لبنان أمام مفترق طرق
إعداد جوني منيّر: الكاتب والمحلل السياسي اللبناني 20-09-2024
لا جدال في أنّ عملية التفجير عبر جهاز “البايجر” التي نفّذتها إسرائيل ضدّ “حزب الله”، تُعتبر سابقة على الصعيد العالمي في العمل الإستخباراتي، فهي بمثابة الضربة “تحت الحزام”.
ووفق شهادات معنيين، فإنّ البرمجة التي حصلت لحظت الآتي: تأتي رسالة إلى النسخة الجديدة من الجهاز، والتي كانت قد وصلت منذ أشهر معدودة، لينفجر الجهاز بعد 10 ثوانٍ وهي المهلة المقدّرة كي يكون حامل الجهاز قد أخذه ووضعه أمام عينيه لقراءة الرسالة.
ومن البديهي الإعتقاد أنّ “حزب الله” الذي كان قد منع عناصره من التواصل عبر الهاتف الخلوي، عمل على تزويد قادة مجموعاته القتالية (إضافة إلى مسؤولين لوجستيين وفي القطاع الطبي وآخرين …) بهذه الأجهزة، لتأمين التواصل معهم، كبديل عن وسائل التواصل الأخرى بما فيها شبكة الهاتف الداخلية الخاصة بـ”حزب الله” والتي كان قد أنشأها سابقاً، بعدما كان اكتشف خرقاً إسرائيلياً لها عند بداية الحرب.
ولن يستطيع أحد تقدير حجم الأضرار والنتائج المترتبة التي وقعت سوى قيادة “حزب الله” نفسها، وهو ما سيحتاج بلا شك لبعض الوقت.
ومن البديهي أن ترخي الضربة بوقعها الكبير على الحزب، وخصوصاً على بيئته، بعد أشهر من تبادل “اللكمات»” بين “حزب الله” وإسرائيل، وحيث تميّزت ردود الحزب دائماً بـ”المدروسة” و”المدوزنة” انسجاماً مع القراءة السياسية العريضة للواقعين الإقليمي والدولي.
لكن هذه المرّة لمست البيئة الحاضنة لـ”حزب الله” التأثيرات المباشرة لما حصل، ما جعلها تقف أمام واقع من اثنين: إما التخلّي عن سياسة الردّ المحسوب أو المدروس لمصلحة الردّ الكامل والقوي، أو تراجع الحماسة لهذه الحرب.
وفي المقابل، لا بدّ من أن تكون القيادة الإسرائيلية قد وضعت كل هذه التقديرات على طاولة النقاش أمامها قبل اتخاذها قرار الشروع بالتنفيذ. مع الإشارة الى أنّ الحكومة الإسرائيلية كانت قد أعلنت على لسان رئيسها بنيامين نتنياهو قرار توسيع العمليات العسكرية عند “الجبهة الشمالية” ونقل التركيز العسكري من غزة إلى الحدود مع لبنان.
ومن البديهي الاعتقاد بأنّ ضربة من هذا النوع تطال جزءاً كبيراً من “ضباط” المجموعات الميدانية، كان يمكن أن تعطي نتيجة أفعل لو تزامنت مع بدء عملية برّية. فالضربة ستخلق بلا شك حال إرباك على مستوى المجموعات القتالية، ما سيمنح نقاطاً لصالح التقدّم البري. لكن التحرك البري لم يحصل.
والسؤال هنا: ما هو الهدف الحقيقي الذي حدا بنتنياهو لاتخاذ قرار تنفيذ عمليته الآن؟
في الواقع ثمة هدف من اثنين قد يكون خلف توقيت نتنياهو لعمليته:
الهدف الأول:
هو سعي إسرائيل الى حشر قيادة “حزب الله” في الزاوية، وجعلها ملزمة أمام بيئتها بالذهاب الى ردّ قوي وعنيف، قد يصل الى استهداف مدنيين إسرائيليين، طالما أنّ إسرائيل بدأت بتسديد ضربات “تحت الحزام” وذهب ضحيتها مدنيون أيضاً.
وفي هذه الحالة تصبح إسرائيل في موقع يمنحها التبرير المطلوب امام الرأي العام الغربي، وخصوصاً الأميركي، لشن الحرب المفتوحة على لبنان. فخلال الأسابيع الماضية، ووفق ما أعلن عن التواصل الأميركي ـ الإسرائيلي والذي كان آخره مع زيارة موفد الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين إلى إسرائيل، ظهر ضغط أميركي كبير لمنع نتنياهو من الذهاب إلى الحرب مع لبنان.
فالإدارة الأميركية تدرك جيدا أنّ من الأهداف التي يتوخاها “الثعلب” نتنياهو ليس فقط توجيه ضربة تدميرية لـ”حزب الله” في الجنوب اللبناني، بل أيضاً إقحام الإدارة الديموقراطية في البيت الأبيض بحرب كلها وحول، على أبواب الإنتخابات الأميركية.
فواشنطن وفي حال تعرّض إسرائيل لردّ قاس من “حزب الله” من نوع “تحت الحزام” أيضاً، ستصبح ملزمة بمساندة إسرائيل عسكرياً والتورط في تأمين خاصرتها في وجه إيران والحوثيين والمجموعات الحليفة. وهذا هو بالضبط ما يريده نتنياهو في أن يدفع “حزب الله” للخروج عن طوره ليمتلك حجة بدء الحرب المفتوحة.
أما الهدف الثاني:
فهو توجيه ضربات موجعة تطاول التركيبة القتالية لـ”حزب الله” لتكون بمثابة الخطوة الأولى لمرحلة طويلة من “حملة” توسيع دائرة النزاع والتي كان وصفها نتنياهو منذ أيام بأنّها ستكون متدرجة وعلى امتداد أسابيع أو أشهر. فالذين يحملون “البايجر” مسؤولون ميدانيون ومهمّاتهم دقيقة، بدليل أنّ السفير الإيراني مجتبى أماني كان يمتلك أحد هذه الأجهزة، وهو ما يعكس الأهمية العالية للتواصل عبر هذه الشبكة.
ولا شك في أنّ لبنان دخل مرحلة جديدة وخطيرة. فمنذ أيام أضاف نتنياهو هدفاً رابعاً لأطول حرب تخوضها إسرائيل وتصنّفها بأنّها وجودية. فإضافة إلى القضاء على “حماس” (لم يتحقق بعد) وإعادة جميع الرهائن (لم يتحقق أيضاً) وضمان عدم تشكيل غزة أي تهديد لإسرائيل، أضاف نتنياهو بند عودة سكان المستوطنات الى بيوتهم كهدف جديد.
وخلال الساعات الماضية وكترجمة لجدّية تحركه في اتجاه جنوب لبنان، تمّ نقل الفرقة 98 الهجومية في الجيش الإسرائيلي من خان يونس الى الحدود مع لبنان، لتنضمّ الى فرقة المظليين والكومندوس والفرقة 36، وفق ما نقل موقع “تايمز أوف إسرائيل”.
التقديرات الغربية كانت تتوقع عملاً إسرائيلياً نوعياً تمهيداً للهجوم، ولكن في الجولان وليس في لبنان. ذلك أنّ التوقعات كلها تشير الى أنّ اسرائيل تريد التقدّم بادئاً عبر الجولان حيث التحصينات العسكرية ضعيفة، وأن تلتف بعدها الى الجنوب من خاصرة البقاع، وهو ما سيؤدي الى إنشاء شريط حدودي من الجولان الى الناقورة.
وتروي أوساط ديبلوماسية أنّ قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي (سنتكوم) مايكل كوريلا وخلال زيارته لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل، إطلع على الخطط الموضوعة للحرب على لبنان.
وتشير هذه الأوساط الى أنّ الجنرال الأميركي نقل الى قيادته اعتباره أنّ الخطط جيدة وأنّها تتجنّب الخطوط الحمر التي وضعتها واشنطن. وبالتالي فإنّ هذه الأوساط الديبلوماسية باتت تخشى أن تحصل إسرائيل على دعم المؤسسة العسكرية الأميركية في التوجّه نحو الحرب، وهو ما سيضعف مستوى رفض الإدارة الديموقراطية لها.
لكن هذه الإدارة حققت تقدّماً واضحاً في التفاهم مع إيران من خلال قنوات التفاوض الخاصة، وهو ما يمكن تلمّسه من كلام المرشد الايراني خامنئي حول أنّه يجوز التفاوض مع الأعداء. في وقت تحدث رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان بكثير من الود تجاه واشنطن، ومعلناً عن حاجة الإقتصاد الإيراني الى 100 مليار دولار من الإستثمارات. وسُجّلت في هذا الإطار إشارة سعودية إيجابية بعد يومين على كلام بزكشيان.
ويمكن الإستنتاج وفق ما تقدّم، أنّ لبنان ومعه المنطقة أصبحا أمام مفترق طرق: فإما أن تدفع الحماوة الحاصلة في لبنان والمنطقة ربما الى أتون الحرب، أو أن تشكّل مدخلاً صعباً لإنجاز التسويات، قبل أن تصدر نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية.