لماذا ماكاو الأغنى من أي وقت مضى لا تزال تطمح للمزيد؟
قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 21-12-2024
لقد باتت ماكاو، المعروفة بلقب “عاصمة المقامرة” في العالم، رمزا للثراء لعقود.
ومنذ انتقالها السلمي من الحكم البرتغالي إلى منطقة إدارية خاصة للصين في يوم 20 ديسمبر 1999، حافظت ماكاو على ثقافتها وتراثها، اللذين يعدان مزيجا غنيا بين الشرق والغرب، إلى حد كبير. ومن السهل رؤية ذلك في عنوان مدونة سفر خاصة بأحد مشاهير منصة “يوتيوب”، “لن تصدق أن هذه هي الصين”.
وبمناسبة الذكرى السنوية الـ25 لإنشاء منطقة ماكاو الإدارية الخاصة، واجه قادة ماكاو وسكانها مسألة أساسية: في مدينة تبدو وكأنها تمتلك كل شيء، ما هي الخطوة التالية؟
مواصلة المضي قدما نحو الأمام
في ثمانينات القرن العشرين، شرح الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ مفهوم “دولة واحدة ونظامان” بالتفصيل. وقد ضمنت هذه الفكرة الحفاظ على الخصائص الفريدة لهونغ كونغ، التي ترتبط الآن بماكاو من خلال أطول جسر نفق عابر للبحار في العالم، بعد انتقالها من الحكم الاستعماري البريطاني إلى منطقة إدارية خاصة للصين.
إن إحدى الطرق الجيدة لفهم “دولة واحدة ونظامان” هي من خلال مفهوم “عِش ودع غيرك يعيش وازدهر في تناغم”، أي أنه يمكن لهونغ كونغ وماكاو الحفاظ على خصائصهما مع المساهمة في والاستفادة من التنمية الأوسع نطاقا للأمة الصينية الموحدة.
وهذه الرؤية تتجاوز حدود البلاغة. أصبحت ثقافة سباق الخيل التي يعود تاريخها إلى قرن من الزمان في هونغ كونغ رمزا للاستمرارية، بينما بات قطاعها المالي المترابط عالميا من بين الأفضل في العالم. وتستمر المشاهد الترفيهية للمدينة في عكس تقاليد نمط الحياة بها.
وتم تطبيق نفس المبدأ في ماكاو، التي تحتفظ بأنظمتها الاجتماعية والاقتصادية المميزة في هذا الإطار. وجاءت صناعة القمار في ماكاو كمثال لهذا الترتيب في الممارسة العملية نظرا لأن المقامرة في الكازينوهات محظورة في جميع أنحاء البر الرئيسي الصيني. وفي عام 2006، تجاوزت إيرادات ألعاب المقامرة في ماكاو نظيرتها في لاس فيغاس، مما عزز مكانتها كأكبر مركز للمقامرة في العالم. ويجسد هذا المرونة الخاصة لنظام ماكاو الاقتصادي في إطار نموذج “النظامين”.
وتمنح سياسة “دولة واحدة ونظامان” ماكاو قدرا كبيرا من الاستقلالية. ويشمل ذلك السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية المستقلة، فضلا عن سلطة التحكيم النهائي. وفي حين تظل الشؤون الخارجية تحت سلطة الحكومة المركزية في بكين، فإن القانون الأساسي لمنطقة ماكاو الإدارية الخاصة يسمح لها بإدارة بعض المسائل الخارجية بشكل مستقل.
فعلى سبيل المثال، يمكن لماكاو التفاوض والتوقيع على اتفاقات مع دول ومناطق ومنظمات دولية بشأن موضوعات مثل التجارة والتعاون الاقتصادي والمالية والشحن والاتصالات والسياحة والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والرياضة، باسم “ماكاو، الصين”.
إن مبدأ “دولة واحدة” يشكل جوهر هذا الإطار. ويلاحظ المراقبون أن ماكاو أظهرت شعورا قويا بالهوية الوطنية، وكانت الروح الوطنية واضحة حتى قبل التسليم. كما لعب رواد الأعمال من ماكاو دورا في تعزيز العلاقات الاقتصادية، والمساهمة في الإصلاح والانفتاح في الصين من خلال إدخال التكنولوجيا والخبرة الإدارية إلى البر الرئيسي.
ومنذ عودتها إلى الوطن الأم، خضع النظام القضائي في ماكاو لإصلاحات تهدف إلى تحسين إمكانية الوصول والتمثيل، بما يتماشى مع مبدأ “أهالي ماكاو يديرون شؤون ماكاو”. وشملت التغييرات زيادة التمثيل المحلي داخل القضاء، واستخدام اللغة الصينية القياسية كلغة أساسية في قاعات المحاكم، والتعامل بشكل منفصل مع القضايا المدنية والجنائية لتعزيز الكفاءة.
وتم سنّ أو تعديل أكثر من 400 قانون في منطقة ماكاو الإدارية الخاصة منذ عام 1999، بما في ذلك اعتماد قانون الأمن القومي في عام 2009، والذي تم تسليط الضوء عليه كجزء من الجهود الرامية إلى مواءمة الحوكمة مع سياسة “دولة واحدة ونظامان”.
وقال كو هوي إن، كبير المشرعين في ماكاو: “عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، فإن هناك إجماع واضح بين المشرعين على أن ما يفيد البلاد يفيد ماكاو”.
لقد سلطت تجارب ماكاو وهونغ كونغ الضوء على الترابط بين عنصري “دولة واحدة” و”نظامان”. وبدون عنصر “دولة واحدة”، فإن نموذج “النظامان” سيواجه تحديات في الحفاظ على استقراره. ونظر المراقبون إلى الفخر الوطني والاستقرار المحلي باعتبارهما مساهمين رئيسيين في التنمية المتناغمة نسبيا في ماكاو. وفي الوقت نفسه، أشيرت إلى الاضطرابات الاجتماعية في هونغ كونغ في عام 2019 باعتبارها لحظة أكدت على أهمية الوفاء بالمتطلبات الدستورية، مثل حماية الأمن القومي، للحفاظ على الاستقرار.
ووُصِفَت العلاقة بين عنصري “دولة واحدة” و”نظامان” مجازيا بأنها أشبه بالقلب الذي يضخ الدم لدعم الحياة. ويرى أنصار هذا الرأي أن مبدأ “دولة واحدة” ضروري للحفاظ على حيوية وفعالية “النظامان”، ما يسمح لهما بالعمل في انسجام.
الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي
إن الاستمرارية التي تم ضمانها لماكاو لم تؤد إلى الركود، بل إنها بدلا من ذلك وفرت الأساس للتقدم الملحوظ. وقد تم التعامل بشكل منهجي على مر السنين مع العديد من التحديات التي واجهتها ماكاو قبل عودتها إلى الوطن الأم في عام 1999، بما في ذلك تلك الناجمة عن تاريخ خضوعها للاستعمار.
وقبل عام 1999، واجهت ماكاو تحديات اجتماعية واقتصادية خطيرة، بما في ذلك سنوات من النمو السلبي ومعدلات البطالة المرتفعة وتدهور السلامة العامة. في عام 1999، سجلت ماكاو، التي كان عدد سكانها آنذاك حوالي 437 ألف نسمة، 49 جريمة قتل و65 حالة اختطاف في عام واحد.
ولكن منذ عام 2003، حافظت المنطقة على سجل خالٍ من حوادث جرائم العنف الخطيرة أو معدل منخفض للغاية لها، وأصبحت الآن واحدة من المناطق التي تتمتع بأفضل مستويات السلامة العامة في العالم.
وقال وونغ سيو تشاك، سكرتير الأمن في حكومة منطقة ماكاو الإدارية الخاصة، إن الدعم القوي من الحكومة المركزية يعمل كضمانة وقوة ردع قويتين ضد الأنشطة غير القانونية، في حين تضمن القيادة الفعّالة من قبل الرئيس التنفيذي لمنطقة ماكاو الإدارية الخاصة تدابير فعّالة لمكافحة الجريمة.
ومن الناحية الاقتصادية، شهدت ماكاو خلال الفترة بين عامي 1999 و2024، أكثر عصورها ازدهارا، ويتجسد ذلك في التطور السريع وتحسن مستوى المعيشة، والشعور المعزز بالرضا والسعادة لدى سكانها.
- شهد اقتصاد ماكاو طفرة منذ عودتها إلى الوطن الأم. احتل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المرتبة الـ40 عالميا في عام 1999. والآن أصبحت ماكاو ثاني أغنى مكان في العالم بعد لوكسمبورغ، وفقا لتصنيف مجلة فوربس لأغنى الدول والمناطق في العالم؛
- توسعت صناعة السياحة بشكل كبير من 6.6 مليون زائر في عام 1999 لتصل إلى 39.4 مليون في عام 2019. ووصل هذا العدد خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024 إلى 19.74 مليون، ما يعادل نحو 83 في المائة من مستوى ما قبل جائحة كوفيد-19 خلال الفترة من يناير إلى يوليو في عام 2019؛
- يبلغ متوسط العمر المتوقع في المنطقة 83.1 عام، وهو من بين أعلى المعدلات على مستوى العالم؛
- بلغ متوسط معدل البطالة أقل من 2 في المائة منذ عام 2012، ما يقارب العمالة الكاملة.
وعلى الرغم من الإنجازات الملحوظة، فقد انكشفت عيوب اعتماد ماكاو الشديد على صناعة واحدة بسبب تأثير جائحة كوفيد-19، ما أدى إلى تقلبات اقتصادية حادة.
وإدراكا لهذه الحقيقة، وبفضل الدعم القوي من الحكومة المركزية، عملت ماكاو بشكل نشط على استكشاف التنوع الاقتصادي المعتدل.
وتوجه استراتيجية “1+4” الآن نمو ماكاو، بهدف تحقيق اقتصاد متوازن ومرن. ويركز “1” على تعزيز السياحة والترفيه لجعل ماكاو وجهة عالمية المستوى، بينما تستهدف “4” تطوير صناعات الصحة الشاملة والتمويل الحديث والتكنولوجيا الفائقة، فضلا عن الصناعات المتعلقة بالثقافة والرياضة والتجارة.
وقد أظهر هذا التنويع بالفعل نتائج واعدة. وحتى عام 2023، شكلت القطاعات غير المتعلقة بالقمار أكثر من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لماكاو.
الأمر الكبير
بينما تحتفل ماكاو بربع قرن على عودتها إلى الوطن الأم، فإنها تواجه سؤالا حاسما:
ما هي الخطوة التالية لمدينة حققت بالفعل ازدهارا كبيرا؟
بالنسبة للعديد من الزوار، غالبا ما يتم تبسيط ماكاو بشكل مفرط ووصفها على أنها مجرد عاصمة للترفيه، أو “لاس فيغاس الشرق”.
ومع ذلك، فإن ماكاو هي أكثر بكثير من مجرد خلفية للمشهد السياحي، إذ يتشابك مستقبلها بعمق مع طموحات الصين الأوسع نطاقا، بما في ذلك مبادرات مثل منطقة خليج قوانغدونغ-هونغ كونغ-ماكاو الكبرى و”الحزام والطريق”، مما يضع ماكاو كجزء لا يتجزأ من السرد العالمي للصين.
وبدعم من الحكومة المركزية، تحتفظ ماكاو الآن بعلاقات تجارية مع أكثر من 120 دولة ومنطقة، وهي عضو في أكثر من 190 منظمة دولية. ويتمتع حاملو جواز سفر منطقة ماكاو الإدارية الخاصة بميزة الدخول بدون تأشيرة أو التأشيرة عند الوصول إلى 147 دولة ومنطقة، في حين أن وضع ماكاو كمنطقة جمركية مستقلة وميناء حر لم يتغير.
ويصنف نظام الضرائب المنخفضة في ماكاو من بين أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم، وتعترف منظمة التجارة العالمية بها كواحدة من أكثر الاقتصادات انفتاحا على التجارة والاستثمار.
تعتبر ماكاو، والتي تعد اللغتان الصينية والبرتغالية لغتين رسميتين بها وتتمتع بأوجه تشابه لغوية وقانونية مع البلدان الناطقة بالبرتغالية، تعتبر بطبيعة الحال منصة خدمات للتعاون التجاري بين الصين والدول الناطقة بالبرتغالية التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 300 مليون نسمة.
هذا وتستضيف المدينة منتدى التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والدول الناطقة باللغة البرتغالية، المعروف أيضا باسم منتدى ماكاو، والذي يعتبر المنصة الصينية متعددة الأطراف الوحيدة التي تستفيد من العلاقات اللغوية. ومنذ إطلاق المنتدى، نمت التجارة بين الصين وهذه الدول بنحو 20 ضعفا.
وفي عام 2021، شكلت حكومة منطقة ماكاو الإدارية الخاصة لجنة لتعميق الاندماج في التنمية الوطنية، مع التركيز على مبادرات مثل “الحزام والطريق” وخطة منطقة الخليج الكبرى. وفي العام نفسه، تم إطلاق منطقة التعاون المعمق بين قوانغدونغ وماكاو في جزيرة هنغتشين المجاورة، وهو ما يمثل علامة فارقة في التعاون الإقليمي.
وتعمل منطقة التعاون المعمق، التي وسعت مساحة التنمية لماكاو بأكثر من 100 كيلومتر مربع، كمنصة مهمة لأكثر من 6500 شركة ممولة من ماكاو، مما يجعلها المنطقة التي يتركز فيها أكبر عدد من الشركات الممولة من ماكاو في البر الرئيسي الصيني.
وكما أشار كارلوس سيد ألفاريس، رئيس وفد ماكاو التابع لغرفة التجارة والصناعة البرتغالية-الصينية: “قد تكون ماكاو صغيرة، لكن إمكانات منطقة الخليج الكبرى هائلة”.
وأضاف قائلا: “لذلك لم أتحدث أبدا عن 700 ألف نسمة في ماكاو، بل أتحدث عن 80 مليون شخص في منطقة الخليج الكبرى”.
وتسعى ماكاو إلى تحقيق ذاتها من خلال تحديد موقعها على النحو التالي:
- مركز عالمي للسياحة والترفيه، يربط بين الشرق والغرب.
- منصة ذهبية للتعاون التجاري بين الصين والدول الناطقة باللغة البرتغالية.
- قاعدة توليدية للتبادل والتعاون في ظل “دولة واحدة ونظامان”، حيث تسود الثقافة الصينية بينما تتعايش الثقافات المتنوعة بشكل متناغم.
ويحلم الشباب في ماكاو أحلاما أكبر من أي وقت مضى، حيث يختار الكثير منهم تجاوز الصناعات التقليدية المستقرة وخوض تحديات الابتكار وريادة الأعمال. وباعتبارها أرضا للإمكانات المعاد تصورها، تعد ماكاو جسرا ديناميكيا يربط ماضيها الغني بالمستقبل الواعد للوطن الأم، بينما تبحر بسلاسة في بحر شاسع من الآفاق العالمية.
المصدر: وكالة شينخوا