أخبار العالمأمريكابحوث ودراسات

مايلي وصناعة الأزمة: الأرجنتين نحو انفجار اجتماعي قريب

سياسات الرئيس الأرجنتيني، خافيير مايلي، وحكومته اليمينية المتطرفة قادت إلى تحول جذري في المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد مُحدِثةً تغيرات سلبية.

قدّم الرئيس الأرجنتيني، خافيير مايلي، موازنة عام 2025 إلى الكونغرس منذ أيام، مشدداً على التزامه بالقضاء على العجز المالي من خلال سياسات تقشُّفيّة صارمة، واتهم حكومة الرئيس السابق، ألبرتو فرنانديز، بسوء الإدارة الاقتصادية، وتعهّد باستخدام حق النقض ضد أي تعديلات قد تعرقل سياسته.

وقادت سياسات الرئيس مايلي وحكومته اليمينية المتطرفة، التي تحكم البلاد بعد نحو عقدين من الحكم اليساري لعائلة كيرشنير وتطمح إلى تحرير القطاعات الأساسية من الاقتصاد وتعزيز الاستثمارات الخاصة، إلى تحول جذري في المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد. ورغم تحقيق فائض مالي ضئيل، فإن سياسات مايلي أثَّرت بالسلب على الفقراء ومحدودي الدخل، وواجهت حكومته احتجاجات واسعة متواصلة، على مدار أقل من عام على فوزه بالانتخابات الرئاسية في 10 ديسمبر/ كانون الأول الماضي بنسبة 55.6% من الأصوات، وحتى اليوم.

احتجاجات متواصلة.. ومايلي يرد بتعميق سياساته


بعد عشرة أيام من تنصيب مايلي رئيساً للأرجنتين، خرجت احتجاجات واسعة النطاق داخل العاصمة، بوينس آيرس، في 20 ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي، اعتراضاً على تدابير التقشف الاقتصادية والإصلاحات التي قدمها الرئيس، وشهدت التظاهرات قمعاً أمنياً قوياً، حيث استخدمت الشرطة بروتوكول “مكافحة الاعتصامات” وهددت الحكومة بقطع دعم البرامج الاجتماعية للمحتجين. وفي الشهر نفسه، قدَّم الرئيس مايلي “المرسوم رقم 70 لعام 2023” الذي يهدف إلى فصل 7000 موظف من القطاع العام وإعادة صياغة قوانين العمل، وتمديد فترات الاختبار للموظفين الجدد، وتقليل مكافآت نهاية الخدمة، وتقييد حقوق الإضراب، ومنح أرباب العمل مزيداً من الامتيازات. وأطلق أيضاً برنامج “الإصلاح الاقتصادي” الذي يغطي مجموعة واسعة من القضايا، من إصلاحات قانون العقوبات وخصخصة أصول الدولة، بما فيها الطاقة والنقل والرعاية الصحية، إلى خفض ميزانيات التعليم العام وحماية البيئة.

واجه المرسوم والبرنامج انتقادات واسعة من النقابات العمالية والتنظيمات الاجتماعية، وسرعان ما خرجت تظاهرات تضم عشرات الآلاف، يوم 27 من الشهر نفسه، بقيادة نقابات عمالية كبرى اعتبرت أن هذه الإجراءات تقوّض حقوق العمال وتزيد من المصاعب الاقتصادية التي يعيشونها. وقابلت قوات الأمن هذه التظاهرات بالعنف. ولاحقاً، في مستهل يناير/ كانون الثاني العام الجاري، أوقفت “محكمة الاستئناف” تنفيذ الإصلاحات التي قدمها مايلي، مشيرة إلى أن الكونغرس يجب أن يوافق على تنفيذ المرسوم أولاً. ورغم ذلك، أكدت الحكومة نيتها استئناف العمل بالمرسوم واستكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي.

