أخبار العالمأمريكاأوروبابحوث ودراسات

لماذا يصر ترامب على شراء غرينلاند؟

يشكل عرض الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للمرة الثانية شراء جزيرة غرينلاند، التي أصبحت ضمن سيادة مملكة الدنمارك منذ عام 1821، “اختبارًا جديدًا” لقدرة الرئيس الأمريكي المنتخب على تعزيز التموضع الجيو- سياسي للولايات المتحدة غرب أوروبا وشمالها بعد أن فشل رئيسان أمريكيان سابقان في شراء غرينلاند، حيث كانت المحاولة الأولى عندما سعى ويليام سيوارد، وزير خارجية الرئيس أبراهام لينكولن، عام 1867، إلى شراء الجزيرة، في حين كانت الثانية عندما عرض الرئيس هاري ترومان، في 27 يناير عام 1946، نحو 100 مليون دولار في شكل سبائك ذهبية تساوي اليوم نحو 1.3 مليار دولار لشراء أكبر جزيرة في العالم تزيد مساحتها على 2.1 مليون كم، وبهذا تصبح غرينلاند أكبر من الدنمارك بنحو 50 مرة، ولكن الدنمارك تفوق غرينلاند في عدد السكان بنحو 95 مرة؛ حيث لا يزيد عدد سكان الجزيرة على 57 ألف نسمة.

ورغم الرد القاسي من الحكومة الدنماركية على العرض الأول الذي قدمه ترامب في أغسطس عام 2019، والذي أدى إلى أزمة دبلوماسية بعد إلغاء ترامب زيارته للدنمارك في سبتمبر من العام نفسه، فإن الرئيس المنتخب يعيد الطرح نفسه من جديد، مع احتمالية دعم هذه الفكرة بإمكانية منح الجنسية الأمريكية لسكان غرينلاند، لكن الرد الدنماركي على عرض ترامب الثاني كان “سلبيًّا” أيضًا عندما رفض رئيس وزراء الجزيرة موتى إيجيدي عرض ترامب، وكذلك رفضت حكومة كوبنهاغن، التي أكدت أنها لا يمكنها بيع نحو 57 ألف مواطن دنماركي للولايات المتحدة، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة عن :

أسباب إصرار الرئيس الأمريكي المنتخب على شراء أراضٍ من دولة أوروبية ذات سيادة، سبق لها أن رفضت عرضه عام 2019؟

وماذا يملك ترامب من “أوراق ضغط” جديدة لشراء الجزيرة؟

وهل فكرة شراء غرينلاند غطاء لمطالب أمريكية أخرى، خاصة بعد تهديد الرئيس ترامب باستعادة قناة بنما من الحكومة البنمية؟

أوراق جديدة

لا يتعلق الأمر بالعقارات كما يحاول البعض تبسيط الأمر، لكن الولايات المتحدة كانت تتوسع دائمًا عبر شراء الأراضي والولايات الكبيرة؛ حيث سبق للحكومة الأمريكية شراء ولاية لويزيانا الشاسعة غرب حوض المسيسيبي من فرنسا بنحو 15 مليون دولار عام 1803، كما اشترت ولاية ألاسكا في 18 أكتوبر من روسيا عام 1867 بنحو 7.2 مليون دولار، لكن اللافت أن الولايات المتحدة سبق لها شراء أراضٍ من الدنمارك عندما اشترت واشنطن جزر “ويست إنديز” من كوبنهاغن مقابل 25 مليون دولار عام 1917، وأطلقت عليها اسم “جزر العذراء”، ومنذ نحو 160 عامًا كان هناك اهتمام أمريكي بشراء جزيرة غرينلاند؛ ففي عام 1867 تحدث أكثر من تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية عن أهمية وذكاء التوجه نحو شراء جزيرة غرينلاند، وهو ما يجعل فكرة شراء الجزيرة ليست جديدة على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التي نجحت في تخليص غرينلاند من الاحتلال النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد أن وصلت قوات من جيش هتلر إلى الجزيرة عام 1940، لكن الجيش الأمريكي نجح في الوصول إلى هناك، ودعم السكان المحليين في طرد الغزاة، حيث لم تكن الولايات المتحدة حتى عام 1941 قد دخلت الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الوقت لم تخرج الولايات المتحدة من هناك، حيث يحتفظ الجيش الأمريكي “بقاعدة ثول بيتوفيك الفضائية” في الجزيرة التي تستطع فيها الشمس شهرين متتاليين، من 25 مايو إلى 25 يوليو.

 ومنذ أن عرض الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة عام 1946 لم تُتَّخَذ خطوات عملية لشراء غرينلاند التي أصبحت دنماركية في عام 1814 بعد اننهاء النفوذ النرويجي عليها، ودُمِجَت بالكامل مع الدنمارك عام 1953، ووفق مواد دستور الدنمارك لعام 1953 أصبح السكان في غرينلاند مواطنين دانماركيين، وهي الجزيرة التي تسمى باللغة الغرينلاندية “أرض الناس”، وفي اللغة الدنماركية تعني “الأرض الخضراء”.

وفي الوقت الحالي، يشكل الدعم الكامل من بعض أعضاء الكونغرس -بمجلسيه النواب والشيوخ- دافعًا قويًّا للرئيس ترامب لشراء الجزيرة، وإعادة طرح رؤية متكاملة من خلال التلويح بورقة “تبادل الأراضي”، ومنح الدنمارك أراضي أمريكية في ولاية ألاسكا مقابل مناطق إستراتيجية في جزيرة غرينلاند، بل منح سكان الجزيرة الجنسية الأمريكية.

ويمكن أن يصل الأمر بالرئيس ترامب الى تهديد الأوروبيين بالانسحاب من حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) إذا لم يضغطوا على الدنمارك لبيع الجزيرة التي يراها الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب “درة المشروع الدفاعي” الجديد الذي سوف تُعلَن تفاصيله بعد 20 يناير المقبل، لكن في الوقت نفسه قد يعارض الديمقراطيون في الكونغرس سعي ترمب إلى شراء الجزيرة؛ ففي مايو 2021 زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن غرينلاند بصحبة مسؤولين من الجزيرة، وبعد سؤال عن مدى اهتمام الولايات المتحدة وسعيها إلى شراء غرينلاند، أكد بلينكن أن واشنطن لا تريد ذلك، وأنها غير مهتمة بشراء الجزيرة.

لماذا الإصرار؟

على مدار أكثر من 160 عامًا، تحاول الولايات المتحدة شراء جزيرة غرينلاند، لكن في الوقت الحالي، يرى كثير من مخططي السياسة الأمريكيين ضرورة الإسراع في دعم خطط الرئيس ترمب لشراء الجزيرة، وذلك لأسباب جديدة وإستراتيجية، لم تكن بالأهمية والوضوح أنفسهما في السابق، وهذه الأسباب هي:

أولًا- قطع الطريق على الصين

أول الأهداف الإستراتيجية التي سوف تعمل عليها واشنطن في المرحلة المقبلة هو مواجهة التفوق التكنولوجي والاقتصادي الصيني بعد التوقعات بأن الناتج القومي الصيني يمكن أن يزيد على 18 تريليون دولار بنهاية العام الجاري، لكن الصين سبقت الولايات المتحدة في جزيرة غرينلاند التي لا تبعد سوى 16 كم عن الحدود الشرقية لكندا، ونجحت الصين من خلال أذرعها الاستثمارية المختلفة في الولوج الى اقتصاد الجزيرة، الذي يعتمد في الوقت الحالي على الدعم القادم من الدنمارك، حيث نفذت الصين مشروعات إستراتيجية في قطاعات مثل النقل والطاقة الجديدة التي تُوَلَّد من الانحدار الشديد للمياه، ويشكل الوجود الصيني في المحيط الأطلسي عبر جزيرة غرينلاند قلقًا شديدًا للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وترى واشنطن أن هذا الوجود الصيني المتقدم في الجزيرة يمكن أن يكون “محطة تجسس صينية” على كل أوروبا والقطب الشمالي، والقوات الأمريكية في ألاسكا وشرق الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وتقوم الحسابات الأمريكية على أن أراضي الجزيرة الشاسعة، وضعف اقتصادها في الوقت نفسه، يغريان حكومة الجزيرة وسكانها بالترحيب بالنفوذ الصيني، وأن أفضل طريقة هي شراء الجزيرة وتنميتها وفق المصالح والرؤية الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وهناك مواقف لفريق ترامب الجديد تؤكد كلها ضرورة أن تسبق الولايات المتحدة الصين في غرينلاند، خاصة بعد أن أعلنت الصين نفسها “دولة قطبية” عام 2018، وقيام هانز إينوكسن، رئيس وزراء غرينلاند الأسبق، بزيارة الصين عام 2005، ثم زيارة وزير الأراضي والموارد الصيني للجزيرة عام 2012، لكن ما أزعج واشنطن هو طلب بيجين “شراء ميناء مهجور” في الجزيرة، وتقول الولايات المتحدة إن جراءة الطلب الصيني لم تأتِ من فراغ؛ فقد أصبحت الصين ثاني شريك تجاري لغرينلاند بعد الدنمارك، وأكبر مستثمر في الجزيرة بنحو  ملياري دولار في الفترة من عام 2012 حتى عام 2017، وهو ما يمثل نحو 11% من الناتج القومي لغرينلاند، التي سمحت بالفعل -لأول مرة- لشركة صينية بأن تعمل في مجال التعدين بداية من عام 2018.

ثانيًا- نشر الصواريخ النووية 

بعد انسحاب الولايات المتحدة وروسيا من معاهدة “منع إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا”، التي تستطيع حمل روؤس نووية، في أغسطس 2019، سعت الولايات المتحدة إلى نشر هذه الصواريخ في القاعدة العسكرية الأمريكية في غرينلاند، لكن المناقشات التي جرت بين الدنمارك والولايات المتحدة كشفت عن عدم ترحيب الدنمارك بنشر هذه الصواريخ التي تحمل رؤوسًا نووية في الجزيرة، وتتخوف الولايات المتحدة من أن تسبقها روسيا في نشر الصواريخ المتوسطة المدى التي تحمل رؤوسًا نووية في الجزء الشمالي الغربي من روسيا القريب من كندا والولايات المتحدة؛ ولهذا تعتقد واشنطن أن شراء أكثر من 2.1 مليون كم من الأراضي في غرينلاند يشكل “خط دفاع أماميًّا” عن الأراضي الأمريكية، وهذا بالضبط من طالبت به “القوة الفضائية الأمريكية” التي اعتبرت الجزيرة موقعًا إستراتيجيًّا لمهام الدفاع الصاروخي، ومراقبة الفضاء، والأمن القومي الأمريكي، خاصة أن غرينلاند أثبتت أهميتها للعمق القومي الأمريكي؛ لأنها تربط بين شمال غرب أوروبا وشمال شرق أمريكا الشمالية، ويستخدمها بالفعل سلاح الجو والدفاع الجوي الأمريكي في الوقت الحالي، وثبت أن محطة الرادار التي نُشرت في الجزيرة ضمن منظومة الصواريخ الباليستية، ومنظومة الإنذار المبكر الأمريكية، تضطلع بدور كبير في الدفاع عن الأراضي الأمريكية، فضلًا عن أن واشنطن تقول إن الولايات المتحدة والدنمارك في حاجة إلى مزيد من التنسيق الدفاعي ضد ما تصفه مراكز الأبحاث الأمريكية بأنشطة روسيا المتزايدة بالقرب من هذه الجزيرة.

ثالثًا- تعزيز موقع الولايات المتحدة في القطب الشمالي

تبعد جزيرة غرينلاند 1600 كم فقط عن القطب الشمالي، كما أن الصين أعلنت نفسها دولة قطبية منذ عام 2018، وأصبحت ضمن الدول التي تتمتع بعضوية مراقب في المجلس القطبي، ووفق كل الحسابات والتقديرات المستقلة، فإن روسيا تسبق الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين بمراحل كثيرة في القطب الشمالي، وتحتاج واشنطن إلى عقدين من الزمن على الأقل للحاق بموسكو في القطب الشمالي، حيث باتت الولايات المتحدة جزءًا من الدول المتشاطئة للقطب الشمالي عبر سفوح ولاية ألاسكا، لكن شراء الولايات المتحدة لجزيرة غرينلاند يجعلها في موقع إستراتيجي قوي أمام التفوق الروسي في القطب الشمالي، ويجعلها على قدم المساواة مع روسيا في “مجلس القطب الشمالي” الذي يضم الدول المتشاطئة والمتداخلة مع القطب الشمالي، والذي ينظر إليه بوصفه الكنز والثروة الحقيقية في العقود المقبلة.

رابعًا- المواد النادرة

في الوقت الحالي، تشتري الولايات المتحدة غالبية المواد النادرة من مصدرين رئيسين، هما الصين وإفريقيا، وكثيرًا ما تهدد الصين بوقف بيع المواد النادرة التي تدخل في صناعة الصواريخ والأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي إلى الولايات المتحدة؛ ردًا على العقوبات والقرارات الأمريكية بحق بعض الشركات الصينية، وفي ظل ارتفاع حرارة الأرض، والتوقعات بذوبات الجليد، فإن واشنطن لم تعد ترى في جزيرة غرينلاند “مساحة من الجليد” كما قال مارك بيرنز، وزير خارجية الرئيس هاري ترومان؛ بل يمكن أن تشكل الجزيرة البديل لتوريد جميع أنواع المواد النادرة، بالإضافة الى أن هناك تقديرات تؤكد وجود كميات كبيرة من النفط والغاز في غرينلاند.

المؤكد أن سعى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى شراء أكبر جزيرة في العالم لم يأتِ من فراغ، وبالإضافة إلى الأسباب العسكرية والجيو-إستراتيجية، فهو يريد أن يتوج مسيرة أمريكية طويلة من المساعي لانتزاع غرينلاند، بدأت منذ عهد أبراهام لينكولن.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق