أخبار العالمأمريكابحوث ودراسات

لقاء ترامب وممداني.. حين يكشف المختلفون ما تخفيه السياسة الأمريكية!!

لم يكن اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالسياسي التقدمي وعمدة نيويورك المنتخب زهران ممداني؛ مجرد مشهد عابر أو لقطة إعلامية، بل كان اختبارا كاشفا لعمق التحولات الجارية داخل السياسة والمجتمع الأمريكي. رجلان يمثلان اتجاهين متناقضين:

  • ترامب رمز اليمين الشعبوي، المقرّب من اللوبي الصهيوني.
  • ممداني من أبرز الأصوات التقدمية المعادية للعنصرية، والمدافعة عن حقوق الفلسطينيين، والذي وصف ما جرى في غزة بأنه إبادة جماعية مكتملة الأركان.

ورغم المعركة الانتخابية الشرسة بينهما قبل أسابيع، جلس الاثنان على طاولة واحدة. هذا المشهد بحد ذاته يُعلّمنا أكثر مما يقوله السياسيون أنفسهم.

السياسة حين تتجاوز الخصومة: مصلحة الدولة قبل مصلحة الحزب

المشهد يقدم درسا كبيرا للعالم العربي والإسلامي، الذي تتحول فيه الخلافات السياسية إلى قطيعة، وحروب صغيرة، وتخوين، وانشقاقات لا تنتهي

في التجربة الأمريكية، قد يشتد الخلاف لحدِّ التخوين السياسي، لكنَّ قواعد اللعبة لا تنهار. لكل طرف رأيه، ورؤيته، وصراعه، لكن حين تتطلب “مصلحة الدولة” حضورا مشتركا، تظهر القدرة على تجاوز الألم السياسي. الأمريكيون يختلفون بشراسة، لكنهم يحتفظون بقواعد ثلاث:

  • الخلاف ليس خصومة شخصية.
  • المعركة الانتخابية ليست حرب وجود.
  • الهدف النهائي هو الحفاظ على شكل الدولة ومصالحها القومية.

هذه القدرة على إدارة الخلاف لا يلغيها الصراع الفكري، بل ينظمها.

ممداني… صوت أخلاقي في وجه ماكينة النفوذ الصهيوني

ما قدمه ممداني خلال العدوان على غزة لم يكن خطابا سياسيا فقط، بل ضميرا إنسانيا صادما للنظام الأمريكي. فقد أعلن صراحة أن ما جرى في غزة إبادة جماعية، وأن الكيان يمارس نظام فصل عنصري، وأن دعم واشنطن الأعمى لإسرائيل يسقط الأخلاق الأمريكية ويشوّه صورتها عالميا.

هذا الموقف -مهما بدا محدودا- يمثل جزءا من موجة جديدة داخل أمريكا نفسها: جيل شاب، تقدمي، أكثر جرأة في مواجهة إسرائيل من أي وقت مضى.

ضوابط الخلاف وتقبّل الآخر… دروسٌ نحتاجها نحن قبل غيرنا

المشهد يقدم درسا كبيرا للعالم العربي والإسلامي، الذي تتحول فيه الخلافات السياسية إلى قطيعة، وحروب صغيرة، وتخوين، وانشقاقات لا تنتهي. ضوابط الخلاف التي ظهرت ضمنيا في لقاء ترامب وممداني يمكن تلخيصها في:

  • احترام مساحة الآخر مهما كان مخالفا.
  • الاعتراف بشرعية وجود رأي مضاد.
  • عدم تحويل الخصومة السياسية إلى عداوة مجتمعية.
  • الحفاظ على خطوط العودة للحوار.
  • تقديم المصلحة الكبرى (مصلحة الأمة- الدولة- الشعب) على الانتصار للذات. هذه القواعد ليست عندهم من أجل الأخلاق، بل من أجل استمرار الدولة.

إشارات التحول داخل الغرب… الغرب لم يعد كما كان

التحولات الجارية تجاه إسرائيل ليست حدثا عابرا: فالجامعات الأمريكية لأول مرة منذ عقود تنتفض ضد إسرائيل، والإعلام المستقل يكسر احتكار الرواية الصهيونية، وجيل الشباب الأمريكي (18-35 عاما) أصبح أكثر دعما لفلسطين من أي وقت سابق، والديمقراطيون يشهدون انقساما غير مسبوق بسبب غزة، وسياسيون في الكونغرس لأول مرة يصفون إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري. والكنائس الغربية بدأت تراجع مواقفها من اللاهوت الصهيوني السياسي.. الخ.