وفي 24 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، شهدت الأرجنتين إضراباً عاماً وطنياً تاريخياً في بوينس آيرس والمدن الكبرى الأخرى، نظمته اتحادات العمال الرئيسية في البلاد احتجاجاً على سياسات مايلي والمرسوم والبرنامج السابق ذكرهما وعدد من القوانين الجديدة التي دخلت حيِّذ التنفيذ. وجاء رد الحكومة بالمزيد من العنف والقمع والاعتقالات. وخلال الأسبوع الأخير من مارس/آذار الماضي، خرجت تظاهرات خلال الذكرى الثامنة والأربعين للانقلاب العسكري بقيادة الجنرال خورخي فيديلا، بدعوة من منظمات جماهيرية استنكرت تقليص مايلي “جرائم الدكتاتورية”، وأثارت المخاوف بشأن تفضيل الحكومة للقطاعات العسكرية، ومحاولة مايلي استقطاب عدد من القيادات العسكرية الكبيرة في سبيل إحكام قبضته على البلاد، وقوبلت هذه التظاهرات بالقمع أيضاً.

وتصاعد القمع الأمني للاحتجاجات، إذ استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والهرّاوات لتفريق احتجاج عمّالي، في 10 أبريل/نيسان الماضي، كانت قد نظمته بعض التنظيمات العمالية، بهدف الاحتجاج على نقص الغذاء الناتج عن تعليق برامج الرعاية الاجتماعية. وبعد ثلاثة أيام، شنَّت قوات الأمن مداهمات على منازل عشرات القادة الذين ينشطون في النقابات العمالية والحركات الاجتماعية واليسارية، ولفّقت لهم عدداً من التهم وألحقتهم بالمعتقل، في حين أصدرت تلك النقابات والحركات بيانات أدانت الاعتقالات بصفتها ذات دوافع سياسية وأفرطت في استخدام القوة، وتعهدت بمواصلة مقاومتها ضد “الروشتة الليبرالية الجديدة” التي تتبنّاها حكومة مايلي.

واستمرت الاحتجاجات وصولاً إلى 19 يونيو/ حزيران الماضي، حيث اندلعت الاحتجاجات في بوينس آيرس ومدن أخرى خلال مناقشة القوانين المصاحبة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في مجلس الشيوخ، وتعرَّض المحتجون إلى قمع عنيف وعشرات الاعتقالات من قِبل قوات الأمن. وأخيراً، في 2 سبتمبر/ أيلول الجاري، استخدم مايلي حق النقض ضد قانون يقترح زيادة المعاشات التقاعدية بنسبة 8.1%، مشيراً إلى المخاوف المالية، وبالرغم من التضخم المرتفع، زَعم مايلي أن القانون سيفاقم الديون والفقر، وقاد ذلك إلى احتجاجات جديدة، وقابلت قوات الأمن المتظاهرين المسنين بالغاز المسيل للدموع والهراوات، ما أدى إلى إصابة عدد كبير منهم.

إفقارٌ واستفحالٌ للتضخم

على الرغم من وعود الرئيس مايلي بالتعافي الاقتصادي من خلال تحرير الاقتصاد والخصخصة، فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية في الأرجنتين تستمر في التدهور. توضِّح التقارير الصادرة عن “مركز دراسات الاقتصاد الكلي” في الأرجنتين، أن البلاد عانت مزيداً من المشكلات خلال أقل من عام مضى على تنصيب مايلي رئيساً للأرجنتين، إذ ارتفعت نسبة التضخم وتزايدت معدّلات البطالة والفقر بشكل حاد.

بحلول مستهل العام الجاري، بلغت نسبة الأسر التي تكسب شهرياً أقل من 198000 بيزو (210 دولار) نحو 54.6%، مقابل نحو 39% خلال العام الماضي. وعلاوة على ذلك، دفعت البطالة والتضخم وانخفاض قيمة العملة المزيد من الناس إلى الفقر، حيث أصبح نحو 16.5% من السكّان يعيشون في فقر مدقع، وبلغت نسبة الفقر بين الأطفال نحو 65%، فيما بلغ معدل الفقر في العاصمة بوينس آيرس ما يزيد عن 57%، مقارنة بنحو 45% خلال العام الماضي. وبحلول الشهر الجاري، أصبح ما يزيد عن 73% من الأرجنتينيين فقراء، وانكمشت الطبقة الوسطى بنسبة تقارب 16%.

