أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

مؤشرات اندلاع الجولة الثانية من الحرب الإسرائلية الإيرانية

الملخّص

تشهد البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط مرحلة حرجة تتسم بتصاعد التوترات البنيوية، نتيجة إعادة تفعيل آلية الزناد وعودة العقوبات الدولية، إلى جانب التجارب الصاروخية الإيرانية وتفاقم النزاعات مع إسرائيل.

 وتعكس الهدنة القائمة بعد الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً حالة “سلامٍ مسلّح” هشّة، تتغذّى من تراكم أزمات سياسية وأمنية واستراتيجية، بما في ذلك تصاعد الخطاب العدائي، وتبادل التهديدات، وتسارع سباق التسلح، مع التوسع في مخزونات الأسلحة وتطوير القدرات الهجومية والدفاعية.

على المستوى  العسكري،  تتضمن  مؤشرات  التصعيد  التجارب الصاروخية الإيرانية العابرة للقارات، وإعادة بناء البنية التحتية للصواريخ، مقابل تعزيز إسرائيل لقدراتها الدفاعية والهجومية، بما في ذلك أنظمة القبة الحديدية، مقلاع داوود، وحيتس، والاستخدام المكثف للطائرات المسيّرة.

 وفي البُعد الدبلوماسي والاقتصادي، يشكّل تفعيل آلية الزناد وإعادة فرض العقوبات عامل ضغط إضافي، خصوصاً مع تهديد إيران بالانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ما يزيد حالة عدم اليقين الاستراتيجي.

والخلاصة تقول أنّ استمرار الهدنة الهشّة من دون معالجة الجذور البنيوية للتوتر بين إيران وإسرائيل، يرفع من احتمالات الانزلاق إلى مواجهة عسكرية أوسع في المدى المنظور، بما قد يترتّب عليه من تداعيات جسيمة على منظومة الأمن الإقليمي والدولي على حدّ سواء، ومن أبرزها زعزعة استقرار أسواق الطاقة العالمية، الإضرار بحركة التجارة الإقليمية، وإعادة تشكيل التحالفات الاستراتيجية بين القوى الكبرى.

 وعليه، تؤكد الدراسات أنّ المتغيرات العسكرية والسياسية المتسارعة تفرض ضرورة المتابعة الدقيقة للمؤشرات الميدانية والدبلوماسية، بما يتيح تقييماً واقعياً لفرص استمرار الهدنة أو انهيارها، ويدعم في الوقت ذاته تبنّي استراتيجيات شاملة للتهدئة والاحتواء، بهدف تقليص احتمالات التصعيد.

———————————-

مقدمة

شهدت العلاقات بين إيران وإسرائيل خلال السنوات الأخيرة مساراً متصاعداً من التوترات، بلغ ذروته في الحرب التي استمرّت اثني عشر يوماً، والتي شكّلت منعطفاً استراتيجياً في مقاربة تل أبيب العسكرية والأمنية إزاء طهران.

وقد أظهرت هذه المواجهة المباشرة هشاشة التوازن العسكري الإقليمي وقابليته للاختلال، كما أكّدت أن احتمالات التصعيد المباشر ما تزال قائمة. ويعكس ذلك طبيعة النزاع العميق بين الطرفين، نزاعاً يتجاوز الأطر التقليدية للحروب الإقليمية ليأخذ أبعاداً سياسية واستراتيجية ودبلوماسية أكثر تعقيداً.

إنّ الهدنة التي أعقبت تلك الحرب لا يمكن توصيفها على أنّها وقف إطلاق نار دائم، بل أقرب إلى حالة “سلام مسلّح” هشّ ينطوي على عوامل تفجير كامنة.

فالمقاربة الواقعية لطبيعة العلاقة بين الطرفين تكشف أنّ مصادر التوتر البنيوية لم تُعالَج، بل ازدادت تعقيداً بفعل تراكم الأزمات الأمنية والسياسية والاستراتيجية، ما يجعل احتمالات انهيار هذه الهدنة مرتفعة في أيّ لحظة.

 ويضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التصعيدي المتبادل بين القيادات الإيرانية والإسرائيلية، بما يتضمّنه من تهديدات صريحة باستئناف العمليات العسكرية، يعكس تحوّل الخطاب السياسي إلى أداة لتعميق النزاع بدلًا من احتوائه، فيما استغل الطرفان فترة الهدنة لتعزيز مخزونهما التسليحي وتطوير قدراتهما الهجومية والدفاعية، الأمر الذي حوّلها عملياً إلى فرصة لإعادة التموضع الاستراتيجي.

وعلى المستوى العسكري، أجرت إيران اختبارات متقدّمة على منظومات صاروخية بعيدة المدى، بعضها من طراز عابر للقارات، في رسالة ردعية واضحة لإسرائيل وحلفائها الغربيين.

 في المقابل، واصلت إسرائيل تحديث منظوماتها الدفاعية، وعلى رأسها “القبة الحديدية”، و”مقلاع داوود”، و”حيتس”، إلى جانب تعزيز قدراتها في مجال الهجوم الجوي بعيد المدى، في إطار ما يُعرف باستراتيجية “المعركة بين الحروب.”

وعلى الصعيد الدبلوماسي ـ الاقتصادي، جاء تفعيل آلية الزناد Snap-back) من جانب الترويكا الأوروبية بدعم أمريكي، وإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، ليشكّل عاملًا إضافياً في تكريس حالة التأزيم، خصوصاً مع تداول احتمالات انسحاب طهران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وهو ما يرفع درجة عدم اليقين الإقليمي والدولي على حدّ سواء.

وفي موازاة ذلك، تواترت تقارير عن إعادة بناء إيران لمنشآتها الصاروخية وتطوير بنيتها الإنتاجية واللوجستية في هذا المجال، الأمر الذي يعزز فرضية أنّ الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية قد تدفع إلى مزيد من التصعيد العسكري.

وبالنظر إلى هذه المعطيات، يمكن القول إنّ مرحلة ما بعد الحرب الأولى لم تكن مرحلة استقرار أو تسوية، بل فترة انتقالية مثقلة بمؤشرات اندلاع حرب ثانية أكثر اتساعاً ودماراً، بما تحمله من انعكاسات خطيرة على منظومة الأمن الإقليمي والدولي، ولا سيّما على استقرار أسواق الطاقة، وحركة التجارة الإقليمية، والتحالفات الاستراتيجية بين القوى الكبرى.

وانطلاقاً من هذا السياق، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل طبيعة الهدنة الهشّة بين إيران وإسرائيل، واستكشاف المؤشرات العسكرية والسياسية والدبلوماسية التي قد تفضي إلى اندلاع حرب ثانية. كما تسعى إلى تقديم قراءة استراتيجية للتوترات الراهنة وتقييم المخاطر المحتملة وتداعياتها الإقليمية والدولية، في ظل تعقّد الصراع وتشابك مصالح الفاعلين المحليين والدوليين.

وتأسيساً على ما سبق، تنطلق هذه الدراسة من ثلاثة أسئلة محورية رئيسة:

أولاً: لماذا يُنظر إلى وقف إطلاق النار أو الهدنة بين إيران وإسرائيل على أنّها هشّة وقابلة للانهيار في أيّ لحظة؟

 ثانياً: ما المؤشرات والدلائل التي تعزّز احتمالية تجدّد الحرب بين الطرفين رغم الهدنة القائمة؟

 ثالثاً: ما التداعيات الإقليمية والدولية المحتملة لاندلاع حرب ثانية بينهما، سواء على مستوى الأمن والاستقرار أو على صعيد الاقتصاد والتحالفات الاستراتيجية؟

المحور الأول: استراتيجية إسرائيل في مرحلة ما بعد حرب الاثني عشر يوماً

شهدت استراتيجية إسرائيل إزاء جمهورية إيران الإسلامية والبيئة الأمنية المحيطة بها تحوّلًا نوعياً بعد الحرب التي امتدّت اثني عشر يوماً؛ فقد انتقل الخط الأمني الإسرائيلي من منطق الرد الفوري المحدود إلى نهج هجومي متكامل يسعى إلى إعادة تشكيل الموازين الإقليمية وتعزيز التفوق الإسرائيلي.

هذا التحوّل ليس استجابة لحادث ميادينٍ لحظي فحسب، بل يعكس مشروعاً منظّماً يستند إلى مزجٍ بين أدوات عسكرية واستخبارية ودبلوماسية واقتصادية تهدف إلى تقييد قدرات طهران وتقليص نفوذها الإقليمي.

يمكن تقسيم معالم هذه الاستراتيجية إلى محاور مترابطة:

أولاً، كبح القدرات اللوجستية لإيران وشبكات نقل الأسلحة إلى وكلائها في لبنان وغزّة واليمن عبر تكثيف الضربات الجوية على القوافل والمنشآت اللوجستية، وتصعيد عمليات الاستخبارات والاغتيال السريّة في ساحات إقليمية.

ثانياً، العمل على تقييد البرنامجين النوويّ والصاروخي الإيرانيين من خلال سياسات من شأنها إيقاف تخصيب اليورانيوم وعرقلة إنتاج الصواريخ الباليستية وفرض تكاليف رادعة على الجهات المسؤولة عن هذه البرامج.

ثالثاً، الحفاظ على التفوّق العسكري والردع الفاعل عبر تحديث القدرات الهجومية والدفاعية، توسيع قدرات الضربات الجوية بعيدة المدى، وتعزيز القطاعات السيبرانية والهجومية الإلكترونية.

رابعاً، الحدّ من السلوك الإقليمي لطهران عبر سياسات استنزاف النفوذ وخلق بيئة إقليمية تقلّص من قدرة إيران على التحرك كقوّة محورية للمقاومة.

تتجلّى أيضاً عناصر التنفيذ في تبنّي عقيدة “المعركة بين الحروب”، التي تعتمد على ضربات متكررة وموجّهة منخفضة الحدة نسبياً لكنها مستدامة، تشتمل على هجمات إلكترونية، وعمليات تخريب للبنى التحتية، وحملات معلوماتية ونفسية، إلى جانب الضربات المادية المباشرة.

وتهدف هذه التكتيكات إلى إحداث اضطراب منهجي في سلاسل التزويد والإنتاج الإيرانية، وإطالة أمد برامج الردع لدى طهران أو إرباكها، بما يردعها عن اتخاذ خطوات تصعيدية كبرى.

من جهة الخطاب الاستراتيجي، تُصنّف إسرائيل إيران تهديداً وجودياً، وقد تجسّد ذلك في تصريحات عسكرية وسياسية تحدّثت عن حجم الصواريخ الإيرانية وإمكانية توسّعها، وفي مبادرات رسمية مثل مقترح “أرض وسماء آمنة”، الذي يضع شروطاً صارمة على طهران التوقف عن تخصيب اليورانيوم، خفض مدى الصواريخ إلى حدود معينة، ووقف دعم فصائل المقاومة، مع ربط التنفيذ بإشراف دولي ومهدد بالعقاب الفوري في حال الخرق.

ومع أنّ هذه الاستراتيجية قد تحقق نتائج ملموسة على المدى القصير في تعطيل بعض القدرات الإيرانية أو تأخير تطورها، إلّا أنّها تحمل مخاطر تصعيدية واضحة. فالاعتماد على الضربات المتقطّعة والعمليات السرّية قد يولّد ردود فعل انتقامية أو دفعاً نحو تسريع برامج التسليح الإيرانية، كما أنّ الضغط الدبلوماسي والاقتصادي بما في ذلك تفعيل آلية الزناد وفرض عقوبات قد يدفع طهران إلى خيارات ردٍّ مُعرّضة للمزيد من التصعيد.

خلاصة المحور:

تحولت استراتيجية إسرائيل في مرحلة ما بعد حرب الاثني عشر يوماً إلى نهج هجومي متعدد الأبعاد يهدف إلى تقييد القدرات الإيرانية وإعادة تشكيل بيئة النفوذ الإقليمي، وهي استراتيجية فعّالة نسبياً على المدى القريب لكنها تحمل في طيّاتها عوامل مخاطرة عالية قد تُسهِم في تفجير مواجهات أوسع ما لم تُصاحب بسياسات احتواء ودبلوماسية متوازنة.

المحور الثاني: الهدنة الهشّة بين إيران وإسرائيل

تُشكّل الهدنة الراهنة بين إيران وإسرائيل بعد الحرب الأخيرة إطاراً هشّاً، إذ أنّ استمراريتها ليست مضمونة، بل تتعرض لضغوط متعددة على الأصعدة السياسية والعسكرية والاستراتيجية.

ويمكن إرجاع هذه الهشاشة إلى أربعة عوامل مترابطة تتداخل في رسم صورة الالتزام المؤقت:

أولاً، غياب آليات المراقبة الفعّالة التي تفرض رقابة مستقلة وملزمة، مما يجعل الوفاء بالهدنة رهيناً بإرادة الطرفين وتقلّبات المعطيات الميدانية والسياسية؛

ثانياً، غياب النصر الحاسم لأي طرف، الأمر الذي ترك فراغاً استراتيجياً سمح بتكثيف التهديدات المتبادلة وزيادة حالة عدم الاستقرار؛

ثالثاً، إعادة ترتيب الأوراق من قبل الطرفين، إذ استُغلت فترة التهدئة كفرصة لإعادة بناء القدرات الدفاعية والهجومية واستعادة التوازن الاستراتيجي بدلًا من تحقيق تهدئة حقيقية؛

رابعاً، انعدام الثقة المتبادلة الذي يضفي على الهدنة طابعاً هشاً، ويجعل احتمال خرقها أو انهيارها قائماً في أي لحظة.

 السبب الأول: غياب آليات المراقبة

إن الهدنة التي أعلنت بين إيران وإسرائيل في 2 يونيو لم تكن ثمرة تفاهمات مسبقة أو تحضيرات دبلوماسية دقيقة، بل كانت نتيجة ضغوط دولية وأعلان مفاجئ تم بواسطة الوساطة الأمريكية، إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر منصة “تروث سوشيال” عن اتفاق يُفترض أن يكون “نهائياً” لوقف إطلاق النار لمدة اثنتي عشرة ساعة، معتبراً أن الصراع سيصل بعدها إلى نهايته.

 ومع ذلك، سارعت طهران إلى رفض هذا الإعلان بشكل مباشر، حيث أكّد وزير الخارجية عباس عراقجي أن لا اتفاق مسبق وملزم قد تم التوصل إليه، وأن إيران لن توقف عملياتها إلا بوقف العدوان الإسرائيلي أولاً1.

ورغم دخول الهدنة حيّز التنفيذ، تبادل الطرفان الاتهامات بالخرق منذ اللحظة الأولى، إذ أعلنت إسرائيل اعتراض صواريخ أطلقتها إيران، بينما نفت طهران ذلك تماماً، لترد إسرائيل بضربة جديدة تعكس هشاشة الاتفاق.

ويُؤكد هذا الواقع أن ما جرى لم يكن معاهدة رسمية أو اتفاقاً محدد البنود، بل كان تهدئة لفظية فُرضت بفعل وساطات هشة وضغوط دولية متلاحقة، حيث غياب أي آليات قانونية ملزمة أو مراقبة محايدة يجعل هذه الهدنة عرضة للانهيار في أي لحظة، ويحولها إلى وقف مؤقت هش وغير مستقر بطبيعته، بعيداً عن أي إطار قانوني أو تفاوضي مدروس.