هذه ليست ظواهر بسيطة، إنها صدوع استراتيجية في الجدار الأخلاقي والسياسي للغرب.

ومع ذلك… الصهيونية ما زالت تملك نفوذا هائلا

يجب أن نقرأ التحولات بوعي؛ فالصهيونية مازالت تسيطر على رأس المال العالمي، وعلى الإعلام الكبير وشركات التكنولوجيا المؤثرة، وقطاعات الأمن والسياسة في أمريكا، إلى جانب تحالف رأس المال مع السلطة، وشبكات النفوذ المسيحية الصهيونية.

إنها ليست في لحظة انهيار، ولكن في لحظة ارتباك، وربما بداية انكشاف أمام الرأي العام العالمي.

القراءة الاستراتيجية للمشهد: ماذا يعني لقاء ترامب وممداني؟

هذا اللقاء يكشف خمس حقائق كبرى في الساحة الدولية:

أولا: وجود شرخ حقيقي داخل المجتمع الأمريكي:

هناك معركة قيمية حادة بين أمريكا القديمة المرتبطة بالنفوذ الصهيوني، وأمريكا الجديدة التي ترى غزة بعيون إنسانية لا أيديولوجية.

ثانيا: السياسة الأمريكية تتأرجح بين المصلحة والأيديولوجيا:

رغم دعمها التقليدي لإسرائيل، تدرك واشنطن أن الاحتلال بات عبئا أخلاقيا وسياسيا وثقيلا على سمعتها.

ثالثا: إسرائيل تخسر أخلاقيا وتربح سياسيا مؤقتا:

خسارة الرواية الإسرائيلية في العالم غير مسبوقة منذ 75 عاما، لكن اللوبي ما زال قادرا على التأثير في القرارات.

الفرصة أمام الأمة اليوم تتطلب خطابا موحَّدا، ومشروعا سياسيا أخلاقيا، وقدرة على قراءة التحولات الغربية بدقة، وذكاء في صناعة التحالفات الجديدة

رابعا: الصراع داخل الغرب قد يصنع تحولات كبرى مستقبلا:

الجيل الجديد يرفض خطاب “الأمن لإسرائيل”، ويؤمن بالعدالة للفلسطينيين. هذه قنبلة زمنية قد تغيّر شكل السياسات بعد عشر سنوات.

خامسا: على العرب والمسلمين استثمار التصدّع:

 المشهد يخلق فرصة تاريخية لصناعة رأي عام عالمي جديد، بشرط توحيد الخطاب الفلسطيني والعربي، والاستثمار في الإعلام الرقمي، وبناء سردية جديد مضاد للرواية الصهيونية، ودعم الأصوات التقدمية في الغرب.

الدرس الأخير: حين يختلفون يتقدمون.. وحين نختلف نتفكك

السياسيون في أمريكا يختلفون في كل شيء، لكنهم يجتمعون على أمريكا أولا”، حتى لو كان كل واحد منهم يراها بطريقته، بينما نحن -في العالم العربي- نختلف على كل شيء، ولا نتفق حتى على عناوين القيم الكبرى.

هذه المقارنة ليست جلدا للذات، بل دعوة للوعي: إذا أردنا مواجهة المشروع الصهيوني، فلا بدّ أن نتعلم من قواعد إدارة الخلاف، ومن آليات توحيد الصف خلف هدف كبير.

خلاصة سياسية استراتيجية

  • الغرب يعيش تحوّلا أخلاقيا عميقا تجاه إسرائيل، والنفوذ الصهيوني ما زال قويا، لكنه يعاني تآكلا في المصداقية.
  • لقاء ترامب وممداني نموذج للسياسة التي تتجاوز الخلاف، وترى مصلحة الدولة فوق الصراع الشخصي.

الفرصة أمام الأمة اليوم تتطلب خطابا موحَّدا، ومشروعا سياسيا أخلاقيا، وقدرة على قراءة التحولات الغربية بدقة، وذكاء في صناعة التحالفات الجديدة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق