قراءة في تطورات الموقف الروسي من مقترحات ترمب للتسوية في أوكرانيا: موسكو ترمي الكرة في ملعب البيت الأبيض

اعداد سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية 09-12-2025
موسكو ترمي الكرة في ملعب البيت الأبيض
حسم مساعد الرئيس الروسي للشؤون الخارجية، يوري أوشاكوف، الجمعة 5 ديسمبر 2025، في نيودلهي، صياغة المرحلة الحالية بشأن خطة ترمب، وموقف موسكو منها، بكلمتين واضحتين: “نحن الآن ننتظر رد الزملاء الأمريكيين بعد محادثات الثلاثاء في الكرملين”.
وهذا الكلام يعني عمليًا ثلاثة أمور:
أولها: أن جولة الكرملين انتهت بالكامل من الجانب الروسي، بمعنى أن موسكو قدمت موقفها التفصيلي من الحزم الأربع، وهي السيادة والتسليح، والأمن الأوروبي، والاقتصاد، والملف الإقليمي، وأبلغت ويتكوف وكوشنر بما يمكن مناقشته، وما هو مرفوض روسيا تمامًا.
ثانيًا: الضغط السياسي انتقل الآن إلى واشنطن، بمعنى أن البيت الأبيض هو الآن المطالب بصياغة رد جديد، إما بتعديل صياغات الخطة، وإما بالاعتراف بأن بعض مطالب موسكو لا يمكن تلبيتها في هذه المرحلة.
ثالثًا: موسكو تتعمد -في رأيي- إظهار الهدوء والثقة، فكلام أوشاكوف جاء خاليًا تمامًا من أي نبرة استعجال، ولم يتحدث لا هو ولا بوتين في تصريحاته لـ India Today عن فرصة أخيرة، أو كلام من هذا القبيل، ولكن جاءت الصياغة هادئة: “نحن قدمنا موقفنا.. والباقي عندكم”.
هذا التوازن في الخطاب يعكس قناعة في موسكو بأن الوقت لا يعمل ضدها؛ بل ضد كييف وأوروبا وترمب معًا.
الاتصال بين بوتين وترمب… ورقة جاهزة، لكن على الرف
أوشاكوف قال من نيودلهي أيضًا إن ترتيب اتصال أو لقاء بين بوتين وترمب يمكن أن يتم بسرعة كبيرة متى توافرت الظروف المناسبة، وذكّر بأن قمة ألاسكا “أنكوريج” رُتبت خلال أيام قليلة.
والرسالة هنا واضحة ومباشرة أيضًا:
لا عائق تقنيًا أو بروتوكوليًا أمام ترتيب قمة بين بوتين وترمب، بمعنى أن أي تعطيل ليس في الشكليات، ولكن في مضمون ما سيتم الحديث عنه، أو لنكن أكثر دقة، ما سيُتفق عليه.
فكأن الكرملين يقول لواشنطن بوضوح:
إذا أردتم قمة في بودابست أو غيرها، فلتأت بعد أن ينضج شيء حقيقي على مستوى الوثائق؛ لأننا -نحن الروس- لن نذهب إلى صورة بلا مضمون.
من جهة أخرى، تكرار الحديث عن قمة بودابست المؤجلة يثبت أن موسكو تفضل أن تأتي القمة بعد أن تُغلق المسائل الأساسية على مستوى مساعدي الرئيسين، لا أن تتحول إلى استعراض إعلامي تتبادل فيه الأطراف الاتهامات.
أوروبا شريك مُعطل وليست وسيطا
في تصريحات لقناة “زفيزدا” الرسمية الروسية، ومن نيودلهي، قدم أوشاكوف التقييم الأكثر صراحة للدور الأوروبي حتى الآن، من وجهة النظر الروسية بالطبع، فقال: “الأوروبيون يطرحون باستمرار مطالب غير مقبولة لموسكو، ولا يسهمون في التوصل إلى تسوية بين واشنطن وموسكو”.
وهذه الجملة تكمل ما قاله بوتين قبل أيام، على هامش منتدى “روسيا تنادي”، وقبل ساعة تقريبا من لقائه مع ويتكوف وكوشنر: “أوروبا مع الحرب، ليست لديها خطة سلام، وتعرقل جهود ترامب”.
والمغزى الإستراتيجي من هذه الصياغة، سواء التي قالها أوشاكوف، أو تلك التي جاءت على لسان رئيسه، يتمحور حول ثلاث نقاط من وجهة نظري؛ الأولى هي عزل أوروبا عن مسار التسوية الفعلي.
وقد لوح الروس وترامب معًا بأن التسوية الحقيقية ستكون ثنائية، أي في صيغة موسكو- واشنطن، في حين تبقى أوروبا ممولًا ومُتلقيًا للنتائج، لا صانعًا لها.
والثانية: تجهيز رواية جاهزة لفشل أي جولة قادمة، بمعنى أنه إذا تعثرت المفاوضات، فإن موسكو ستقول: “الأوروبيون يطرحون شروطًا غير واقعية”، وواشنطن ستقول: “أوروبا لا تريد سلامًا يرفع العقوبات، أو يشرعن مكاسب روسيا”.
والثالثة: مراكمة الضغط على كييف، بمعنى أنه كلما ظهر الأوروبيون بمظهر المتشدد أكثر من الأمريكيين، يصبح هامش المناورة الأوكراني أضيق، حيث لا تستطيع كييف أن ترفض واشنطن وتراهن على بروكسل ولندن في آن واحد.
زيارة بوتين المهمة إلى الهند… تثبيت محور بديل لا يمر عبر الغرب
بوتين يبعث من نيودلهي برسالة يمكن وصفها بالإستراتيجية، وكذلك بأنها موازية لمسار أوكرانيا. بوتين يعلن بإشادة واضحة بنتائج الزيارة، حتى قبل أن تنتهي فعالياتها، ويتحدث بحماسة عن اتفاقيات تعمق الشراكة الإستراتيجية الروسية- الهندية.
كما يؤكد أن التعاون العسكري والتقني بين موسكو ونيودلهي مبني على ثقة عميقة، فهو يتجاوز الأشكال التقليدية للتعاون في هذا المجال؛ لأنه يشمل نقل التكنولوجيات الحساسة، مع توسيع التعاون في مجالات مهمة للبلدين، وعلى رأسها الطيران والفضاء، والتقنيات العالية والمتقدمة، والذكاء الاصطناعي.
بوتين صرح كذلك في حواره مع India Today -بوضوح وعلى نحو مباشر- بأن روسيا لا تخطط للعودة إلى مجموعة الثماني، والأهم أنه يشكك أصلًا في معنى أن تُسمى دول “السبع” دولًا كبرى في حين أنها في الحقيقة والواقع تفقد وزنها النسبي في الاقتصاد العالمي.
والمعنى هنا بين السطور هو أن موسكو تقول لواشنطن وأوروبا: “لسنا في وضع المحاصر الذي يتوسل العودة إلى ناديكم؛ نحن نبني محاور بديلة مع الهند والصين وغيرهما؛ فلدينا الآن شنغهاي للتعاون، ولدينا البريكس بعد التوسع، ولدينا الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ولدينا آفاق لتحويل منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى (وارسو) جديدة”.
وفي وقت يبحث فيه ترامب عن مخرج من حرب مكلفة، ترسل موسكو والكرملين وبوتين إشارة بأنها ليست مستعدة لشراء هذا المخرج بثمن سياسي أو إستراتيجي باهظ.
لنقم بزيارة الجمعة إلى الميدان
قدمت وزارة الدفاع الروسية، الجمعة 5 ديسمبر 2025، واحدًا من أكثر البيانات الميدانية تفصيلًا منذ شهور، وهذا البيان يشي بأن موسكو ترى أن الأسابيع الأخيرة مرحلة انتقالية نحو تغيير موزون في ميزان السيطرة الميدانية، قبل أي استحقاق تفاوضي مقبل؛ فخريطة التقدم الروسي خلال هذا الأسبوع -حسب الرواية الروسية بالطبع- شملت 7 مدن وبلدات خلال أسبوع، ووفق بيان الدفاع، تم خلال الفترة من 29 نوفمبر إلى 5 ديسمبر “تحرير” سبع مناطق رئيسة، وهي:
- فولتشانسك في مقاطعة خاركوف، وتم ذلك على يد مجموعة قوات “الشمال”،
- وكراسنوارميسك في دونيتسك، على يد قوات مجموعة “المركز”، وهي العقدة الحاسمة الحصينة غرب دونيتسك، التي تراها الصحف الروسية العسكرية مفتاح خط كراماتورسك- سلافيانسك،
- وبيزيميانويه وكلينوفويه في دونيتسك، على يد مجموعة قوات “الجنوب”، وزيليوني غاي، دوبروبوليه، تشيرنوفويه في مقاطعة زابوروجيا، على يد قوات مجموعة “الشرق”.
صحف روسية محترمة، مثل فيدوموستي، تصف في تقاريرها هذه المكاسب بأنها تقدم هادئ ولكن ثابت، يعيد رسم الخطوط الدفاعية الأوكرانية، ويجبر كييف على سحب قوات من احتياطياتها الإستراتيجية.
فضلًا عن ذلك، فإن حجم الخسائر المعلن من الجانب الروسي يعد مؤشرًا على استنزاف مضاعف، فبحسب البيان، (الذي لا نستطيع التحقق من الأرقام التي يذكرها) خسرت القوات الأوكرانية خلال أسبوع 1085 جنديًا على محور الجنوب، و3265 جنديًا على محور المركز، و415 جنديًا على محور دنيبر، و1575 جنديًا على محور الغرب، و1515 جنديا على محور الشرق، و1195جنديًا على محور الشمال، ليصل بذلك الإجمالي إلى 9060 جنديًا تقريبًا، وفق الأرقام الروسية.
ونشير إلى أن الخسائر ليست كلها قتلى؛ وإنما قتلى ومصابون إصابات لا يمكن معها العودة إلى القتال.. هذا حسب فهمي طبعًا لمعنى عبارة “تم تحييد” التي تذكرها بيانات الدفاع الروسية الرسمية.
وأكرر أنه لا توجد إمكانية للتحقق المستقل من صحة هذه الأرقام، لكن الصحافة الروسية تتعامل معها بوصفها مؤشرًا لاتجاهات العمليات والأوضاع الميدانية، لا كإحصاءات دقيقة.
إضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة الدفاع الروسية إسقاط 1120 مسيرة خلال أسبوع (رقم ضخم يعكس اتساع نطاق حرب المسيرات)، وتدمير 5 راجمات صواريخ (منها 4 غربية الصنع)، وتدمير 7 قوارب مسيّرة في البحر الأسود، وتنفيذ 4 ضربات جماعية على منشآت الطاقة والنقل، والصناعة العسكرية، ومناطق تخزين المسيّرات.
والتفسير المنطقي والموضوعي لهذه الضربات الروسية الآن بهذه الكثافة وبهذه الوتيرة أنها تشير إلى مرحلة يصفها المحللون العسكريون بمرحلة “تبييض الجبهة” قبل التفاوض؛ بمعنى محاولة خلق خطوط تماس جديدة أكثر ملاءمة لموسكو قبل أن تبدأ الجولة الثانية من البحث في حزم خطة السلام الترامبية الأمريكية الأربع.
أما السيطرة على كراسنوارميسك بالتحديد، أو “تحريرها”، فهو يقصم ظهر الدفاعات الأوكرانية الشمالية لدونيتسك، ويفتح الطريق نحو قسطنطينوفكا (أو كونستانتينوفكا كما يحلو للبعض كتابتها)، ثم عقدة كراماتورسك، ومنها إلى محور سلافيانسك، وهو قلب الوجود العسكري الأوكراني في هذه المنطقة منذ 2014.
بالطبع، منطق الضربات الجماعية -حسبما فهمت من التحليلات العسكرية الموضوعية- هو شل القدرات اللوجستية للجيش الأوكراني، حيث تكشف البيانات أن موسكو ركزت ضرباتها على منشآت وقود وطاقة، وعلى مطارات عسكرية، وعلى ورش تصنيع المسيرات بعيدة المدى، وعلى مراكز التوجيه والاتصال والإشارة، وعلى مستودعات ذخيرة ووقود، وعلى البنية التحتية للنقل العسكرية.
وهذا النمط -كما تشير التحليلات العسكرية التي ذكرتها أعلاه لا سيما في فيدوموستي وكوميرسانت- يمثل انتقالاً روسيًا واضحًا إلى إستراتيجية فصل الجبهة عن الدولة، أي ضرب قدرة كييف على دعم خطوط القتال مهما كانت قوة التحصينات.
إذن، أين يقف مسار التسوية اليوم؟
إذا جمعنا بين ما قاله بوتين وأوشاكوف من نيودلهي وبيانات وزارة الدفاع من موسكو وخط الميدان، فإننا نخرج بالصورة التالية:
- موسكو أنهت ما يمكن وصفه بـ”جولة الكرملين” بالكامل من جانبها، وتنتظر ورقة جديدة من واشنطن؛
- الكرملين لا يعارض عقد قمة بين بوتين ترمب، لكنه يرفض أن تكون مجرد قمة صورية بلا مضمون؛ أي لا بد أن تكون قمة مرتبطة بتقدم حقيقي في الحزم الأربع، وخصوصا الحزمة الإقليمية، أي موضوع الأراضي، وبصفة خاصة دونيتسك؛
- موسكو ترى أوروبا على أنها باتت في موقع المعرقل لا الوسيط، بينما هي -أي أوروبا- تعاني داخليًا من مأزق الأصول الروسية، والعجز المالي لدعم كييف؛
- الهند تُستخدم منصة لإظهار أن روسيا ليست دولة معزولة؛ بل دولة تعيد تموضعها في نظام دولي متعدد المراكز أو الأقطاب كما يحلو لبوتين وصفه؛
- الميدان يتحرك في اتجاه واحد: استنزاف وإن كان بطيئًا، لكنه متصاعد للقوة الأوكرانية، مع تكثيف الضغط في محور قوات “المركز” بالذات.
وفي الختام يمكن تلخيص الموقف فيما يلي:
ما يجري اليوم هو إعادة توزيع للأدوار والضغوط؛ بمعنى أن الكرة اليوم في ملعب البيت الأبيض، وأوروبا العجوز على الهامش بالفعل، وتحت الاتهام، في حين أن كييف وزيلينسكي تحت ضغط عسكري وسياسي يصعب تحمله.
أما موسكو والكرملين وبوتين فسيستثمرون التقدم الميداني والوقت معًا، والهند تُستخدَم لإرسال رسالة دولية بأن روسيا تفاوض الولايات المتحدة من موقع شريك صعب، لا من موقع تابع يبحث عن مخرج بأي ثمن.