السبب الثاني: غياب النصر الحاسم

لقد استمرت الحرب لمدة اثني عشر يوماً، ولم تُفض إلى انتصار عسكري أو سياسي واضح لأي طرف، على الرغم من محاولات إسرائيل الترويج لسردية مفادها نجاحها في ضرب أهداف داخل إيران، بينما أكدت طهران صمودها ونجاحها في صد الهجوم الإسرائيلي الأمريكي، ووجّهت لإسرائيل ما وصفته بـ “أقسى ضربة منذ تأسيس دولة إسرائيل.” ورغم هذا، لم تتمكّن إسرائيل من القضاء على البنية التحتية للصواريخ الباليستية الإيرانية، كما فشلت في الحصول على قرار دولي لإسقاط النظام الإيراني، الأمر الذي سمح لإيران بالاحتفاظ بقدرتها على استئناف برامجها النووية والدفاعية.

وكانت الهجمات الإسرائيلية تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية تتجاوز مجرد تدمير البنية التحتية النووية:

 أولاً، جذب الولايات المتحدة إلى صراع عسكري مباشر مع إيران،

ثانياً، اغتيال القادة الإيرانيين،

وثالثاً، تحويل إيران إلى حالة شبيهة بسوريا أو لبنان يمكن لإسرائيل قصفها بأمان ودون تدخل أمريكي.

 وقد تحقق من هذه الأهداف واحد فقط، وهو ما يُشير إلى محدودية النجاح العسكري والسياسي لإسرائيل في تلك الحملة.

وعلاوة على ذلك، لم تؤدِ اغتيالات القادة الإيرانيين إلى اندلاع احتجاجات واسعة أو انتفاضة ضد النظام، بل توحّد الإيرانيون حول علم بلادهم بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، ليبرز شعور قوي بالوطنية، فيما تكبدت إسرائيل خسائر في دفاعها الجوي وأصبحت أهدافها أكثر عرضة للصواريخ الإيرانية، مما يعكس توازن القوى بين الطرفين ويجعل أي وقف لإطلاق النار هشّاً بطبيعته.

من جانبها، نجحت إيران، على الرغم من فقدانها قادة وعلماء بارزين، في إعادة هيكلة قيادتها بسرعة وتقليل أثر الضربات على التنسيق العملياتي، كما لجأت إلى تكتيكات هجومية متنوعة باستخدام صواريخ فرط صوتية وطائرات مسيّرة، مستهدفة مناطق حيوية مثل غوش دان لخلق ضغط نفسي على المدنيين، مما أدى إلى خلق توازن دقيق في الخسائر والمكاسب بين الطرفين.

السبب الثالث: إعادة ترتيب الأوراق

إن قبول الطرفين بالهدنة لم ينبع من رغبة حقيقية في السلام، بل كان نتيجة الحاجة الماسة إلى إعادة التقاط الأنفاس وإعادة بناء القدرات، فقد احتاجت إيران وقتاً لتعويض خسائرها وترميم منظوماتها الصاروخية والرادارية ودفن شهدائها وقادتها، فيما أصبحت إعادة بناء القدرات الدفاعية والهجومية أولوية استراتيجية قصوى، شملت تحديث أنظمة الصواريخ والرادارات وإصلاح البنى التحتية اللوجستية، واستُغلت الهدنة لتحقيق التعافي الاستراتيجي على مستوى السياسات والقدرات العملياتية ومنح الوقت الكافي لتقوية الاحتياطيات ومعالجة نقاط الضعف.

أما إسرائيل، فقد رأت في الهدنة فرصة لإعادة تزويد نفسها بالذخائر والأسلحة، ومعالجة الثغرات في دفاعها الجوي بعد استنزاف ترسانتها بفعل الهجمات الإيرانية المتواصلة، كما استغلت هذه الفترة لمعالجة الثغرات الأمنية الداخلية.

 ومن جهة أخرى، واجهت إيران صدمة استراتيجية استدعت إعادة تموضع داخلي واستكمال عمليات توقيف العملاء والجواسيس، إذ أفادت وكالة فارس شبه الرسمية أن السلطات اعتقلت سبعمئة شخص بتهمة العمل لصالح إسرائيل خلال الحرب التي دامت اثني عشر يوماً، مع تحديد مواقع شبكات التجسس والتخريب بناءً على بلاغات عامة وعمليات استخباراتية دقيقة2.

وفي الوقت نفسه، أقر جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد بدور عناصره السريين العاملين داخل إيران في إطار عملية “الأسد الصاعد”، التي بدأت بهجمات غير مسبوقة على إيران في 13 يونيو، بينما أعلن جهاز الأمن العام الإسرائيلي الشاباك بالتعاون مع الشرطة عن اعتقال ثلاثة مواطنين إسرائيليين في قضيتين منفصلتين، بتهمة تنفيذ مهام لصالح جهات استخباراتية إيرانية، وذلك في سياق التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل3. ومن هذا المنظور، تظلّ الهدنة أشبه بـ “سلام مسلّح” أو استراحة عمليات تمنح كل طرف فرصة لإعادة ترتيب أوراقه العسكرية والاستراتيجية استعداداً لجولة مقبلة، بدلًا من أن تكون مدخلًا لسلام دائم.

السبب الرابع: انعدام الثقة المتبادلة

بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار، شهدت إيران موجة انفجارات غامضة في منشآت حساسة مثل المصافي والمخازن العسكرية، بمعدل انفجار أو اثنين يومياً، ورغم أن طهران لم تتهم إسرائيل علناً لتجنب الاعتراف باختراق واسع، إلا أن مسؤولين إيرانيين أكدوا أن هذه الحوادث ليست مجرد “مصادفات.”

كما شكّك رئيس الأركان الإيراني، اللواء عبد الرحيم موسوي، في التزام تل أبيب بالهدنة، مؤكداً استعداد إيران للرد بقوة إذا تكررت الاعتداءات.

وفي المقابل، تتهم إسرائيل إيران بخرق التهدئة عبر دعم هجمات “أنصار الله” في اليمن، بينما أشار رئيس الموساد ديفيد برنيا إلى وجود عملاء داخل إيران قائلاً: “تماماً كما كنّا هناك، سنبقى هناك”، فيما حذّر ضباط ومسؤولون آخرون من أن الجولة الثانية من الحرب وشيكة، معتبرين أن عدم شن هجوم استباقي على إيران يمثل خطورة استراتيجية بالغة. وبحسب داني سترينوفيتش، الرئيس السابق لفرع إيران في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فإن طهران تعيش ضائقة استراتيجية قد تنفجر في مواجهة جديدة.

إن مجمل هذه العوامل — غياب آليات المراقبة، وعدم وجود منتصر حاسم، والضغوط الداخلية، وانعدام الثقة — يجعل الهدنة بين إيران وإسرائيل هشّة وقابلة للانهيار في أي لحظة، مع استمرار خطر اندلاع حرب ثانية قد تكون لها تداعيات كارثية على الأمن الإقليمي والدولي.

المحور الثالث: مؤشّرات اندلاع الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل

لقد كانت الهدنة الأخيرة منذ بدايتها هشة وتكتيكية بطبيعتها، إذ لم تنبع هذه الاتفاقية من إرادة حقيقية للسلام أو من مصالحات استراتيجية متبادلة، بل جاءت نتيجة ضغوط طارئة ومباشرة مارستها الولايات المتحدة الأمريكية وقطر، ما جعلها تفتقر إلى أي إطار رقابي فعال أو آليات لضمان التنفيذ القوي.

وفي هذا السياق، يمكن اعتبار هذا الاتفاق بمثابة “توقف مؤقت” يمنح كل طرف فرصة لإعادة التمركز والاستعداد للمواجهة المقبلة، دون أن يفضي إلى تهدئة دائمة أو استقرار مستدام في العلاقات الثنائية بين الطرفين.

وبعد الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً، ترسّخت حالة من الهدنة الهشّة بين إيران وإسرائيل، والتي يمكن توصيفها بأنها أشبه بـ “سلام مسلّح” أكثر من كونها وقفاً مستقراً لإطلاق النار، إذ إن جذور التوتر البنيوي بين الطرفين لم تُعالج، بل حافظت هذه الهدنة على تراكمات الأزمة القائمة، بما في ذلك التنافس الإقليمي، والتهديدات العسكرية المباشرة، والسباق التكنولوجي المتسارع بين القدرات الصاروخية والدفاعية لكلا الطرفين. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الهدنة الراهنة بين إيران وإسرائيل لا تزال هشّة ومعرضة للانهيار، ليس بفعل العوامل العسكرية وحدها، بل أيضاً نتيجة مؤشرات سياسية ودبلوماسية مباشرة وغير مباشرة يمكن تصنيفها إلى عدة عناصر رئيسية:

المؤشّر الأوّل: تصاعد الخطاب الحربي

يتجلّى الخطاب الحربي والتصعيدي المتبادل بين القيادات الإيرانية والإسرائيلية في تهديدات صريحة باستئناف العمليات العسكرية، ما يحوّل السياسة من أداة للتهدئة إلى وسيلة لتأزيم الصراع ورفع سقف التوتر، إذ إن كل تصريح عدائي يُعدّ مؤشراً واضحاً يحفّز احتمالات الانزلاق نحو مواجهة عسكرية جديدة.

لقد صرّح يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، بوضوح: “نحن نستعد لمفاجأة جديدة لإيران”، وهذه التصريحات، وفق بعض المراقبين، ليست مجرد مواقف دعائية، بل تُقرأ كإعلان استعداد عملي لمواجهة محتملة. كما ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خطاباً في مناسبة رأس السنة العبرية أمام هيئة الأركان العامة، قال فيه: “علينا تدمير المحور الإيراني، وهذا في متناول أيدينا. هذا العام قد يكون تاريخياً لأمن إسرائيل، ونحن مصمّمون على تحقيق جميع أهداف حربنا”.

وقد عزّزت المخاوف تصريحات نتنياهو في مقابلة مع قناة News i2K في الثاني عشر من أغسطس، حينما تحدث ضمنياً عن مهمة تاريخية وروحية لإسرائيل في أفق “أرض الميعاد” و”إسرائيل الكبرى.”

 وفي كلمته خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال نتنياهو: “كثيرون ممّن يشنّون الحروب علينا اليوم، وخصوصاً في إيران، لن يكونوا موجودين غداً، وستحل محلّهم قوات سلام”.

من جانب آخر، قال يوآف غالانت، وزير الحرب السابق، إن تل أبيب لا تعتبر الحرب المنتهية مع إيران نهائية، وتتوقع الجولة الثانية منها، كما ناقش إمكانية استهداف زعماء داخل النظام الإيراني، ما يشير إلى استعدادات لإجراءات عسكرية واسعة النطاق.

وأكد جاك نيريا، ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق: “هناك احتمال لاندلاع الجولة الثانية من الحرب بين إيران وإسرائيل، وهناك شعور بأن حرباً قادمة، وإيران تستعد للانتقام”. ونقلت تصريحات لمستشارين مقربين من قيادة إسرائيل، من ضمنها وصف أحد المستشارين لصحيفة “إكسبرس:” “إذا لم تشن إسرائيل هجوماً استباقياً على إيران، فهذا بمثابة انتحار. الإيرانيون أنفسهم يقولون إن إسرائيل دولة بحجم هيروشيما، وقنبلة نووية واحدة كافية لمحوها من على الخريطة”.

 وفي السياق ذاته، أورد ضابط إسرائيلي رفيع المستوى لمجلة فرنسية تحذيره من أنّ “الكمّ الهائل من الصواريخ الذي قد تمتلكه إيران سيجعل أي منظومة دفاعية عاجزة، وإذا لم نتحرك الآن فلن نستطيع الدفاع لاحقاً11”.

على الجانب الإيراني، تصاعدت أيضاً تصريحات القادة خلال الأشهر الأخيرة وتضخمت لهجة التحذير من احتمالات الصدام، مع تأكيدات على رفع مستويات الجاهزية والاستعداد القتالي، إذ قدّر مسؤولون إيرانيون احتمال اندلاع حرب جديدة، مؤكدين أن القوات المسلحة وصلت مستويات أعلى من الاستعداد مقارنة بفترة الحرب التي دامت اثني عشر يوماً.

ونقلت مجلة نيوزويك عن مسؤولين إيرانيين أن المؤسسة العسكرية وضعت على أعلى درجات الجاهزية.

صرّح القائد العام للجيش، اللواء أمير حاتمي، أن “القوات تظلّ دائمة الجاهزية”، وأكد العميد أحمد رضا بوردستان، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية لجيش الجمهورية الإسلامية، أن ميادين المواجهة قد تتنوّع في القتال المقبل. كما حذّر المساعد والمستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة، يحيى رحيم صفوي، في 18 أغسطس2025 “قد تندلع حرب جديدة في أي لحظة… ليست هناك هدنة نهائية؛ نحن في طورٍ من أطوار الحرب”.

وفي سياق متصل، أعلن محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس الشورى الإيراني، أنّ “في الحرب المقبلة المحتملة سينتهي صبرنا وضبط النفس”، مضيفاً: “ستُضاف مناطق وأهداف جديدة إلى ردّنا على أي عدوان، وإذا تمادى العدو فقد تمتدّ الحرب إلى المجالات الاقتصادية والسياسية”.

ومن جهته قال وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، على منصة “إكس:” “إذا تكرّر أي عدوان، فلن نتردّد في الردّ بشكل أكثر حسماً وبطريقة لا يمكن إخفاؤها12”.

 كما قال سعيد خطيب زاده، نائب عباس عراقجي، خلال زيارة له إلى بغداد، إن إسرائيل لم تحقق أهدافها في الحرب التي امتدت 12 يوماً: “نحاول منع المنطقة من الدخول في حرب جديدة، لكن احتمال اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل مرتفع جداً”.

ويُجمع قادة طهران على أن تكلفة أي ردّ يجب أن تكون باهظة لتثبيت الردع ومنع تكرار العدوان، ورداً على سؤال حول تحضيرات لهجوم إسرائيلي جديد، قال أمين مجلس الأمن القومي الأعلى الإيراني، علي لاريجاني، في مؤتمر صحفي ببيروت: “نحن مستعدّون لكل الاحتمالات. لكن لا أظنّ أنهم سيتصرّفون بهذا القدر من الطيش. وإذا فعلوا ذلك، سنردّ عليهم بحزم”.

المؤشّر الثاني: تسريع سباق التسلّح

تمثّل فترة الهدنة مرحلة حرجة وحساسة في سباق التسلح بين إيران وإسرائيل، إذ يعمل الطرفان بشكل متزامن على تعزيز قدراتهما العسكرية والتكنولوجية لتحسين خيارات الردع والهجوم، وهو ما يحوّل هذه الهدنة إلى فرصة لإعادة التموضع العسكري بدلًا من تهدئة دائمة.

يشمل هذا المسار تخزيناً منهجياً للأسلحة، وتحديث القدرات الهجومية والدفاعية، وإجراء تجارب صاروخية وتدريبات مكثفة على نطاق واسع، بما يعكس تحوّل الاستراتيجية الدفاعية إلى منصة لتعزيز التفوق التكتيكي والاستعداد لمواجهة مستقبلية محتملة.

على الجانب الإسرائيلي، وبعد إعلان الهدنة، توجّه نتنياهو إلى واشنطن طالباً دعماً بصواريخ دفاعية وذخائر متقدمة، وعلى الرغم من تقييم الجيش والأجهزة الدفاعية لإسرائيل أداء الدفاعات الجوية بأنه “مُرضٍ”، إلا أن التهديد الإيراني دفع تل أبيب إلى تسريع برامج تطوير الدفاعات، حيث أمرت وزارة الدفاع الإسرائيلية بتسريع برامج تطوير منظومة “آرو “3/4 والقبة الحديدية والمشروعات الليزرية والرادارات المتقدمة، كما جرى التعاون مع شركات محلية لتصميم صواريخ اعتراضية جديدة، من شأنها تمكين الجيش من اعتراض التهديدات على مسافة بعيدة وتوسيع خيارات الدفاع، بما يعزز حماية الجبهة الداخلية.

