آسياأخبار العالمأمريكابحوث ودراسات

كيف أمسك شي جين بينغ بمقاليد اللعبة مع ترامب؟ بكين قامت بالرهان وهي الآن تحصد المكاسب

تجاوزت الصين الضغوط الاقتصادية التي أعادتها إدارة ترمب، وخرجت هذا العام أكثر قوة دبلوماسياً واستراتيجياً رغم الرسوم والتهديدات، فيما بدت الولايات المتحدة غارقة في تناقضات سياسة غير منضبطة. واستغلت بكين تنازلات واشنطن لتوسيع نفوذها وتأجيل القضايا الكبرى، بينما دفعت ترمب إلى مفاوضات شكلية أبقته بعيداً عن أي مكسب حقيقي.

على رغم وعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق وابل من الضربات الاقتصادية بحق الصين بعد عودته للرئاسة، تمتعت بكين هذا العام وعلى نحو لافت بعام قوي على الصعيد الدبلوماسي، فقد أعادت إدارة ترمب إحياء حربها التجارية مع بكين التي بدأتها خلال رئاسته الأولى ووسعتها، زاعمة أنها ستستخدم المفاوضات التجارية مع دول أخرى للضغط على الصين، غير أن بكين بالكاد كانت معزولة على الصعيد الدولي، وخلال الأشهر التي سبقت اجتماعه مع ترمب في أكتوبر الماضي في كوريا الجنوبية، استضاف الزعيم الصيني شي جينبينغ عدداً من قادة الدول الأجنبية الذين حضروا قمة “منظمة شنغهاي للتعاون”، إضافة إلى استعراض عسكري، وكذلك فإن الصين لم تضعف أمام التهديدات الأميركية، وبعد قضائها معظم العام تتفاعل مع السياسات الأميركية، انتقلت بكين إلى الهجوم فارضة نظاماً موسعاً لمراقبة الصادرات على سلاسل توريد المعادن النادرة قبل أسابيع فقط من اجتماع شي مع ترمب.

وعلى رغم جهود إدارة ترامب في حث بكين على إجراء إصلاحات هيكلية شاملة لاقتصادها، ضاعف شي طموحاته في مجال الاقتصاد التقني الصناعي ضمن خطة الأعوام الخمسة المقبلة، وهي خطة قد تؤدي بحسب المحللين إلى مفاقمة اختلالات التجارة الدولية عبر تعزيز حصة الصين في التصنيع العالمي، وفي حين سارعت معظم الدول المستهدفة بالرسوم الجمركية المفروضة من إدارة ترمب إلى التفاوض، تشبثت الصين بموقفها ولم تتراجع.

استفادت الصين في الواقع من هذا التصلب ولم تتضرر بسببه، فقد انتزع شي من ترمب التزاماً بعقد اجتماعات عدة خلال عام 2026، إضافة إلى تنازلات من الإدارة الأميركية في قضيتين شديدتي الحساسية: تايوان وضوابط التصدير الأميركية.

ووفقاً لكل المقاييس فقد أصبحت الصين دبلوماسياً وإستراتيجياً وتكنولوجياً أفضل حالاً مما كانت عليه قبل عام، وفي المقابل فإن استراتيجية ترمب التي انتقلت بتخبط بين محاولة توجيه ضربات اقتصادية للصين عبر الرسوم الجمركية، ومحاولة استرضائها من خلال سلسلة من التنازلات لم تحقق الكثير، فبكين لم تبد خوفاً أو تراجعاً، فيما بدت الولايات المتحدة في المقابل أقل قدرة على طمأنة الصين أو ردعها، وقد أدرك المسؤولون الصينيون أن إدارة ترمب، على رغم ضجيجها، لن تمضي في تنفيذ وعودها ولا تهديداتها.

ويُظهر قرار الصين الرد بدلاً من الاستسلام فارقاً مهماً بين شي وترمب، فعلى عكس الأخير الذي تعد قدرته المفترضة على عقد الصفقات عنصراً أساساً في هويته السياسية، لا يُبدي شي اهتماماً بالتوصل إلى صفقة كبرى، ونتيجة لذلك تمكنت بكين من إشغال واشنطن بمفاوضات تجارية هامشية نسبياً، بينما يُماطل شي ترمب ويدفعه إلى متابعة مفاوضات شكلية، ويُبعد الضغوط الأميركية عن القضايا الشائكة التي تقع في صلب العلاقة.

لقد تمكنت بكين من الصمود أمام الهجوم التصعيدي الذي شنته واشنطن، والآن يواجه البيت الأبيض خطر الوقوع في أسوأ وضع ممكن: سياسة مرتبكة تجاه الصين تضمن الاحتكاك من دون أن توفر نهجاً منضبطاً لإدارة المنافسة، وشريك تفاوضي في بكين لم يقدم أي تنازلات تُذكر، بينما نجح في إعادة ترمب إلى ما قبل نقطة البداية، وعام كامل من العروض السياسية لم يفض إلى أي مكسب ملموس للولايات المتحدة.

ينبغي دوماً الاستعداد للتنازل 

خلال رئاسة ترمب الأولى وأيضاً خلال رئاسة بايدن، كانت ردود الصين على الرسوم الجمركية الأميركية وضوابط التصدير وتقارب واشنطن المتزايد مع حلفائها وشركائها ردوداً صامتة على نحو لافت حتى أواخر عام 2024، عندها بدأت بكين بالرد على مجموعة الضوابط التكنولوجية الأميركية التي فرضتها إدارة بايدن في أيامها الأخيرة، واعتمدت إجراءات مضادة خاصة بها تحضيراً على الأرجح لحرب تجارية ثانية مع إدارة ترمب المقبلة، لكن سياسة ترمب تجاه الصين، ومنذ عودته للبيت الأبيض، تأرجحت بين العدائية والرغبة في التعاون، فقد أعلنت إدارته في أبريل (نيسان) الماضي رسوم “يوم التحرير” التي تدرجت تصاعدياً حتى وصلت إلى فرض رسوم عقابية بنسبة 145 في المئة على السلع الصينية في ما يشبه حظراً فعلياً، وبعد أن اتفقت الولايات المتحدة والصين في مايو (أيار) الماضي على تهدئة الحرب التجارية، اتخذت واشنطن بعض الإجراءات التنافسية المحدودة على الهامش، ومنها سد الثغرات التي كانت الصين تستغلها في ضوابط التصدير الأميركية، لكن إدارة ترمب سرعان ما قدمت تنازلات كبيرة لبكين بعد مفاوضات يونيو (حزيران) الماضي، إذ خففت ضوابط التصدير على أشباه الموصلات المتقدمة وتراجعت عن قرار حظر بيع رقائق “إنفيديا” من طراز H20 للصين، وهي رقائق يصل مستوى تطورها مباشرة إلى ما دون العتبة القانونية التي تُفعل ضوابط التصدير الأميركية، وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” فقد فكر ترمب قبل اجتماع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لمناقشة بيع رقائق “إنفيديا بلاكويل” المتطورة للغاية للصين، وقبل أن يحذره مستشاروه من ذلك.

لقد جرى تفادي تلك العاقبة الخطرة لكن برزت عاقبة أخرى لا تقل إشكالاً، إذ إن الهدنة التجارية الأخيرة التي أجلت الصين بموجبها تطبيق ضوابط التصدير الموسعة الخاصة بها، أرست سابقة ضارة لأنها نسفت مبدأ إدارة بايدن القائل بأن ضوابط التصدير غير قابلة للتفاوض مع بكين كونها مخصصة لحماية الأمن القومي الأميركي، وفي الوقت نفسه قامت إدارة ترمب أيضاً بتقليص دعمها لتايوان وضغطت على الرئيس التايواني لاي تشينغ تي لإلغاء زيارة دولية (إلى أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية) كان سيتوقف خلالها في الولايات المتحدة، مقلصة دعمها لتايوان إلى مواقف معنوية محدودة على رغم استمرار حملة الضغوط الصينية.

وإضافة إلى ذلك فإن إصرار الإدارة على إعطاء الأولوية القصوى للتجارة جعلها تتجاهل نقاط خلاف دبلوماسية أخرى أكثر حساسية وتضعها جانباً، فسقطت قضايا إستراتيجية عن جدول الأعمال ومن بينها الضغوط الصينية المتزايدة على الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي مع الفيليبين، وعمليات التسلل السيبراني الواسعة إلى أنظمة البنية التحتية الرقمية الأميركية عبر حملتَي “سولت تايفون” و”فولت تايفون”، وأيضاً تراجعت المخاوف الأميركية القديمة في شأن انتهاكات الصين الجسيمة لحقوق الإنسان إلى خلفية المشهد، وهو تحول لافت مقارنة بإدارة ترمب الأولى التي سلطت الضوء على سوء معاملة أقلية الإيغور، وبالفعل تبدو إدارة ترمب الثانية راضية عن إفلات بكين من المحاسبة ما دامت واشنطن تستطيع الادعاء أنها حققت “صفقة لامعة”، بغض النظر عن مدى ضيقها أو سطحيتها أو هشاشتها.

وفي أعقاب القمة التي انعقدت في كوريا الجنوبية (بين ترمب وشي)، أصبح من الصعب تحديد أين وفي أي قضايا بالتحديد تتنافس الولايات المتحدة مع الصين بصورة ذات معنى، إن كانت هناك منافسة أصلاً، لكن الإدارة الأميركية تستحق بعض التقدير لاتخاذها خطوات طال انتظارها للحد من تعرض الولايات المتحدة لهيمنة الصين على العناصر والمعادن النادرة ومعالجتها، لكن تخلي واشنطن عن اعتمادها على المعادن الحيوية التي تُنقى في الصين سيكون على الأرجح عملية أطول وأكثر مشقة مما تقر به إدارة ترمب، فموافقة بكين على تعليق قيودها على بعض صادرات العناصر النادرة مدة عام قد تعيد الولايات المتحدة وحلفاءها والقطاع الخاص لحال من التراخي خلال هذه الفترة.

في الواقع إن التنازلات التكتيكية التي قدمتها بكين لواشنطن لم تفعل سوى إعادة العلاقات الثنائية إلى وضع ما قبل “يوم التحرير”، وهو وضع مريح لبكين حتى لو لم يكن مثالياً، فقد أظهرت الصين مرونة في تطبيق نظام ضوابط التصدير الخاص بها وأدركت حجم النفوذ الذي تملكه على واشنطن وعلى سلاسل الإمداد العالمية، وخسرت القليل جداً في مقابل استخدامها ضوابط التصدير الجديدة تلك، وكانت كلفة هذه المكاسب شبه معدومة، كما عزز قرار إدارة ترمب إرجاء تنفيذ قانون أميركي يُلزم إما بيع تطبيق “تيك توك” أو حظره ودمج مصيره في مفاوضات التجارة، موقع بكين التفاوضي، مانحاً إياها ورقة مقايضة يمكن استخدامها بكلفة شبه معدومة على مصالحها.

وتعكس قضية “تيك توك” هذه التكتيك الدبلوماسي الذي تعتمده بكين في التعامل مع إدارة ترمب الثانية، ويتلخص في تقليص نطاق المناقشات ونقلها من القضايا الإستراتيجية الأساس الكبرى التي تشكل جوهر العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، إلى قضايا تجارية ضيقة لا تشكل محور التنافس الحقيقي، لكنها تحظى بأهمية مبالغ فيها لدى إدارة ترمب ودوائرها الأساس، وحقيقة قيام كبار المسؤولين الأميركيين في هذا السياق بالتفاوض مع نظرائهم الصينيين حول “تيك توك” وليس حول المخاوف الكبيرة والمزمنة في شأن ممارسات الصين غير العادلة وغير المستندة إلى قواعد السوق، تمثل انقلاباً لمصلحة بكين.

وينطبق المنطق نفسه على تعهد الصين شراء فول الصويا من الولايات المتحدة، فقد قدم ترمب هذا التعهد بوصفه تنازلاً مهماً انتزعه من شي في كوريا الجنوبية، على رغم أن صادرات فول الصويا لم تكن قضية تجارية بارزة خلال الأعوام الأخيرة، ومن خلال حصر نقاشاتها مع واشنطن في نطاق مفاوضات تجارية ضيقة، تُغرق الصين صناع السياسات الأميركيين في لعبة “ضرب الخلد”، حيث تجد واشنطن نفسها المشتتة عن معالجة المخاوف الرئيسة حيال السياسات الاقتصادية الصينية التي قيل إنها كانت الدافع وراء رسوم “يوم التحرير”، مضطرة إلى مناشدة بكين للحصول على تسهيلات في كل ملف يبرز على حدة، وقد وقعت إدارة ترمب مراراً في هذا الفخ باحثة عن “انتصارات” صاخبة في العناوين، بدلاً من إحراز أي تقدم حقيقي في العملية الشاقة وغير اللافتة الرامية إلى انتزاع نفوذ فعلي على بكين.

اللعب على عامل الوقت

لكن شي لا يزال تركيزه منصباً على المنافسة الإستراتيجية طويلة الأمد حتى لو لم يكن ترمب كذلك، فبينما يرى ترمب نفسه بارعاً في عقد الصفقات يفضل شي انتظار اللحظة المناسبة كي يوجه ضربته مع احتواء أية تداعيات، وقد اتخذ مخاطرة محسوبة حين قرر الكشف عن ضوابط تصدير واسعة النطاق على المعادن النادرة قبل القمة الأخيرة، وراهن على أن هذه الخطوة لن تستفز رداً أميركياً لأن ترمب كان شديد التوق لإبرام صفقة، وقد نجحت هذه المخاطرة.

عندما تنظر بكين إلى واشنطن فهي لا ترى نقصاً في أوراق القوة لدى الولايات المتحدة بل ترى اختلالها الداخلي، فالمحللون الصينيون يدركون أن واشنطن تمتلك أوراق ضغط، ويمكنها على سبيل المثال قطع وصول الصين إلى سلاسل توريد رئيسة تمر عبر الأراضي الأميركية، لكن الصين تعتقد أن إدارة ترمب لن تقدم على هذه الخطوات لأنها تخشى ردود الفعل الداخلية الناتجة من الألم الاقتصادي الذي قد تسببه أية إجراءات انتقامية صينية، وقد وصل شي إلى كوريا الجنوبية بعد أن رسخ هيمنته السياسية في الداخل من خلال الإطاحة بعدد من كبار المسؤولين وإرساء رؤيته للأعوام الخمسة المقبلة، بينما وصل ترمب بعد أن أشرف على أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة، ويقوّم بعض الأكاديميين الصينيين بالفعل أن إدارة ترمب ستتنازل عن مزيد من النفوذ لبكين خلال العام المقبل بسبب الضغوط الاقتصادية الناتجة من التضخم، والضغوط السياسية الداخلية المتزايدة عقب انتصارات الديمقراطيين في الانتخابات المحلية وحكام الولايات لعام 2025.

ومن المرجح أن تخطط بكين دبلوماسيتها مع إدارة ترمب بناء على انتخابات منتصف الولاية المقبلة، مراهنة على أن ترمب سيكون متحمساً لعقد صفقة يروج لها خلال حملته دعماً للجمهوريين، وأن هذه الحماسة قد تدفعه إلى تقديم تنازلات كبيرة، فقد أدى تعطش ترمب للصفقات إلى إنهاء الحرب التجارية في ولايته الأولى عام 2020 عبر اتفاق “المرحلة الأولى” المتواضع والذي لم يُنفذ معظمه، وعلى رغم إدراك إدارة ترمب أوجه القصور في اتفاق المرحلة الأولى، وخصوصاً عدم وفاء بكين بالتزاماتها الشرائية، فإن ذلك لم يمنع واشنطن حتى الآن من السعي إلى صفقات جديدة مع الصين.

يتمثل هدف شي في إبقاء ترمب مستنزفاً في لعبة “ضرب الخلد” التي يجر واشنطن إليها، لكن ذلك ينطوي على مخاطرة بإثارة إحباط ترمب، فالرئيس قد ينفجر غضباً ويُطلق العنان لـ”الصقور” داخل إدارته المعنيين بالصين والذين جرى تقييدهم منذ أن بدأ كبار المسؤولين الاقتصاديين الأميركيين حوارات متقطعة مع نائب رئيس مجلس الدولة هي ليفينغ في مايو الماضي، لكن هذا الاحتمال يبدو غير مرجح خلال الأشهر المقبلة، فترمب عبر إعلانه على منصات التواصل الاجتماعي أنه ينوي الاجتماع بالزعيم الصيني ثلاث مرات في عام 2026، تخلى عن واحدة من أقوى أوراقه التفاوضية: التدخل المباشر للرئيس نفسه في التفاوض أو الاتصال أو الحوار، وبالنسبة إلى بكين التي سترغب في الاحتفاظ بأية تنازلات محتملة إلى حين استخدامها لإبقاء ترمب ملتزماً بسلسلة اللقاءات التي أعلنها مسبقاً، فلا يوجد ما يدفعها إلى تقديم أي تنازل لواشنطن الآن، فالوقت هو أعظم ما تملكه بكين في هذه المفاوضات، ومع تعهد ترمب العلني بهذه الاجتماعات فقد مُنح شي وقتاً إضافياً.