ويضاف إلى ذلك، أن الأرجنتين باتت تعاني، خلال العام الجاري، إحدى أعلى نسب التضخم في العالم، بواقع 271.5% على أساس سنوي، ونتيجة ذلك ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 450%، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 260%، وارتفعت أسعار المواصلات العامة بشكل كبير. وفي حين لا يزال الاقتصاد الأرجنتيني في حالة ركود، مع انخفاض متوقع في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.5% في العام الجاري، ارتفعت معدلات البطالة بين السكّان بواقع 7.7% خلال الربع الأول من العام الجاري، ولكن هذه النسبة تبدو منخفضة مقارنة بالحقيقة، وذلك بسبب حجم الاقتصاد غير الرسمي الذي يمثل، تقريباً، نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

انفجار اجتماعي في الأفق

تستند فلسفة الرئيس مايلي الاقتصادية إلى المدرسة الاقتصادية النمساوية، التي تدعو إلى حرية السوق والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني، وقد أدت هذه الفلسفة حتى الآن إلى تحرير واسع النطاق لمرتكزات اقتصاد البلاد مع خفض قيمة العملة، وتحقق ذلك على حساب تفاقم معدلات الفقر والبطالة والركود الاقتصادي. واليوم يواجه مايلي تحديات كبيرة في الكونغرس الذي يهيمن عليه معارضوه، مما يجعل تمرير موازنته للعام المالي الجديد صعباً في ظل الصراعات السياسية المستمرة.

تعكس الأحداث التي تلت فوز مايلي بالانتخابات الرئاسية مقاومة قوية لسياساته الاقتصادية والاجتماعية، وهذه الاحتجاجات والإضرابات التي تشهدها البلاد حتى اليوم تكشف عن عمق الاستياء من السياسات الحكومية وتأثيرها السلبي على الطبقة العاملة والخدمات العامة. ورغم احتفال إدارة مايلي بتمرير عدد كبير من السياسات التي اقترحها، فإن القمع العنيف للاحتجاجات قوبل بانتقادات شديدة من النقابات العمالية والحركات الطلابية والأحزاب والتنظيمات اليسارية، إلى جانب عائلات المعتقلين المطالبة بالإفراج عن ذويهم، ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات دولية.

في الواقع، تتشابه سياسات الرئيس مايلي مع الإدارات الليبرالية السابقة، مثل حكومة كارلوس منعم الذي ترأس البلاد بين عاميّ 1989 و1999، التي بدأت بتحقيق استقرار اقتصادي نسبيّ لتؤدي في النهاية إلى تفاقم الفقر والبطالة والاضطرابات الاجتماعية. ويحذر خبراء كُثُر من أن الأرجنتين قد تواجه أزمة مشابهة لما حدث في عهد الرئيس السابق فرناندو دي لاروا بين عاميّ 1999 و2001، فالسياسات الحالية دفعت جزءاً كبيراً من السكّان إلى حافة الفقر، وتعرضت لانتقادات العديد من النقابات العمالية والتنظيمات اليسارية التي ترى أنها تصب في مصلحة الأثرياء، وتؤدي إلى تفاقم أوضاع غالبية الأرجنتينيين.

التوترات المتصاعدة والتحديات السياسية التي يواجهها مايلي مع الكونغرس، إلى جانب تفاقم الأزمات الاقتصادية، تخلق بيئة مضطربة قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي قريب. إذا استمرت السياسات الحالية دون تعديلات جذرية، فإن الأرجنتين قد تواجه حالة من الفوضى الاجتماعية التي ستكون لها تداعيات خطيرة على استقرار البلاد ومستقبل المنطقة، في ظل الدور المحلي والإقليمي الرجعي الذي تلعبه حكومة مايلي في القارة اللاتينية.

المصدر: الميادين

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق