أخبار العالمبحوث ودراسات

كتاب جنون العظمة “البارانويا”

مقدمة

يتناول الكتاب “البارانويا” كإضطراب نفسي وعاطفي يدمر العلاقات الإنسانية، مع التركيز على أعراضها، أصولها، وظواهرها الاجتماعية والتاريخية

الفكرة المركزية للكتاب

“البارانويا” ليست مجرّد اضطراب عقلي قائم على الهذيان والشك، بل هي منطق داخلي صارم ينبع من فشل العلاقة بالآخر: حبّ غير قادر على الاعتراف بالاختلاف، فيتحوّل إلى ريبة وعداء ومطاردة.

إنها محاولة يائسة لحماية الأنا من الانهيار عبر اتهام العالم كلّه.

الفصول الأساسية للكتاب

أولًا: توصيف “البارانويا” في الطب النفسي

تبدأ المؤلفة بعرض كيفية تناول الطب النفسي الكلاسيكي للبارانويا، عبر محاولات لتصنيفها إلى أنماط مثل الهذيان الاضطهادي، وهذيان العظمة، والغيرة المَرَضية… لكنّ ما يبقى ثابتًا خلف كل هذه الأشكال هو بنية نفسية مشتركة: شعور متضخّم بالأهمية الذاتية، مقرون بحساسيّة مفرطة تجعل أبسط الكلمات تبدو إهانة شخصية.

يعيش المصاب في حالة يقظة مؤلمة، متربصًا بكل حدث وتفصيل، مؤمنًا بأن العالم يتحرك ضده، وأن كل صدفة هي جزء من مؤامرة محكمة.

لا يفقد البارانويا قدرته على المنطق، بل يستخدمه بمنهج أحادي مغلق: يستدلّ ويبرهن ويحلّل… لكن داخل حلقة مفرغة لا يدخلها شك ولا نقد. ينفصل عن الآخرين، يكتفي بذاته، ويعيد تشكيل العالم عبر تفسيرات ذاتية قاطعة. أما المشاعر، وخاصة الحب والغيرة، فتتحول إلى هذيانات عنيفة قد تُدمّر العلاقة أو الطرف الآخر، كما في الإيروتومانيا حيث يُقنع نفسه بأن أيّ شخص يحبه سرًا ويخفي ذلك بدافع اجتماعي أو تآمري.

ثانيًا: أصل البارانويا وكيف تعمل

ترى دي ميجولا–ميلور أن “”البارانويا تتجذّر في علاقة مبكرة متأزّمة بالآخر: طفل لم يتمكن من احتمال الاحتياج، فحوّل الاعتماد إلى تهديد. ولأن الأنا فيه غير مستعدة للاعتراف بالضعف، تتبنّى آلية دفاع نفسية مركزية: الإسقاط. ما يخيفه في ذاته يقذفه إلى الخارج: العدوان الذي لا يعترف به في داخله يصبح مؤامرة خارجية عليه.

والنتيجة بنية فكرية صلبة: الشكّ عنده لا يشكّ بنفسه. كل اعتراض يعني مزيدًا من التأكيد على صحة يقينه. هكذا تعمل البارانويا كقناع حديدي يحمي الذات من الانهيار، لكنه في الوقت ذاته يعزل صاحبه عن العالم حتى يتحول الكون كله إلى ساحة تهديد دائم.

ثالثًا: حالات شهيرة في التاريخ السريري

تتوقف المؤلفة عند مثالين رسما تاريخ التحليل النفسي:

  • الرئيس شريبر الذي آمن بوجود قوى خارقة تسعى للسيطرة على جسده وتحويله إلى امرأة في مشروع كوني غامض. هنا يجتمع وهم الاضطهاد بالعظمة على نحو مدهش: هو مضطهد لأنه مهمّ، ولأن مصيره يغيّر العالم.
  • قضية إيمي Aimée كما حلّلها جاك لاكان، حيث أدّى هذيان العلاقة والغيرة إلى فعل عنيف. يتضح من خلال هذه الحالة أن الجريمة البارانوياوية ليست فوضى، بل فعل “منطقي” داخل عالم مغلق ومتماسك، حيث يصبح العنف دفاعًا عن الهوية المهددة.