اتفاق أو لا اتفاق

على رغم كل عيوبها لكن محاولات إدارة ترمب استرضاء بكين قدمت تجربة عملية مفيدة لاختبار ما إذا كان بالإمكان شراء تقارب أو حتى تهدئة من خلال تقديم التنازلات للصين، وتشير الأدلة إلى أن بكين لا تبدي اهتماماً يذكر بالتوصل إلى أية تهدئة، فمع أن الإدارة الأميركية قدمت تنازلات كبيرة في اثنتين من القضايا الجوهرية التي كانت في صلب التوتر الأميركي – الصيني خلال العقد الماضي، وهما تايوان وضوابط التكنولوجيا، لم تحصل إدارة ترمب إلا على القليل جداً في المقابل، إذ تستفيد الصين من التنازلات الأميركية وتحدد نقاط نفوذ جديدة تمارس عبرها الضغط على الولايات المتحدة، وتستخدم الهدن التكتيكية في تعزيز موقعها استعداداً للمنافسة طويلة الأمد مع واشنطن، وكما هو الحال دائماً فإن الخط الفاصل بين “التهدئة” و”الاسترضاء” رفيع للغاية، لكن الرد الجاهز على سياسة الاسترضاء وهو أنها لا تجلب سوى مزيد من الطلبات لمزيد من التنازلات وربما لمزيد من العدوان، يبدو اليوم في طريقه للتحقق.

قد تبدو إدارة ترمب بمحاولاتها الدبلوماسية المرتبكة وتقلباتها العشوائية في السياسات غير مؤهلة للسعي إلى أي تقارب مع الصين، لكن ترمب أثبت سابقاً قدرته الفريدة على كسر الإجماع المتشدد تجاه الصين، وهو الإجماع الذي كان هو نفسه من أرسى قواعده خلال ولايته الأولى من دون أن يواجه أي ارتداد سياسي، وعلى رغم خطواته الأولى الخاطئة فلا يزال بإمكانه تغيير مسار السياسة الأميركية إذا كان ملتزماً حقاً بالسعي إلى تقارب مع بكين، ومستعداً لاستثمار رصيده السياسي لتحقيق ذلك.

العقبة الحقيقية أمام تقارب أكثر رسوخاً لا تكمن في إدارة ترمب بل في بكين، فشي جينبينغ لا يبدي أية رغبة في صفقة كبرى أو في إرساء حال من الانفراج، لأنه يقدر أن الوقت يعمل لمصلحة الصين وأن موقعها سيصبح أقوى خلال الأعوام المقبلة، وأن أية صفقة الآن لن تكون إلا قيداً على بكين، وإضافة إلى ذلك تنظر بكين إلى الركائز الأساس لتهدئة أعمق، مثل مفاوضات الحد من التسلح التي سعى إليها ترمب في ولايته الأولى، بعين الريبة، إذ ترى فيها الإستراتيجيات ذاتها التي استخدمتها واشنطن بفاعلية ضد الاتحاد السوفياتي للفوز بالحرب الباردة، ولقد أصبحت فكرة أن قيادة الصين تسعى إلى الاستقرار في العلاقة الثنائية مسلَمة في واشنطن، لكنها في أفضل الأحوال تقدير غير دقيق، وفي أسوئها قراءة مضللة، فالأفعال التي أقدمت عليها بكين منذ عودة ترمب توضح أن هدفها هو تقييد قدرة الولايات المتحدة على دفع الصين إلى التراجع.

لا تزال الولايات المتحدة تمتلك نقاط قوة يمكن استخدامها ضد الصين، غير أن الارتباك الإستراتيجي الذي شاب “يوم التحرير” وما تلاه من تهدئة للحرب التجارية، وجهود الإدارة لاسترضاء بكين قبيل اجتماع كوريا الجنوبية، دفعت الصين إلى الاستنتاج بأن واشنطن غير مستعدة للتصعيد، وإذا كانت بكين ترغب في الوصول إلى توازن مستقر فإنها تريده وفق شروطها هي لا وفق شروط واشنطن، وتسعى إلى تعويد الولايات المتحدة على هذا الواقع الجديد، وبعد مرور عام واحد فقط على إدارة ترمب الثانية فقد حققت الصين تقدماً لافتاً نحو هذا الهدف.

جوناثان تسن يشغل كرسي مايكل هـ. أرماكوست لدراسة السياسات الخارجية وزميل في مركز الصين جون ل. ثورنتون في معهد بروكينغز، وكان مدير شؤون الصين في مجلس الأمن القومي الأميركي بين عامي 2021 و2023، وعمل قبل ذلك عضواً في الخدمة التحليلية العليا بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.   

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق