كيف تحوّلت غزة إلى مختبر لشركات المراقبة والإبادة الأميركية عبر الذكاء الاصطناعي؟

قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 13-12-2025
في خضمّ حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، لم تعد ساحات القتال محصورة في البرّ والجوّ، بل امتدّت إلى الفضاء الرقمي، حيث تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة مركزية في إدارة الحرب، وصناعة القرار، وإعادة هندسة السيطرة.
فخلف مشاهد الدمار الهائل والضحايا المدنيين، تكشف التحقيقات الاستقصائية عن سباق محموم تخوضه شركات تكنولوجية أميركية كبرى للاستحواذ على “غنائم” غزة، ليس عبر إعادة الإعمار فقط، بل من خلال بناء منظومات مراقبة وتحكم متقدمة تُعيد تعريف مفهوم الاحتلال ذاته.
تشير تحقيقات صحفية، أبرزها ما نشرته مجلة +972 في 28 نوفمبر 2025، إلى أنّ الجيش الإسرائيلي اعتمد بصورة واسعة على منظومة متكاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي طوّرتها شركات عالمية مثل مايكروسوفت وغوغل وأمازون، إلى جانب شركات متخصصة في تحليل البيانات والمراقبة مثل بالانتير (Palantir) وداتاماينر (Dataminr) هذه التقنيات لم تقتصر على الدعم اللوجستي أو التحليل الثانوي، بل أصبحت عنصراً محورياً في تحديد الأهداف، وتصنيف السكان، ومعالجة المعلومات الميدانية بشكل لحظي، ما يضع هذه الشركات في موقع الشريك الفعلي في إدارة الحرب، وليس مجرد مزوّد تقني محايد.
مركز أميركي لإدارة الحرب من جنوب إسرائيل
منذ منتصف أكتوبر، يعمل نحو مائتي عنصر من الجيش الأميركي من مجمّع عسكري ضخم في جنوب إسرائيل، على بُعد نحو عشرين كيلومتراً من شمال قطاع غزة. وقد أُنشئ في هذا الموقع ما يُعرف بـ”مركز التنسيق المدني – العسكري”، والذي قُدّم رسمياً بوصفه إطاراً لتسهيل تنفيذ الخطة الأميركية لما بعد الحرب، المنسوبة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتشمل – وفق الخطاب المعلن – نزع سلاح حماس، وإعادة إعمار القطاع، وتهيئة ظروف الاستقرار.
غير أنّ تحقيق +972 يكشف أن هذا المركز لم يكن مجرد غرفة تنسيق سياسية أو إنسانية، بل شكّل بوابة دخول رئيسية لشركات المراقبة الأميركية الخاصة إلى صلب البنية الأمنية المقترحة لغزة ما بعد الحرب.
ووفق وثائق داخلية اطّلعت عليها المجلة، كان لشركتَي بالانتير وداتاماينر حضور مباشر داخل المركز، ما يوضح كيف تُحوّل الحرب إلى فرصة تجارية ضخمة لشركات التكنولوجيا المرتبطة بالمجمع الصناعي–العسكري الأميركي.
بالانتير: ساحة معركة مدعومة بالذكاء الاصطناعي
يبرز اسم بالانتير بوصفه الأكثر تأثيراً في هذا السياق. فالشركة، المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بالمؤسسات الأمنية والاستخباراتية الأميركية، نشرت ممثلاً ميدانياً لمشروعها الشهير “ميفن” داخل مركز التنسيق.
ويُوصف هذا المشروع بأنه منصة متقدمة لإدارة ساحة المعركة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، حيث يجري جمع وتحليل كميات هائلة من بيانات المراقبة الواردة من الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، واعتراض الاتصالات اللاسلكية، وتحليل بيانات الإنترنت، ثم دمجها في واجهة موحّدة تتيح للقادة العسكريين اتخاذ قرارات سريعة استناداً إلى تحليل لحظي.
سبق استخدام منصة “ميفن” في عمليات عسكرية أميركية في اليمن وسورية والعراق، حيث رُوّج لها باعتبارها أداة لتسريع تحديد الأهداف وتنفيذ الضربات الجوية بدقة أعلى. وفي صيف العام الماضي، فازت بالانتير بعقد ضخم بلغت قيمته نحو عشرة مليارات دولار لتحديث هذه المنصة لصالح الجيش الأميركي، ما يعكس الأهمية الاستراتيجية التي بات يحتلها الذكاء الاصطناعي في العقيدة العسكرية الأميركية.
أما في الحالة الإسرائيلية، فقد دخلت الشركة منذ يناير 2024 في شراكة استراتيجية مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، ما أدى إلى توسيع مكتبها في تل أبيب واستقطاب عشرات المهندسين.
اللافت أن هذا التوسع جاء في ذروة الاتهامات الدولية لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة، ومع ذلك دافع المدير التنفيذي للشركة، أليكس كارب، عن هذا التعاون واعتبره “موقفاً أخلاقياً”، معلناً انحيازه الصريح للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ومهاجماً ما يسميه “ثقافة الوعي الاجتماعي” في أوساط شركات التكنولوجيا الأميركية.
داتاماينر: المراقبة الشاملة للفضاء الرقمي
بالتوازي مع ذلك، برزت داخل المركز شركة داتاماينر، التي تمثل نموذجاً متقدماً لشركات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في المراقبة اللحظية للفضاء الرقمي. تعتمد هذه الشركة على علاقاتها الوثيقة بمنصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها منصة “إكس”، لتزويد الحكومات والأجهزة الأمنية بمعلومات فورية حول الأحداث والاتجاهات والتهديدات المحتملة في الزمن الحقيقي.
بدأت داتاماينر نشاطها عندما منحت مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي إمكانية الوصول إلى التدفق الكامل لبيانات مستخدمي تويتر، بهدف مراقبة الأنشطة الإجرامية والإرهابية. ومنذ ذلك الحين، تحوّل منتجها إلى أداة مركزية للأجهزة الأمنية، إذ يتيح تتبع النشاط الرقمي للمستخدمين، وتحليل شبكات العلاقات والتفاعل، وقياس المزاج العام.
ارتبطت الشركة منذ تأسيسها بالبنية الاستخباراتية الأميركية، حيث كان صندوق الاستثمار التابع لوكالة الاستخبارات المركزية (In-Q-Tel) من أوائل مموليها، كما امتلكت تويتر سابقاً حصة في أسهمها. وقد استُخدمت على نطاق واسع خلال إدارة ترامب الأولى لمراقبة احتجاجات “حياة السود مهمة”، ثم في عهد بايدن لمتابعة الناشطين المعارضين لتقييد حقوق الإجهاض، وصولاً إلى استخدامها من قبل شرطة لوس أنجلوس في مارس الماضي لمراقبة التظاهرات المؤيدة لفلسطين ورصد الخطاب الداعم لغزة على الإنترنت.
نحو نموذج احتلال تكنولوجي
تكشف هذه المعطيات عن تحوّل عميق في طبيعة السيطرة على غزة. فبدلاً من الاحتلال العسكري المباشر، تتجه السياسات الأميركية والإسرائيلية إلى تكريس نموذج احتلال قائم على التكنولوجيا والرقابة الرقمية. ورغم تضمّن الخطة الأميركية إشارات غامضة إلى تقليص الوجود العسكري الإسرائيلي وتهيئة ظروف لإقامة دولة فلسطينية، إلا أن مضمون هذه الإشارات لا يعكس التزاماً فعلياً بحق تقرير المصير، بقدر ما يكرّس شكلاً أكثر تطوراً وأقل كلفة من السيطرة.
تُظهر التجارب السابقة، من أوسلو إلى “الانسحاب” عام 2005، أن كل مبادرة قُدّمت بوصفها خطوة نحو السيادة الفلسطينية كانت عملياً وسيلة لإعادة إنتاج الاحتلال بأدوات جديدة. واليوم، يجري اختبار هذا النموذج الأكثر حداثة عبر دمج القدرات الحاسوبية الأميركية مع البنية القتالية الإسرائيلية، وتحويل غزة إلى مختبر ميداني لتقنيات المراقبة والذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، لا تبدو شركات مثل بالانتير وداتاماينر أطرافاً هامشية، بل شريكاً بنيوياً في إنتاج القوة المدمّرة وإدارة ما بعد الحرب. أما صمت هذه الشركات عن التعليق على أدوارها، فيعكس طبيعة هذا التشابك العميق بين قطاع التكنولوجيا والصناعة العسكرية، حيث تتحوّل المعاناة الإنسانية إلى فرصة استثمارية، وتُختزل إعادة الإعمار في إعادة هندسة السيطرة.



