لوفيغارو خارج السياق: تفكيك سردية استعمارية مصطنعة تستهدف تونس والجزائر

اعداد الدكتور أحمد ميزاب: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 27-12-2025

ما نشرته صحيفة لو فيغارو الفرنسية لا يمكن التعامل معه كعمل صحفي بالمعنى المهني الدقيق، بل يجب قراءته كنص سياسي مموّه بلغة إعلامية، يوظف القلق ويعيد إنتاج تصورات قديمة عن السيادة والنفوذ في شمال إفريقيا، دون الالتزام بقواعد التحقيق أو التحقق أو التوازن.
المقال، في بنيته العامة، لا يقدم معلومة موثقة بقدر ما يصنع انطباعًا موجّهًا، إذ يغيب عنه أي سند مادي واضح، فلا نص للاتفاق المذكور، ولا وثائق رسمية منشورة، ولا أسماء مصادر يمكن مساءلتها، ولا حتى عرض متكامل للمواقف الرسمية التونسية أو الجزائرية، وهو ما يحوله من مادة إخبارية إلى سردية ضغط سياسي تستخدم الصحافة كوسيط.
من حيث المضمون، يتجاهل المقال حقيقة أساسية مفادها أن التعاون الأمني والعسكري بين تونس والجزائر ليس أمرًا طارئًا ولا استثناءً في العلاقات الدولية، بل هو مسار قائم منذ عقود، تُوج باتفاق 2001، الذي تم الإعلان عنه في حينه، ويأتي أي تحيين له في إطار سيادي طبيعي تمارسه الدول لحماية حدودها ومجتمعاتها، خاصة في بيئة إقليمية مضطربة تشهد تصاعدًا للتهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة العابرة للحدود.
اللافت أن لو فيغارو تتعامل مع هذا التعاون، حين يكون بين بلدين مغاربيين جارين، باعتباره مساسًا بالسيادة، بينما تتجاهل تمامًا عشرات الاتفاقيات الأمنية والعسكرية التي أبرمتها تونس مع شركاء أوروبيين وغربيين، بما في ذلك صيغ تعاون متقدمة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لم تُطرح يومًا في الخطاب الفرنسي باعتبارها تنازلًا عن الاستقلال الوطني، وهو ما يكشف بوضوح انتقائية سياسية لا علاقة لها بمبدأ السيادة ذاته، بل بهوية الشريك.
لغة المقال بدورها تفضح هذا التوجه، إذ يتم اللجوء إلى مفردات ذات حمولة تاريخية ونفسية قوية مثل “الحماية” و“التبعية” و“الراعي”، وهي مصطلحات لا تُستخدم في التحليل الرصين، بل في تعبئة الانطباعات وإثارة المخاوف الجماعية، خاصة في بلد مثل تونس له ذاكرة استعمارية حساسة تجاه كل ما يمس الاستقلال الوطني.
الأخطر في النص هو تمرير ادعاءات شديدة الخطورة، من قبيل الحديث عن توغل قوات جزائرية إلى عمق خمسين كيلومترًا داخل التراب التونسي، أو عن تحمل تونس تكاليف العمليات مع إمكانية الدفع بموارد طبيعية، أو عن إلزامها بإخطار الجزائر قبل أي اتفاق أمني مع دولة أخرى، وكل ذلك يُعرض للقارئ كحقائق مفترضة دون أي سند قانوني منشور أو وثيقة رسمية يمكن الرجوع إليها، وهو ما يجعل هذه المزاعم أقرب إلى التركيب السياسي منها إلى الكشف الصحفي.
خلفية هذا الخطاب لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع، حيث تشهد فرنسا تراجعًا ملحوظًا في نفوذها التقليدي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، في مقابل صعود أدوار إقليمية مستقلة، من بينها الجزائر، وسعي دول الجوار إلى تنويع شراكاتها وعدم الارتهان لقطب واحد، وهو ما يفسر لجوء بعض المنابر الإعلامية الفرنسية إلى أداء وظيفة غير معلنة، تتمثل في إعادة ضبط المجال الذهني للنفوذ عبر السرديات، لا عبر الوقائع.
في جوهر الأمر، لا توجد دولة تتخلى عن سيادتها بمجرد توقيع اتفاق أمني مع جارها، كما لا يمكن اعتبار التنسيق في مواجهة تهديدات مشتركة شكلا من أشكال الوصاية، خاصة حين يتعلق الأمر بحدود مشتركة طويلة ومعقدة، تشكل مجالًا مفتوحًا لحركات الإرهاب والتهريب، التي لا تعترف بالسيادة ولا تنتظر توافقات سياسية.
إن ما حاولت لو فيغارو تقديمه كتحقيق يكشف “حقيقة مخفية” لا يعكس سوى قلق سياسي من واقع جديد يتشكل، تكون فيه دول الجنوب أكثر قدرة على التنسيق فيما بينها دون وسيط، وأكثر جرأة على اتخاذ قراراتها السيادية خارج القوالب التقليدية.
لذلك، فإن هذا المقال لا يحدد حقيقة بقدر ما يكشف خوفًا، ولا يفضح اتفاقًا بقدر ما يفضح أزمة رؤية، أزمة صحافة لم تعد تميز بين التحليل والخطاب، وبين الخبر والرسالة، وبين احترام سيادة الدول ومحاولة إعادة إخضاعها سرديًا



