مارك فيشر: كتاب الواقعية الرأسمالية: هل من بديل؟

قسم البحوث والدراسات الإستراجية والعلاقات الدولية 17-10-2025
يرى مارك فيشر في كتابه ” الواقعية الرأسمالية ” أن الرأسمالية المعاصرة لم تَعُد مجرّد نظام اقتصادي أو سياسي، بل تحوّلت إلى أفق ذهني شامل يحدّد ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن تخيّله.
فمنذ عام 1989، ساد شعور عالمي بأن الرأسمالية النظام الوحيد الممكن. هذه الفكرة – التي تختزلها عبارة مارغريت تاتشر الشهيرة “لا بديل” (There Is No Alternative) – هي ما يسميه فيشر بـ الواقعية الرأسمالية.
الكتاب إذن تشريح لـ الهيمنة الثقافية والنفسية التي تمارسها الرأسمالية حين تُقدَّم كقدرٍ لا مفرّ منه. ويحاول فيشر، من خلال تحليل دقيق للمجتمع المعاصر، أن يبيّن كيف هيمنت هذه الواقعية جميع مجالات الحياة: العمل، التعليم، الثقافة الشعبية، وحتى الصحة النفسية.
المحاور الرئيسية
-
الرأسمالية كأفق لا يمكن تجاوزه
يبدأ فيشر بتحليل مقولة المفكر سلافوي جيجك: “من الأسهل أن نتخيل نهاية العالم من أن نتخيل نهاية الرأسمالية.”
هذه المقولة تلخّص، برأيه، الحالة الثقافية الراهنة: لقد نجحت الرأسمالية في جعل نفسها غير قابلة للتفكير خارجها. كل محاولة لتصوّر بديل تُقابَل بالاستغراب أو الاتهام بالرجعية.
وهكذا، لم تعد الرأسمالية تُبرّر ذاتها بالأيديولوجيا أو اليوتوبيا، بل بواقعية باردة تزعم أن لا شيء آخر يمكن أن ينجح.
في هذا السياق، يرى فيشر أن انهيار الشيوعية لم يؤدِّ إلى انتصار “الحرية”، بل إلى تضييق الخيال السياسي وانسداد الأفق أمام إمكانات جديدة.
-
الثقافة والإيديولوجيا بعد الحداثة
ينتقل فيشر إلى نقد الثقافة المعاصرة، وخاصة الإعلام والسينما والموسيقى، معتبرًا إياها مرايا للرأسمالية المتأخرة.
فالأعمال الفنية اليوم، كما يرى، لا تخلق جديدًا بل تعيد تدوير الماضي في شكل محاكاة أو حنين سطحي.
وهو يصف هذه الحالة باسم الزمن المحاكى (the slow cancellation of the future)؛ أي أنّ المستقبل نفسه أُلغي، وأصبحت الثقافة تدور في حلقة إعادة إنتاج مستمرة.
بهذا المعنى، تحوّلت الثقافة من أداة نقدية إلى منتج تجاري مفرغ من المعنى، وغدت الرأسمالية قادرة على امتصاص أي مقاومة وتحويلها إلى سلعة.
-
العمل والتعليم وإدارة الذات
يتناول فيشر بالتفصيل أثر الواقعية الرأسمالية على مجالي العمل والتعليم.
في عالم الشركات والبيروقراطيات الحديثة، يهيمن ما يسميه بـ الإدارة النيو-ليبرالية، التي تستبدل القيم العامة للمعرفة أو الخدمة بـ منطق الأداء والمنافسة والمساءلة الرقمية.
في المدارس والجامعات مثلاً، لم تعد الغاية تكوين الفكر أو الشخصية، بل تعبئة الطلاب كـ”رأسمال بشري”.
ويُدجَّن الأفراد منذ الصغر على قيم السوق: الإنتاجية، التسويق الذاتي، التقييم المستمر.
وهكذا تتشكل ذاتٌ مرهقة تُقاس قيمتها بمؤشرات الأداء، لا بالكرامة أو المعنى.
-
الصحة النفسية كأعراض اجتماعية
في فصل بالغ التأثير، يناقش فيشر علاقة الرأسمالية بالصحة النفسية. فانتشار القلق، في نظره، ليس مسألة فردية بل عرضٌ اجتماعي.
إلا أن النظام الرأسمالي يحرص على فصل هذه المعاناة عن أسبابها البنيوية: بدل تحليل الظروف الاقتصادية والسياسية التي تولّد القلق، يُعاد تعريف المشكلة باعتبارها خللاً كيميائياً في الدماغ يحتاج إلى دواء.
يقول فيشر: “إن تحويل الأسباب الاجتماعية إلى عللٍ فردية هو جوهر الواقعية الرأسمالية؛ فبدل مساءلة النظام، يُطلب من الأفراد أن يتأقلموا.”
-
هل من بديل؟
يختم فيشر كتابه وتحليله بتساؤل العنوان: هل من بديل؟
ويقرّ بأن تخيّل بديل للرأسمالية صعب، لكنه ليس مستحيلًا. فالمطلوب، في رأيه، ليس العودة إلى نماذج الدولة الشمولية القديمة، بل إحياء المخيلة السياسية التي تتيح التفكير في نظام آخر للعيش المشترك.
البديل لا يبدأ بخطة اقتصادية، بل بعملية تفكيك ثقافي ونفسي لإزالة الهيمنة التي تجعل الرأسمالية تبدو وكأنها “طبيعية”.
إنها دعوة إلى تحرير الخيال قبل تحرير السوق.
مارك فيشر: رغبة ما بعد الرأسمالية
كما صدر كتابا أخر تحت عنوان “رغبة ما بعد الرأسمالية” هو تجميع لمحاضرات المنظر السياسي البريطاني مارك فيشر الأخيرة قبل انتحاره في 2017، وفيه ينتقد فيشر المجتمعات الرأسمالية من داخلها ويبحث عن وسيلة لنجاة العالم من توحش الرأسمالية، فهو كتاب يفتح أفاق جديدة للنظر في مشكلات سياسية واقتصادية معاصرة يعاني من العالم اليوم.
بأسلوب سلس وطريف ومبسط لكونه محاضرة في الأصل، صدر الكتاب ضمن مجموعة كتب اقتصاد عن منشورات تكوين.
أهم محاور الكتاب
نبذة عن كتاب رغبة ما بعد الرأسمالية
قبل عطلةِ عيد الميلاد لعام 2016، أعطى مارك فيشر طلابه في جامعة “غولدسميثز” المحاضرة الخامسة من بين خمس عشرة محاضرةٍ قررها بنفسه.
لم يتوقع أحد أن تكون الخامسة هي الأخيرة، فقد انقطع مسار المساق الدراسي على نحوٍ مأساويٍ حين وضع المدوّن والمنظّر البريطاني (1968-2017) حدّاً لحياته تاركاً كتابه “شيوعية حبوب الهلوسة” جنيناً لم يكتمل.
يضمّ هذا الكتاب تلك المحاضرات الأخيرة، التي بدأها فيشر بالتساؤل حول معنى “ما بعد الرأسمالية”، واستمر بتتبع العلاقةِ بين الرغبة والرأسمالية، متوقفاً عند فرويد وماركوزه ولوكاتش وليوتار. نسمع صوت فيشر يائساً تارةً، وباحثاً عن الأملِ تارة، يستعيد إرث الثقافة المضادة من السبعينيات، ويفكّر في شبحِ عالمٍ كان يُمكن أن يكون حرّاً.
فُرّغت المحاضرات كما هي، نسمع ضحك فيشر، مقاطعة طلابه، زحزحة المقاعد، فتح الباب، ليعيش القارئ الأجواء الواقعية للمساق الذي أثار أسئلةً نظريةً وتاريخيةً إشكاليةً تخصّ عصرنا الحالي.
اقتباسات من كتاب رغبة ما بعد الرأسمالية
وجهة النظر ليست نفسها زاوية النظر يمكن لنا جميعاً أن نملك زاوية نظر، لكن وجهة النظر لا بد أن تبنى من خلال الممارسة، والطريقة السهلة لرؤية هذا كما أحسب هي من خلال مفهوم رفع الوعي.
الغرض الأساسي من الأيديولوجيا هو إغلاق إمكانية أن يكون أي شيء مختلف، هذه هي الأيديولوجيا من الألف إلى الياء، والخطوة الثانية هي أن تقوم بإخفاء نفسها، تقول الأيديولوجيا أنا طبيعة وهذه طبيعة الأشياء.
الخلاصة
يعود مارك فيشر في نهاية كتابه إلى النقطة التي بدأ منها: إن خطورة الواقعية الرأسمالية لا تكمن في سلطتها الاقتصادية، بل في قدرتها على احتكار الخيال.
ومن هنا، لا يكون التحرر السياسي أو الاقتصادي سوى أثرٍ لتحررٍ أعمق — تحرر المخيلة من أسر “الواقعي” الذي صاغته الرأسمالية على مقاسها.