وتشير صور الأقمار الصناعية إلى تفعيل أربع منصات إطلاق جديدة لنظام الدفاع الصاروخي “ثاد”، ليصبح الإجمالي عشرة منصات، ما يعكس تعزيزاً ملحوظاً للقدرات الاعتراضية.

تركّزت جهود إسرائيل خلال هذه الفترة على:

  • تطوير منظومة “آرو”  بدقة أعلى وإنتاج أسرع.
  • تحديث برامج القبة الحديدية ومقلاع داود لاعتراض الصواريخ الباليستية.
  • تعزيز القدرات الجوية واللوجستية باستلام طائرات تزويد بالوقود KC-K6
  • الاعتماد على التحالفات لتمكين التزوّد بصواريخ باتريوت و.TAD
  • زيادة إنتاج الصواريخ الاعتراضية حيتس /3حيتس .
  • إجراء تدريبات لمحاكاة هجمات صاروخية على نطاق واسع.

أما إيران، فقد واصلت إعادة بناء منشآتها الصاروخية وتطوير قدراتها النووية، بما يشمل مرافق الإنتاج والصواريخ الباليستية، ورغم الهجمات السابقة على منشآتها النووية، لم تتوقف طهران عن تطوير صواريخها بعيدة المدى وعابرة للقارات، مع تحسين دقة وقوة هذه الصواريخ وإجراء تجارب متكررة لضمان الردع العسكري واستمرار القدرة الدفاعية والهجومية.

أظهرت صور الأقمار الصناعية بدء إيران بترميم مواقع إنتاج الصواريخ التي قصفتها إسرائيل خلال حرب يونيو، مع التركيز على إعادة بناء المنشآت الأساسية مثل خلاطات الوقود الصلب الضرورية لاستئناف الإنتاج، ومن المتوقع أن تستعين إيران بهذه التقنيات من الصين لتعزيز برنامجها الصاروخي.

كما ركّزت طهران على شراكة استراتيجية أوسع مع الصين لتزويدها بمقاتلات متعددة المهام J-10C، منظومات إنذار وسيطرة AWACS، صواريخ كروز مضادة للسفن YJ-12، ومنظومات دفاع جوي HQ-9B و HQ-16، إضافة إلى رادارات حديثة لتعويض التأخير في تسليم المقاتلات الروسية سو35-، وإعادة بناء دفاعاتها الجوية والبحرية.

وأظهرت التقارير أن الصين ساعدت إيران في إعادة بناء القدرات الصاروخية، بما يشمل مرافق الإنتاج واللوجستيات الخاصة بالصواريخ الباليستية، لتعزيز الدفاعات وإعادة التزوّد بالأسلحة.

إجمالاً، يُظهر هذا التصعيد المستمر في سباق التسلح أن الهدنة الحالية تبقى هشّة، وأن الطرفين يستغلانها لإعادة بناء القدرات العسكرية وتعزيز التخزين والتزوّد بالأسلحة، ما يزيد من احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مستقبلية بتداعيات واسعة على الأمن الإقليمي والدولي.

المؤشّر الثالث: الضغوط الدولية وتفعيل آلية الزناد

يشكّل البعد الدبلوماسي والاقتصادي عاملًا إضافياً يزيد من هشاشة الهدنة ويُعدّ مؤشراً قوياً على احتمال اندلاع الحرب الثانية، فقد تم تفعيل آلية الزناد (Snapback) من قبل الترويكا الأوروبية بدعم أمريكي، وأُعيد فرض العقوبات الدولية على إيران، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً للقدرات الاقتصادية والعسكرية الإيرانية، ويزيد من احتمالات الرد الإيراني، بما في ذلك خيار الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) كإجراء انتقامي أو احترازي، ما يعمّق حالة عدم اليقين في المنطقة.

عادت العقوبات الدولية على إيران بعد فشل المساعي الدبلوماسية لإنقاذ الاتفاق النووي، وإخفاق مجلس الأمن في اعتماد مشروع روسي صيني لتمديد رفع العقوبات، وستدخل جميع العقوبات الدولية آلياً بدعم أوروبي كامل حيّز التنفيذ اعتباراً من الساعة صفر من يوم الأحد 28 سبتمبر، ما سينهي التعاون بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويضع المنطقة أمام مأزق أمني وسياسي جديد.

نُقل عن حسين علي حاجي دليغاني، عضو مجلس الشورى الإيراني، قوله لوكالة تسنيم للأنباء: “بدأ المجلس إعداد مسودة مشروع للانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية رداً على تهديد الترويكا الأوروبية بتفعيل آلية الزناد، وهذه هي النتيجة الحتمية لتفعيل هذه الآلية”. واتهم الدول الأوروبية الثلاث بأنها مصدر كثير من المشكلات في العالم، مؤكداً أن إيران لن تقبل المساس بسيادتها النووية.

من جهة أخرى، حذّر وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، من أن تفعيل آلية الزناد سيعني نهاية تعاون إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأكد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، في مقابلة مع فريق برنامج PBS الأمريكي: “إذا تم تفعيل آلية الزناد، فستوقف إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل، ولن يكون هناك مجال للتراجع”.

ويقول محللون إن فشل المفاوضات وتفعيل آلية الزناد يهيئان عملياً الظروف لتصعيد التوترات الإقليمية، إذ إن الحرب بين إيران وإسرائيل، التي تجلّت سابقاً في اشتباكات صاروخية وحرب دامت اثني عشر يوماً، قد تتواصل هذه المرة على نطاق أوسع، مع احتمال استهداف البرنامج النووي الإيراني وربما توسيع نطاق العمليات ليشمل أهدافاً تمس ركائز النظام، ما يزيد من احتمالات انزلاق الصراع إلى مواجهة مباشرة.

ومن منظور القيادات الإسرائيلية، تُقرأ آلية الزناد أحياناً كغطاء سياسي وضوء أخضر يسهّل اتخاذ خيارات عملية ضد المواقع النووية الإيرانية، وليس مجرد مناورة دبلوماسية، وبذلك فإن تفعيل آلية الزناد وتنفيذ “السناب باك” لا يعنيان فقط عودة العقوبات، بل قد يمهّدان الطريق لاندلاع حرب ثانية بين إيران وإسرائيل، مع مخاطر واسعة على الأمن الإقليمي والدولي، وقد أعلنت طهران حالة استنفار قصوى تحسباً لأي هجوم محتمل.

المؤشّر الرابع: إعادة تخصيب اليورانيوم والدعوات البرلمانية للسلاح النووي

تعتبر مسألة إعادة تخصيب اليورانيوم وإمكانية تصنيع سلاح نووي من القضايا الجوهرية التي تُثير مستويات عالية من التوتر في العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية، إذ زاد على الساحة الدولية بنيامين نتنياهو من لهجة التحذير والتهديد المباشر بشأن الخطر النووي الإيراني، حيث صرّح خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن “على المجتمع الدولي تدمير مخزون اليورانيوم المخصب لدى إيران فوراً، وعدم السماح للجمهورية الإسلامية بإعادة بناء قدراتها العسكرية، ويجب تطبيق عقوبات الأمم المتحدة بشكل فوري ودون تأجيل.”

وأفاد تقرير صادر عن البنتاغون بأن الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية قد أرجأت البرنامج النووي الإيراني لعدة أشهر، فيما حذّر مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، من احتمال استئناف إيران تخصيب اليورانيوم خلال فترة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أشهر، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الإعلان عن مراقبته الملف لفترة ستين يوماً قبل اتخاذ “الخطوة التالية” التي قد تشمل إجراءات عسكرية استباقية.

وأكد تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتاريخ 7 سبتمبر أن إيران تحتفظ بمخزون من اليورانيوم المخصب يكفي نظرياً لإنتاج مادة نووية قابلة للاستخدام، رغم تضرر بعض المنشآت جزئياً، وهو ما يضيف بعداً إضافياً للشعور الإسرائيلي بـ “الخطر الوجودي” الذي قد يدفع تل أبيب إلى تبنّي خيار الضربة الوقائية قبل فوات الأوان، في ظل استمرار رفض إيران المطالب الأمريكية بتفكيك برامجها النووية والصاروخية.

وبالرغم من الفتوى الصادرة عن المرشد الأعلى التي تحرّم اقتناء السلاح النووي، وتصريحات الرئيس الإيراني بعدم حاجة البلاد إلى هذا السلاح، أعرب عدد من نواب البرلمان الإيراني عن رغبتهم في إعادة النظر بالعقيدة الدفاعية، والنظر في إمكانية إنتاج سلاح نووي، كإجراء لتعزيز الردع الوطني، خصوصاً في أعقاب الضربات الإسرائيلية.

ففي 22 سبتمبر 2025، طالب 71 برلمانياً المجلس الأعلى للأمن القومي بمراجعة فتوى المرشد الصادرة عام 2003، معتبرين أن الضربات الإسرائيلية أظهرت “فقدان الردع”، وأن الوقت قد حان لتقييم القدرة على امتلاك سلاح نووي ضمن سياسات الدفاع الاستراتيجي للبلاد.

كما ترددت في الأوساط البرلمانية تصريحات من قبيل: “لماذا تملك القوى الكبرى أسلحة نووية بينما تُحرم إيران منها؟ ينبغي لنا أيضاً امتلاك السلاح النووي”، وهو ما يعكس تصاعد الشعور الوطني بضرورة تعزيز القدرة الردعية النووية، ويدعم احتمالات اتخاذ خطوات مستقبلية قد تغيّر موازين القوة الإقليمية، بما في ذلك مراجعة برامج الصواريخ وتطوير الدفاعات، ما يثير تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت هذه الإجراءات ستردع العدوان أم ستزيد من احتمال اندلاعه، بما يجعل الملف النووي الإيراني محوراً رئيسياً في مسارات التصعيد المحتمل.

المؤشّر الخامس: تقارب بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب

تعتمد إسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني على دعم الولايات المتحدة والتحالفات الدولية الاستراتيجية، سواء عبر تزويدها بأنظمة دفاعية متقدمة، أو توفير غطاء دبلوماسي لعملياتها المحتملة، ويؤدي الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على طهران إلى تكثيف احتمالات الردود التصعيدية من جانبها.

ولم تبدُ الفجوة بين دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعيدة عن الوجود فيما يتعلق بكيفية التعامل مع إيران، لكن الاجتماعات الأخيرة بين الطرفين قدّمت مؤشرات قوية على تقارب استراتيجي كبير بين الموقفين حيال الطموحات النووية الإيرانية ودعم طهران لوكلائها الإقليميين، ما يعكس تنسيقاً دقيقاً بين السياسة الأمريكية والإسرائيلية.

وأكد نتنياهو أن “إسرائيل ستتخذ كل الإجراءات اللازمة للدفاع عن نفسها”، معبّراً عن دعمه العلني للنهج الأمريكي، وفي بادرة غير مسبوقة على مستوى الشراكة، رشّح نتنياهو ترامب لجائزة “نوبل للسلام”، مؤكداً وحدة الجبهة بينهما فيما يخص أمن الشرق الأوسط، وهو مؤشر على تلازم القرارين السياسي والعسكري بين واشنطن وتل أبيب في هذا الملف الحيوي.

التقى ترامب ونتنياهو أربع مرات خلال تسعة أشهر من عام 2025، في البيت الأبيض وخلال اجتماعات رسمية وولائم، وتركّزت المباحثات على البرنامج النووي الإيراني، وسبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وقضايا الإفراج عن الرهائن، وخطط السلام والأمن الإقليمي، حيث أظهر ترامب ميلًا أكبر نحو الدبلوماسية والحلول المحدودة التي تضغط على إيران، بينما شدّد نتنياهو على الخيار العسكري كوسيلة لإضعاف قدرات طهران وإجبارها على التراجع، وهو ما يعكس درجة عالية من التنسيق العسكري والسياسي بين الطرفين في ظل التوترات الإقليمية.

وذكر تقرير أن نتنياهو حصل خلال زيارته واشنطن في يوليو على ما وُصِف بـ “الضوء الأخضر” من ترامب لتنفيذ هجوم جديد على إيران إذا دعت الحاجة، ما اعتُبر تحفيزاً للقيادة العسكرية الإسرائيلية، وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، أبلغ نتنياهو ترامب بأن إسرائيل ستوجّه ضربة إلى إيران في حال استئناف برنامجها النووي، ولم يُبدِ ترامب أي اعتراض على هذا المخطط، مع العلم أنه أشار في محادثة خاصة إلى تفضيله تسوية دبلوماسية، لكنه لم يعارض الخطط الإسرائيلية الاستباقية، ما يُبرز حالة من التوافق السياسي الاستراتيجي العميق.

وفي نهاية يوليو، حذّر ترامب قائلاً: “الإيرانيون يرسلون إشارات عدائية جداً… إذا أعادوا تشغيل قدراتهم النووية سندمرها بسرعة أكبر مما يمكنكم تصوّره22”. وهذا التقارب السياسي والاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب يعزز بشكل ملموس احتمال أن تتخذ إسرائيل إجراءات عسكرية استباقية، خصوصاً إذا رأت أن التحركات الإيرانية تقوّض الردع أو تقترب من عتبة نووية محسوسة، ما يجعل من هذا الملف النووي أحد أهم المحركات للتصعيد المحتمل في الأشهر المقبلة.

المحور الرابع: هل ستكون الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل قبل نهاية العام؟

تبدو الهدنة الهشّة بين إسرائيل وإيران، التي أعقبت الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً، في طريقها إلى التلاشي التدريجي، فهي لا تُجسّد وقفاً مستقراً لإطلاق النار، بل تمثل حالة معقدة من “السلام المسلّح” الذي يخفي تحت سطحه تراكمات من التوترات الأمنية والاستراتيجية والسياسية التي يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى صراع مفتوح وعنيف.

 بمعنى آخر، الهدنة الراهنة ضعيفة للغاية، وتُشبه “هدوء ما قبل العاصفة” على نحو يجعل كل طرف يستثمر كل إمكاناته العسكرية والتقنية في تعزيز قدراته، استعداداً لأي تصعيد محتمل قد ينشأ بفعل تحولات مفاجئة أو حسابات خاطئة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.

تشير الوقائع إلى أن جذور التوتر البنيوي بين الطرفين لم تُعالج، بل إن تراكم الأزمات السياسية والاستراتيجية والأمنية بعد الحرب الأخيرة أدى إلى زيادة هشاشة الوضع، حيث تتشابك عناصر متعددة من التصعيد المحتمل:

  • تصاعد الخطاب الحربي بين القيادات العسكرية والسياسية،
  • تسريع سباق التسلح بين إسرائيل وإيران،
  • استمرار التجارب الصاروخية وتطوير القدرات النووية،
  • الضغوط الدولية والعقوبات الاقتصادية،

 بالإضافة إلى غياب آليات رقابية فعّالة أو مراقبة مستقلة تستطيع كبح أي محاولة لخرق الهدنة.

وفي سياق التحليلات الجيوسياسية، يرى بعض الخبراء أن تلاقي هذه العوامل يُضاعف احتمال توجيه إسرائيل لضربة واسعة النطاق ضد إيران في الأشهر المقبلة، مع توقع أن يكون التوقيت الأكثر ترجيحاً لذلك قبل نهاية أكتوبر 2025، خصوصاً بين 7 أكتوبر ونهاية العام، في محاولة إسرائيلية لمنع طهران من إعادة بناء قدراتها النووية والصاروخية بشكل كامل بعد هجمات يونيو.

ويُعتقد أن اختيار 7 أكتوبر قد يحمل رمزية استراتيجية، نظراً لتزامنه مع ذكرى هجوم حماس، ما يمنح إسرائيل ذريعة للقول إنها تردّ على أحداث سابقة وتعزز من موقفها الأمني في المنطقة.

وتزداد احتمالات المواجهة المباشرة بشكل كبير في حال مضت إيران في تخصيب اليورانيوم أو أقدمت على خطوات نووية إضافية، خاصة إذا حصلت إسرائيل على دعم أو “ضوء أخضر” من الولايات المتحدة، وهو ما يضع احتمالات الحرب على طاولة التنفيذ، ويحول الحسابات الاستراتيجية في المنطقة إلى حالة من التأهب الدائم، إذ قد تكون المواجهة القادمة أكثر اتساعاً وتعقيداً ودماراً مقارنة بالنزاع السابق، مع آثار واسعة النطاق على الأمن الإقليمي والدولي، تشمل استقرار أسواق الطاقة، سلاسل الإمداد، والتحالفات الاستراتيجية، إلى جانب انعكاسات سياسية مباشرة على صعيد العلاقات الدولية.

وفي ضوء هذه المتغيرات، تُظهر جميع المؤشرات الراهنة أن المنطقة على أعتاب تصعيد محتمل قد يتحول إلى حرب ثانية شاملة بين إيران وإسرائيل، وأن أي فشل في ضبط آليات الردع أو إدارة التوترات النووية والعسكرية، أو تجاهل التحذيرات الاستراتيجية، قد يؤدي إلى مواجهة واسعة النطاق، تحمل تداعيات خطيرة وغير مسبوقة على الأمن الإقليمي والدولي، ما يجعل من ضرورة التحليل المستمر لمستجدات الميدان النووي والعسكري والسياسي أمراً بالغ الأهمية لتقييم احتمالات التصعيد في الأشهر القادمة.

المحور الخامس: تداعيات اندلاع الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل على المنطقة

إن احتمال اندلاع الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل، في ظل التوترات المستمرة وتصاعد الخطاب الحربي والسباق التسلحي المتسارع بين الطرفين، يحمل في طياته تداعيات جيوسياسية، عسكرية، اقتصادية وإنسانية ذات أبعاد واسعة ومعقدة قد تتجاوز حدود الشرق الأوسط، ليصبح محور اهتمام استراتيجي دولي.

لا بد من الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من المتغيرات الحاسمة التي ستؤثر على مسار أي صراع محتمل، من بينها درجة تصاعد العنف، مستوى تدخل القوى الإقليمية والدولية، استخدام الأسلحة التقليدية والثقيلة أو غير المتعارف عليها، دور القوى غير الحكومية والميليشيات، ومستوى الدعم الشعبي والسياسي في كل من إيران وإسرائيل، إذ تشكل هذه المتغيرات عوامل مؤثرة بشكل مباشر على حجم الخسائر ومدى سرعة التطور العسكري للصراع.

من الناحية العسكرية، يظهر أن كلا الطرفين يمتلكان قدرات استراتيجية متقدمة في المجال الصاروخي والدفاعي، وأن أي تصعيد محدود قد يتحول سريعاً إلى مواجهة شاملة تشمل كامل الجغرافيا السياسية للمنطقة، بما في ذلك دول الجوار الحيوية وطرق الملاحة الاستراتيجية مثل مضيق هرمز والبحر الأحمر.

ويشير المسؤولون الإيرانيون إلى أن القوات المسلحة على أهبة الاستعداد للتعامل مع كافة السيناريوهات، مؤكدين أن أي عدوان إسرائيلي سيقابل بردٍ حازم يهدف إلى حماية المصالح الوطنية والحفاظ على القدرات الدفاعية والهجومية للدولة، بما في ذلك البنية التحتية النووية والصاروخية، وهو ما يعكس مستوى التعقيد الاستراتيجي الذي قد تصل إليه المواجهة القادمة.

أما من الناحية السياسية، فيبرز أن أي عودة محدودة للمفاوضات النووية، أو استمرار العقوبات الدولية، لن يُسهم في حل الأزمة الجوهرية، بل قد يمنح إسرائيل ذريعة لمزيد من الأعمال العسكرية، ما يخلق دائرة مغلقة من التصعيد المحتمل.

 وتبرز هنا أهمية تبني نهج دبلوماسي متكامل يوازن بين الضغوط الدولية والحوار الاستراتيجي بين الأطراف، إذ إن غياب هذا التوازن قد يؤدي إلى تفاقم التوترات إلى مستويات قد لا يمكن السيطرة عليها، ويزيد من احتمالات انزلاق النزاع إلى مواجهة واسعة تشمل أكثر من محور عسكري واحد.

على الصعيد الاقتصادي، يشير الخبراء إلى أن اندلاع مواجهة شاملة سيؤدي حتماً إلى اضطراب الأسواق العالمية، لا سيما في قطاع الطاقة، نظراً لاعتماد الاقتصاد العالمي على النفط الخليجي، كما قد يؤدي الصراع إلى إحداث موجات نزوح واسعة، ما يزيد من تعقيد الأزمات الإنسانية ويتيح للقوى غير الدولة والجماعات المسلحة الاستفادة من الفوضى لتعزيز نفوذها، وهو ما يضيف بعداً آخر للأزمة يصعب على أي إدارة دولية احتواؤه بسهولة.

كما أن الأبعاد الدبلوماسية والاستراتيجية تشير إلى أن أي حرب محتملة قد تؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية، إذ قد تضطر دول عربية وغربية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، مما يعكس حجم المخاطر والتداعيات المحتملة للصراع، ويجعل المنطقة أمام اختبار حقيقي لقدرتها على ضبط النفس وتفادي الانزلاق إلى كارثة استراتيجية وإنسانية شاملة.

وفي الختام، تحذر التحليلات الأكاديمية والاستراتيجية من أن استمرار التصعيد بين إيران وإسرائيل، سواء على الصعيد النووي أو العسكري، لا يهدد الأمن الوطني للطرفين فحسب، بل يمثل تهديداً جدياً لاستقرار المنطقة بأسرها، ما يستدعي تدخلًا دبلوماسياً عاجلاً، وحواراً متوازناً بين جميع الأطراف، يهدف إلى تفادي مواجهة عسكرية واسعة النطاق، لا تحتملها أي دولة في الشرق الأوسط، مع التأكيد على أن إدارة المخاطر الاستراتيجية وحفظ التوازنات العسكرية والسياسية يبقى السبيل الوحيد لتجنب تصعيد كارثي ذو تبعات جيوسياسية واقتصادية وإنسانية غير مسبوقة.

 الخاتمة

تُجسد الدراسة الراهنة أن الهدنة الحالية بين إيران وإسرائيل، عقب الحرب التي امتدت اثني عشر يوماً، تمثل حالة مؤقتة وهشّة للغاية، معرضة للانهيار في أي لحظة، بحيث أن استمرارها يعتمد على تفاعل مجموعة معقدة من العوامل العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاستراتيجية، والتي تتشابك لتشكل شبكة دقيقة من المخاطر المحتملة.

 فقد أوضحت التحليلات أن التوتر البنيوي بين الطرفين لم يُعالج جذرياً، بل تعمّق بفعل تراكم الأزمات الأمنية والاستراتيجية، استمرار سباق التسلح المتسارع، وتعاظم التصعيد في الخطاب السياسي والدبلوماسي المتبادل، الأمر الذي يحوّل أي تهدئة إلى مرحلة انتقالية أكثر منها إلى مرحلة تهدئة حقيقية ومستقرة.

