية من كفركلا إلى العديسة وصولاً إلى مارون وميس الجبل فما أنجزته المقاومة في الميدان كان أكبر وأفضل من المتوقع إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ مهمام المقاومة كـ”فصيل” تختلف عن مهام “الجيش النظامي” وآلية عملها تختلف عن آلية عمله، وعليه فإنها ستلاحق العدو في أي مكان يحاول الوصول إليه وتلتحم بالمعركة لتكبيده أكبر الخسائر..
فكانت هذه الخسائر في أول أسبوعين الأول 55 قتيل و 500 جريح، و20 دبابة ميركافا و4 جرافات، وفي الأسبوع الثاني أيضاً تم إقرار معادلة جديدة اسمها “إيلام العدو” وتشبيك معادلات الدفاع مع الهجوم بتكتيك استراتيجي تعجز عنه أكبر جيوش العالم تنظيماً.
وصولا الى الأسبوع الثالث التي أعلنت فيه غرفة قيادة عمليات المقاومة الانتقال الى مرحلة جديدة من التصعيد بوجه الاحتلال، لا سيما بعد استخدمها صواريخ بالستية ودقيقة، وفي الوقت الذي يستبسل المقاومون في التصدي لمحاولات التوغل الإسرائيلي وينصبون لجنوده الكمائن تواصل القوة الصاروخية عملها لتدك النقاط العسكرية في الأراضي المحتلة فوصلت الصواريخ إلى حيفا وما بعد بعد حيفا ولم تقتصر على الصواريخ النوعية والبالستية بل استخدمت المسيرات التي وصلت إلى تل أبيب في غوش دان وما كانت “بنيامينا” سوى صورة مصغرة عن قرار المقاومة وقدرتها وإرادتها التي جعلت أكثر من مليوني “مستوطن” في الملاجئ ودوت صافرات الإنذار في أكثر من 198 مدينة وبلدة ضمن هذه المعادلة المعنونة بـ”إيلام العدو”..
كما نجحت المقاومة في تحويل “ثالوث القرى المقدس” في عيتا الشعب – راميا – القوزح إلى ملاحم بطولية، وتحوّلت محاولات التوغل الإسرائيلي إلى محاولات إنقاذ ما تبقى من جرحى جنوده لنقلهم إلى الأراضي المحتلة..
وكل هذه البطولات وغيرها توحي بأنهم يقاتلون وكأن السيد نصرالله معهم ويرشدهم ومن شواهد حضور السيد مع المقاومين هو بث الاعلام الحربي في المقاومة تسجيلا صوتيا لسماحته مساء الأحد 13-10-2024 بالتزامن مع بدء انطلاق صليات صاروخية، وأسراب من المسيّرات الى مناطق مختلفة من كيان العدو وصولاً لضرب قاعدة غولاني في بنيامينا حيث سقط ما يزيد عن مئة ضباط وجندي صهيوني قتلى وجرحى..
وهو ما دفع بتسليط الضوء من جديد على أن إسرائيل ومن يراهن عليها قد أخطأ بالحساب إذا ما اعتقد انه ربح المعركة او انه أنهى المقاومة، فرجال السيد نصر الله بالميدان يسطّرون ملاحم بطولية على درب تحقيق الوعد بالنصر المحتوم، واليوم هؤلاء الأبطال قالوا لنتانياهو وكل من يسوّق لمعادلات تحييد حيفا ان هذه المنطقة وما بعدها في مرمى نيران المقاومين طالما ان العدو لم يتوقف عن جرائمه وعدوانه.
وبطبيعة الحال طالما أن العدوان مستمر فإن “إيلام العدو” مستمر أيضاً، وبما أن الإسرائيلي فتح المعادلة ولم تعد مضبوطة بقواعد مستهدفاً كل لبنان فبالتالي يكون من البديهي وعلى قاعدة العين بالعين والبادي أظلم للمقاومة الحق باستهداف أي نقطة ضمن الكيان يراها مناسبة، وليس فقط حيفا أو ما بعد حيفا..
وهنا يسجل للمقاومة التزامها بقواعد القانون الدولي الإنساني التي ضربها الإسرائيلي بعرض الحائط، وإلى اليوم بنك أهدافها هو النقاط والقواعد العسكرية.. ولا بد من التنويه هنا إلى أن الصواريخ الإعتراضية الإسرائيلية التي تستخدمها لاعتراض صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة تسقط بقاياها على المستوطنين في البلدات والقرى المحتلة فتساعد المقاومة في تحقيق أهدافها في “إيلام العدو”..