رابعًا: ماذا تكشف لنا البارانويا عن الإنسان؟

تقول المؤلفة إن البارانويا ليست شذوذًا معزولًا، بل تكشف جانبًا إنسانيًا متأزمًا:

فالآخر في وعي البارانويائي ليس شريكًا في الوجود، بل طرفًا متربصًا يجب إخضاعه أو اتقاؤه. حدود الأنا رخوة، معرضة للانمحاء، ولذلك يدافع عنها صاحبها بصرامة قاتلة. الفكر يصبح أداة مقاتلة، تُستخدم كما لو كانت سلاحًا في مواجهة عالم عدائي. وحتى الجسد، الذي هو أقرب الأشياء إلى الذات، قد يتحول إلى خصم يرسل الإشارات السامة أو يخضع لتحكم خارجي.

إنها حرب شعورية لا تهدأ: مواجهة بين الإنسان ونفسه… ولكن عبر قناع الآخر.

خامسًا: السلوكيات البارانوياوية

حين يتخذ هذا الاضطراب شكلًا فعّالًا، قد يتحول الدفاع إلى هجوم. تظهر البارانويا المتسلّطة حيث تُبرّر الغطرسة الأخلاقية باسم “الحق المطلق”. وإذا اشتدّ الهذيان، يتحول الشكّ إلى عنف منظم، بل وإلى جرائم تبدو لصاحبها ضرورية لإنقاذ ذاته أو “رسالة” يحملها.

وتتوسع المؤلفة إلى المجال الجماعي، فتبيّن كيف تتحول البارانويا إلى قوة سياسية أو اجتماعية خطيرة: تُنتج أيديولوجيات تُجرّد الخصوم من إنسانيتهم، وتحول المجتمع إلى معسكرات تحارب “أعداء مطلقين”. وهنا تصبح الهذيانات الفردية شرارة لكوارث جماعية، من الهوس الأمني إلى التطهير العرقي.

خلاصة فكرية موجزة

البارانويا ليست جنونًا طارئًا، بل مأزق إنساني في مواجهة الآخر، حيث يسوء الحب فيتحوّل إلى صراع، ويصبح الارتباط تهديدًا، والاختلاف مؤامرة.

المؤلفة تنتهي إلى أن علاج البارانويا لا يكون بقمعها، بل بإعادة بناء إمكانية الحب والثقة التي فشلت في بداياتها. فالخروج من جحيم الشكّ يبدأ باستعادة القدرة على منح الأمان… وقبوله.

الاستقبال النقدي

اعتُبر الكتاب مدخلًا نفسيًا-فلسفيًا قويًا لفهم البارانويا: ليس فقط مرضًا، بل ظاهرة اجتماعية وسياسية يربط التحليل بأمثلة تاريخية وسريرية راسخة

المغزى الفكري والسياسي

البارانويا تكشف وجهًا مظلمًا للعقل: عندما يُلغى الشكّ في الذات وعندما يصبح الآخر مرآةً للشرّ فقط.

البارانويا تكشف وجهًا مظلمًا سياسيًا: الأنظمة الديكتاتورية غالبًا ما تتحوّل إلى بارانويا جماعية تصنع “عدوًا دائمًا” لتبرير السيطرة.

————————-

نبذة عن المؤلفة

الخلفية الأكاديمية :

ولدت صوفي دي ميجولا-ميلور في عام 1946هي حاصلة على شهادة  في الفلسفة (Agrégation de philosophie) عام 1970.

ثم اتجهت نحو البحث الجامعي والتحليل النفسي، بإشراف Jean Laplanche في موضوع يتعلق بـ”التحليل النفسي ومتعة الفكر”.

تشغل حالياً منصب أستاذة فخرية (Professeure émérite) في علم الأمراض النفسية والتحليل النفسي في جامعة Université Paris‑Diderot (باريس 7.

الممارسات المهنية والمؤسّسات

إلى جانب عملها الأكاديمي، هي محلّلة نفسية ممارسة في باريس، وتنتمي إلى جماعة التحليل النفسي المعروفة بـ Quatrième Groupe.

صوفي دي ميجولا-ميلور هي شخصية محورية في المشهد الفرنسي-الأوروبي للتحليل النفسي: أكاديمية، ممارِسة، مفكّرة، ومؤسِّسة. تجمع بين العمق النظري والاهتمام السريري، وبين التحليل النفسي والتفاعل مع الحقول الأخرى مثل الفلسفة والثقافة.

أعمالها تساعد على فهم الأمراض النفسية من زاوية ليست فقط طبية، بل إنسانية وسوسيو-ثقافية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق