قمة بريكس… ضرب الدولار والتأثير على الرأسمالية المالية الراعية للصهيونية
إعداد الدكتور جمال واكيم قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 22-10-2024
لا يزال العدوان الإسرائيلي على الشعبين الفلسطيني واللبناني مستمراً ومتواصلاً منذ أكثر من عام، في مخالفة لتقديرات معظم المحللين السياسيين، الذين درجوا على قياس ما يحصل اليوم على جولات الصراع السابقة التي لم تتجاوز في حدّها الأقصى شهراً واحداً، باستثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان إذ توغل “جيش” الاحتلال عميقاً حتى بيروت في صيف عام 1982، قبل أن ينسحب إلى الشريط الحدودي المحتل في مطلع عام 1985، ويعود وينسحب بعدها من معظم الأراضي اللبنانية في عام 2000.
العوامل التي تستند إليها قوة “إسرائيل“
ولفهم احتمالات مسار الصراع الحالي، يجب علينا فهم أبعاد هذا الصراع. والجدير ذكره أن الكيان الصهيوني يعدّ حربه الحالية حرب وجود بالنسبة إليه، وقد يكون هذا نتيجة وعيه لمتغيّرات تحصل على الساحتين الدولية والإقليمية تجعله يشعر بالقلق على مستقبله. فلقد ارتبط المشروع الصهيوني منذ بدايته بثلاثة أسس استند إليها.
لقد شكل العامل الأول صعود الهيمنة الغربية على العالم منذ نحو ثلاثة قرون، إذ نظرت قواها الاستعمارية إلى المشروع الصهيوني على أنه رأس حربة لهيمنتها في منطقة المشرق العربي، والتي كانت منذ فجر التاريخ المنطقة التي تتقاطع فيها طرق التجارة والمواصلات الدولية، بحكم أنها تصل بين ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا، والتي شكّلت المحور الأساسي للتاريخ الإنساني خلال العشرة آلاف سنة السابقة، وحتى القرن السادس عشر في أدنى تقدير.
وتمثل العامل الثاني بصعود القوى الأنكلوساكسونية، وعلى رأسها بريطانيا، ما بين منتصف القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، والتي كانت هيمنتها قائمة على أنها قوة بحرية تسعى لاحتواء قوة برية هي الإمبراطورية الروسية، التي كانت تتمدّد جنوباً عبر البر باتجاه نطاق السيطرة العثماني والفارسي والأفغاني باتجاه الهند، التي كانت تعدّ درة التاج البريطاني، لترثها الولايات المتحدة كقوة بحرية تنظر إلى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وإلى روسيا والصين وإيران في زمن ما بعد الحرب الباردة على أنها القوى البرية التي تهدد هيمنتها العالمية.
أما العامل الثالث فلقد تمثل بصعود الرأسمالية المالية التي هيمنت عليها عائلات يهودية علمانية نظرت إلى التوراة ليس على أساس أنه كتاب مقدس لدين سماوي، بل كتاب تاريخ لشعب يهودي متخيل.
آل روتشيلد والمشروع الصهيوني
في هذه المقالة سنركّز على ارتباط الكيان الصهيوني بالرأسمالية المالية اليهودية، ووعي رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو بتراجع هذه الهيمنة المالية، وأثره على اهتزاز أحد الأركان التي استند إليها الكيان الصهيوني.
ففي القرن الثامن عشر، برز نجم عائلة روتشيلد كعائلة مصرفية نبيلة يهودية أشكنازية ثرية أصلها من فرانكفورت. وقد ظهر نفوذ العائلة مع تزايد ثروة ماير أمشيل روتشيلد (1744–1812)، والذي كان أحد موظفي البلاط الألماني في هيسن-كاسل في المنطقة الحرة من مدينة فرانكفورت، والذي أطلق أعماله المصرفية في الستينيات من القرن الثامن عشر. ومع توسع أعماله، أرسل ماير روتشيلد أبناءه الخمسة إلى العواصم الأوروبية الغربية الخمس، حيث أسسوا مصارف في باريس وفرانكفورت ولندن وفيينا ونابولي.
ولقد ترافق صعود نجم العائلة مع نهاية عهد الرأسمالية التجارية والتي مثلت فرنسا آخر قوة رائدة فيها، وانطلاق الرأسمالية الصناعية في بريطانيا العظمى. خلال القرن التاسع عشر، تصاعد نفوذ الرأسمالية المالية التي كان آل روتشيلد يمثلون العائلة الرائدة فيها، وصولاً إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تمكنت الرأسمالية المالية من أخذ الريادة من الرأسمالية الصناعية، وهو ما لحظه المفكر الروسي فلاديمير ايلتش لينين في كتابه “الإمبريالية آخر مراحل الرأسمالية”، والذي تحدث فيه عن انتقال العالم في مطلع القرن العشرين إلى هيمنة الرأسمال المالي، رغم أنه لم يذكر الدور المحوري للعائلات اليهودية، وعلى رأسها آل روتشيلد في السيطرة على الرأسمال المالي.
والجدير ذكره أن صعود الحركة الصهيونية خلال القرن التاسع عشر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بصعود آل روتشيلد الذين هيمنوا على الفضاء المالي الأوروبي. فلقد كان آل روتشيلد المتمركزون في باريس هم من موّل حروب نابوليون، وهذا ما شكّل أحد العوامل التي جعلت نابوليون يفكر في إقامة كيان يهودي في فلسطين عقب فشل حملته على مصر، معتقداً أن هذا الكيان يمكن أن يشكّل امتداداً للنفوذ الفرنسي في المشرق.
ولقد تواصلت الرعاية الفرنسية للمشروع الصهيوني حتى زمن نابليون الثالث، الذي أعاد التفكير في كيان يهودي في فلسطين عقب نيله امتياز حفر قناة السويس في العام 1859 ليكون هذا الكيان خط دفاع عن قناة السويس في مواجهة الدولة العثمانية، في وقت كانت مصر تتمتع باستقلالية كبيرة وترتبط بعلاقات قوية بفرنسا.
أما ما جعل آل روتشيلد يفكرون في إقامة كيان وطني لليهود على أرض فلسطين، فهو تأثرهم بالحركة البروتستانتية التي أعادت الاعتبار إلى العهد القديم في إطار تحديها للكنيسة الكاثوليكية والموروث الروماني الذي ورثته عن الإمبراطورية الرومانية، وتأثر آل روتشيلد كما غيرهم بالمدرسة الوضعية التي انطلقت خلال القرن الثامن عشر، وسادت خلال القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، والتي ركزت على البعد المادي في العلوم ما جعل آل روتشيلد يتأثرون بذلك، وينظرون إلى العهد القديم على أنه كتاب لتاريخ الشعب اليهودي يجب الأخذ به بحرفيته.
كذلك شهد القرن الثامن عشر والتاسع عشر حراكاً اجتماعياً أخرج اليهودي من الغيتو، وفتح له ديناميات جديدة جعلته يندمج في المجتمعات الأوروبية الغربية، بما يخالف مصالح البورجوازية المالية اليهودية التي كانت ترى نفسها متميزة عن المجتمع المحيط بها بحكم دورها الاقتصادي المالي النخبوي.
فانعكس هذا حركة قومية علمانية تستند إلى الموروث الديني وتفكر في إقامة وطن قومي لليهود على غرار الكيانات التي نشأت في أوروبا الغربية، والتي شكّل أساسها مفهوم الدولة الأمة.
ومع ضرب مشروع نابليون الثالث إقامة إمبراطورية مهيمنة في البر الأوروبي بعد هزيمته على يد الألماني في عام 1870، كان قرار آل روتشيلد بنقل مركز ثقلهم إلى لندن، مع الإبقاء على معاقلهم في العواصم الأوروبية الغربية آنفة الذكر، علماً أن ناتانيال روتشيلد الذي كان قد توجّه إلى لندن بناءً على تعليمات والده في مطلع القرن التاسع عشر كان له دور كبير في تمويل حروب الحكومة البريطانية ضد نابليون.
ومع انتقال مركز القرار لدى العائلة إلى لندن، انتقلت رعاية المشروع الصهيوني إلى الإمبراطورية البريطانية. من هنا، كان من الطبيعي أن يصدر وزير الخارجية البريطاني اللورد بالفور وعده الشهير لليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين، علماً أن رسالته لم توجّه إلى زعيم الحركة الصهيونية آنذاك حاييم وايزمان، بل وجّهت إلى البارون دي روتشيلد.
انتقال مركز الرأسمالية المالية إلى أميركا
ترافقت مرحلة الرعاية البريطانية للحركة الصهيونية والرأسمال المالي المهيمن عليه من قبل آل روتشيلد مع ثورة صناعية في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما حتم على آل روتشيلد أن يبحثوا عن حلفاء لهم يمكن أن يدخلوهم إلى السوق الأميركية، فكان تحالفهم مع عائلة بروتستانتية هي أسرة مورغان.
إلا أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيشهد صعود نجم عدد كبير من العائلات اليهودية الأشكينازية المهاجرة من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وعلى رأسها أسرة غولدمان وأسرة شيف، وهو ما يتحدث عنه دانيال شولمان في كتابه “ملوك المال”. وسيعمد هؤلاء إلى تأسيس نظام الاحتياط الفدرالي في عام 1913 ليكون المؤسسة التي تحمي مصالح الرأسمالية المالية التي كان مركز ثقلها قد بدأ ينتقل إلى الولايات المتحدة.
في ذاك الوقت، كانت بريطانيا قد فرضت انتدابها على أرض فلسطين، وبدأت بتسهيل عملية الهجرة اليهودية والسيطرة على أرض فلسطين من قبل الصهاينة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الحركة الصهيونية قد نقلت مركز ثقلها إلى الولايات المتحدة التي باتت المركز والراعي للرأسمالية المالية، التي بدأت بتوسيع نفوذها في العالم عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين أطلقهما اتفاق بروتون وودز الموقع في عام 1944.
هيمنة الرأسمال المالي وأثره على صعود نفوذ “إسرائيل“
بدءاً من الخمسينيات من القرن الماضي، تصاعدت هيمنة الرأسمالية المالية المتمركزة في الولايات المتحدة ومعها نفوذ الولايات المتحدة في العالم. بالتوازي مع ذلك، توسع الكيان الصهيوني من الأراضي الفلسطينية التي احتلها في عام 1948 إلى السيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية ومعها الجولان السوري المحتل وشبه جزيرة سيناء في عام 1967.
ولم يكن انسحاب “إسرائيل” من سيناء بعد عام 1974 إلا غطاء لتكبيل مصر باتفاقية “كامب ديفيد” حتى تكمل “إسرائيل” مشروعها في المشرق العربي وكامل المنطقة العربية.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، وطرح الولايات المتحدة مشروعها للهيمنة العالمية تحت مسمى النظام أحادي القطبية، انطلقت الرأسمالية المالية من دون حدود لتطرح مشروعها للهيمنة العالمية عبر مسمى العولمة. وبالتوازي مع انطلاق الهيمنة المالية العالمية على غاربها في التسعينيات من القرن الماضي، انطلقت أيضاً الأحلام الصهيونية بالسيطرة على كامل منطقة الشرق الأوسط، أكان ذلك عبر مشروع شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد، أو عبر رؤية بنيامين نتنياهو لدور “إسرائيل” المهيمن في المنطقة والذي طرحه في كتابه “مكان تحت الشمس”.
لكن اليوم، ومع صعود قوى عالمية تتحدى الهيمنة الأميركية وعلى رأسها روسيا والصين، ومع طرح هاتين القوتين لمشروعَي تكتليْن دوليين لمواجهة الهيمنة الغربية عبر منظمة شنغهاي للتعاون التي تم تأسيسها في عام 2001، ومنظمة “بريكس” التي تم إطلاقها في عام 2009، باتت واشنطن تواجه قوى تريد الحفاظ على استقلاليتها في مواجهة الهيمنة الأميركية. ولعل أهم أدوات الهيمنة الأميركية كانت الهيمنة على الفضاء المالي عبر رعايتها للرأسمالية المالية العالمية.
خلاصة
لقد عقدت روسيا والصين وشركاؤهما العزم على تحدي الهيمنة المالية الأميركية عبر إطلاق عملة موحدة لـ”بريكس”، والتعامل أيضاً بالعملات المحلية، وهو ما سيتم اعتماده في قمة “بريكس” التي عقدت في كازان بين 22 و24 أكتوبر الحالي.
لذا، فإن نتنياهو الذي يعي أن “إسرائيل” ارتكزت خلال القرنين السابقين على رعاية الرأسمالية المالية العالمية لـ”إسرائيل” ستجد هذا الأساس يهتز بعد اعتماد عملة موحدة لـ”بريكس”.
وقد يكون هذا أحد العوامل التي تدفع نتنياهو إلى اعتماد العنف الزائد في محاولة لفرض نظام إقليمي تحت الهيمنة الإسرائيلية الآن، لأنه يعي أنه مع الوقت ستتسارع وتيرة تراجع الهيمنة الرأسمالية المالية العالمية التي تشكل الحاضنة لـ”إسرائيل”.