وعليه فإنّ المقاومة قوية رغم الضربات القاسية واستعادت عافيتها الميدانية ورممت قدراتها التنظيمية وملأت الشواغر وما عملية “بنيامينا” التي استهدفت “عشاء غولاني” وكمائن “ثالوث القرى المقدس” في عيتا الشعب وراميا وقوزح، سوى أنموذج عن إدارتها للمعركة وإرادتها بالنصر ولا حل سوى بوقف إطلاق النار..
معادلات التفاوض
والتي يريدها الإسرائيلي تحت النار في محاولة منه الضغط على الساحة الداخلية واستجرار تنازلات من الحكومة اللبنانية عبر المزيد من الغارات الجوية التي تستهدف المدنيين بذرائع واهية والضغط عبر أدواتها في الداخل لتطبيق القرار 1559 والقرار 1680 وتسعى إلى تعديل القرار 1701 الذي لم يعد يكفي أطماعها في لبنان، ولكن الغباء الإسرائيلي هنا هو أنه كشف عن السقف الذي يريده في التفاوض مرفقاً بالكشف عن أدواته وحرق المراحل.
في المقابل ومن بديهيات العمل التفاوضي هو الغموض سواء بشأن القدرات التي يمتلكها المفاوض أو بشأن الخطط التي يبني عليها استراتيجيته أو حتى بما يتعلق بأدنى سقف يمكن الوصول إليه، بالإضافة إلى عدم حرق مراحل المفاوضات بالكشف عن أوراق المفاوض قبل الأوان، أو بتقديم تنازلات قبل الأوان، ناهيك عن أن التفاوض يكون على أعلى سقف، وفي كل تنازل عن السقف الاعلى يكون مقابل هذا التنازل ثمناً يريده المفاوض..
وهنا براعة المقاومة التي تتحكم بالمفاوضات عبر غموضها وعدم حرق مراحلها وتأكيدها أن أي عملية تفاوضية لن تتم حتى وقف إطلاق النار، وعليه فلن يستحصل الإسرائيلي أي تنازل يريده طالما لم يرضخ لوقف العدوان، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوراق الميدان تصرف في المفاوضات ومن يمتلك الميدان يفرض شروطه الأمر الذي لم ولن يتحقق مع إسرائيل التي لم تسجل أي ورقة رابحة في الميدان أمام بسالة أهل الأرض المقاومين على الحدود..
أما فيما يتعلق بمفاعيل القرارات الدولية آنفة الذكر ورداً على من يقول بأن المطالبة بالقرار 1701 تعني حكماً تطبيق القرار 1559و 1680 باعتبار أن القرار 1701 ينص على تطبيق القرارين السابقين فهنا يمكننا العودة إلى المفاعيل القانونية للقرار 1701 كأي قرار أممي آخر، والذي يطبق القاعدة بإدراج كل القرارات ذات الصلة التي سبقته، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك القرار رقم 252 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 21 أيار مايو 1968 والذي أكد فيه على القرار 2253 والقرار 2254 الصادرين عن الجمعية العامة آنذاك..
بالتالي فإن المطروح اليوم كـ”دس السم في العسل” هو ليس تنفيذ القرار 1559 ونزع السلاح، أو حصرية السلاح… إنما المطروح هو “تكليف جهة محددة” بتنفيذ هذا الأمر بـ”القوة” وهذا لم يرد في نص القرار 1701 وتجدر الإشارة هنا إلى المحاولة الفرنسية – الأميركية خلال عام 2006 قبيل انتهاء “حرب تموز” حيث أعد البلدان في الخامس من أغسطس مسودة لقرار أممي تقول بأن تأتي قوات متعددة الجنسيات الى لبنان لمهمة نزع السلاح ولكن هذه المحاولة فشلت ولم تتحول المسودة الى قرارآنذاك بل ما حصل هو الموافقة بالاجماع على القرار 1701 بصيغته الحالية دون منح اليونيفيل هذه الصلاحية.. وبالتالي فإن أي محاولة شبيهة ومشبوهة لتمرير قرارات أو تعديلات على القرار 1701، وإعطاء اليونيفيل أو اي قوة أممية “مستحدثة” صلاحيات “نزع السلاح” ستكون ذات مخاطر ووصفة لتوترات مستقبلية في لبنان، وعليه يجب التنبه لتلك المحاولات..
وفي المحصلة، ما بين معادلات المواجهة ومعادلات التفاوض تبقى الكلمة للميدان وتبقى القوة هي القول الفصل في الحاضر والمستقبل..