كما كشفت الدراسة أن التحركات العسكرية المكثفة لكلا الطرفين، بما في ذلك التجارب الصاروخية الإيرانية بعيدة المدى، تحديث المنظومات الدفاعية الإسرائيلية، تعزيز القدرات التكتيكية والاستراتيجية، واستمرار التدريبات العسكرية المشتركة، كلها عوامل تزيد من هشاشة الهدنة، وتحوّلها إلى فترة لإعادة التموضع العسكري والعملياتي بدلًا من كبح التصعيد.

وفي هذا السياق، تُعد الضغوط الدولية، بما فيها تفعيل آلية الزناد وفرض العقوبات الاقتصادية، مؤشراً إضافياً على هشاشة الوضع، إذ تزيد من احتمال قيام إيران بخطوات تصعيدية، بما في ذلك الانسحاب المحتمل من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو اتخاذ إجراءات انتقامية أخرى، ما يرفع سقف المخاطر الإقليمية والدولية.

علاوة على ذلك، تُظهر الدراسة أن استمرار هذه الهشاشة يجعل احتمالات اندلاع حرب ثانية بين إيران وإسرائيل مرتفعة للغاية، مع تداعيات كارثية على الأمن الإقليمي، تشمل اضطراب أسواق الطاقة العالمية، التأثير على التجارة الدولية والاستثمارات، إعادة رسم التحالفات الإقليمية والدولية، وزيادة النفوذ المحتمل للقوى غير الحكومية والجماعات المسلحة في مناطق الصراع.

ويشير سباق التسلح المستمر والتصعيد السياسي إلى ضرورة تبني استراتيجيات متعددة الأبعاد، تجمع بين التهدئة الدبلوماسية، مراقبة دقيقة للقدرات العسكرية، وتعزيز قنوات الاتصال لتجنب سوء التقدير، الذي قد يؤدي إلى مواجهة واسعة النطاق.

في هذا السياق، يبرز بعد الاستراتيجية الأمريكية، وخصوصاً دور الرئيس السابق دونالد ترامب، كعامل حاسم في تحديد مسار الأحداث، إذ قد يكون أي تراجع أمام الضغوط الإسرائيلية أو تدخل محدود في الحرب ذا أثر بالغ على طبيعة التصعيد، بينما الانخراط الكامل قد يجر الولايات المتحدة إلى مواجهة شاملة مع إيران، بما يرفع من تعقيد الصراع وتداعياته.

ومن جانب آخر، يُعزز تمسك إيران بحقها في استمرار برنامجها النووي، وتراجع احتمالات التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع واشنطن، من إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية واسعة، بما يجعل المنطقة بأسرها على أهبة الاستعداد لأي سيناريو تصعيدي.

وبناءً على ذلك، تؤكد الدراسة أن مرحلة ما بعد الحرب لا تُعَدّ استقراراً، بل مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر، وأن أي إدارة ناجحة للأزمة تتطلب تكاملًا دقيقاً بين الاستراتيجيات العسكرية والدبلوماسية والسياسية، مع مراقبة دقيقة للقدرات الإيرانية والإسرائيلية، لضمان الحد من احتمالات الانزلاق نحو صراع شامل قد تكون تبعاته كارثية على الأمن الإقليمي والدولي، وتضع المنطقة أمام اختبار حقيقي لمرونتها وقدرتها على ضبط النفس والاستجابة للتحديات الاستراتيجية المعقدة والمتشابكة.

في النهاية، يُستنتج أن أي حرب مقبلة بين إيران وإسرائيل ستكون أكثر دموية وتعقيداً من النزاع السابق، وأن أي تصعيد غير محسوب، سواء من جانب إسرائيل أو إيران، أو أي فشل في إدارة الضغوط الأمريكية والدبلوماسية الدولية، قد يؤدي إلى مواجهة شاملة تحمل تبعات جسيمة على الشرق الأوسط والعالم بأسره، بما في ذلك الأمن الاقتصادي، الاستقرار السياسي، وسلامة المجتمعات المدنية.

 ————

المصادر:

  • علي نجات، “حرب با منتصر؟ تحلیل عواقب الحرب الإیرانیة الإسرائیلیة”، مركز البیان للدراسات والتخطیط،8 یولیو .2025
  • ستیفن شیر، “منظومة دفاع جوي إسرائیلیة تعمل باللیزر جاهزة لاستخدام هذا العام”، رویترز، 18 سبتمبر2025
  • إیران تبدأ ترمیم مواقع إنتاج الصواریخ لكنها تفتقد “عنصرا مهما”، الجزیرة نت، 24 سبتمبر .2025
  • لاريجاني من عین التینة: حزب الله يمثل سداً منیعاً أمام الكیان الإسرائیلي، العالم، 27 سبتمبر .2025
  • رئیس موساد: در سالهای آینده در ایران خواهیم ماند، ایندیپندنت فارسی، 26 یونیو .2025
  • وزیر الدفاع الإسرائیلي: هناك احتمال لتجدد الحملة على إیران، الجزیرة نت، 23 یولیو .2025
  • نتنیاهو یتوعد بتدمیر المحور الإیراني، سكاي نیوز عربیة، 22 سبتمبر .2025
  • كلمة نتنیاهو في الأمم المتحدة.. هذه أبرز النقاط، سكاي نیوز عربیة، 26 سبتمبر .2025
  • وضع هدنة إیران وإسرائیل وضجة عدم تدمیر منشآت إیران النوویة تماماً، سي إن إن بالعربي، 24 یونیو.2025
  • وول ستریت جورنال: نتنیاهو یبلغ ترامب بعزمه ضرب إیران إن سعت مجددا لامتاك ساح نووي، الجزیرة نت، 12 یولیو .2025
  • خبرگزاری جمهوری اسامی ایرنا، عراقچی: دیپلماسی ایران پس از تجاوز رژیم صهیونیستی، شکل و آرایش جدیدی خواهد گرفت، 26 یونیو 2025، كد خبر: 85873857.
  • خبرگزاری فارس، دستگیری بیش از 700 نفر در 12 روز گذشته به اتهام اقدامات ضد امنیتی برای رژیم صهیونیستی، 25 یونیو 2025، كد خبر: .84629
  • دستگیری شهروند اسرائیلی-آمریکایی در اسرائیل به اتهام جاسوسی برای ایران»، بی بی سی فارسی،25 سبتمبر .2025
  • سرلشكر موسوی: در مورد پایبندی دشمن به آتشبس تردید داریم»، تسنیم، 26 یونیو 2025، كد خبر: .3344806
  • مقام اطاعاتی پیشین اسرائیل: ایران آماده «دور دوم» جنگ میشود»، یورونیوز فارسی، 24 أغسطس.2025
  • پیام سید عباس عراقچی وزیر امور خارجه در شبکه ایکس در خصوص تهدیدات مقامات امریکایی، وزارت امور خارجه، 28 یولیو .2025
  • گفتوگوی لاريجانی با شبکه پی بی اس آمریکا، خبرگزاری انتخاب، ٢٢ سبتمبر 2025، كد خبر: .4040631117
  • نامه 71 نماینده به سران قوا: ساح هستهای بسازیم و نگه داریم، خبرگزاری انتخاب، ٢٢ سبتمبر 2025، كد خبر: .886036
  • ادعای ترامپ: ایران در حال ارسال سیگنالهای نامطبوع است، باشگاه خبرنگاران جوان، 27یولیو 2025، کد خبر: .۸۹۸۱۳۱۸
  • Dudi Kogan, “Iran moves toward dramatic internal conflict and another war”, 16 Aug 2025, https://www.jns.org/iran-moves-to- ward-dramatic-internal-conflict-and-another-war.
  • Laurence Norman, “Iran Orders Material From China for Hundreds of Ballistic Missiles”, June 5, 2025, https://www.wsj.com/world/ iran-orders-material-from-china-for-hundreds-of-ballistic-mis- siles-1e874701?mod=middle-east_news_article_pos2

المصدر: مركز البيان للدراسات والتخطيط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق