أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

في قلب المعاناة: حياة الفلسطينيين بين الجوع والقصف

تُظهر التجربة الفلسطينية المعاصرة أن المرأة والطفولة هما أكثر الفئات هشاشةً تحت وقع القصف المستمر والمجاعة الخانقة، إذ تحوّلت الحياة اليومية إلى صراع من أجل البقاء. المرأة الفلسطينية لم تعد تتحمل فقط مسؤولياتها التقليدية في رعاية الأسرة وتربية الأبناء، بل أُجبرت على أن تكون ملجأً نفسيًا ومعنويًا، ومصدرًا للثبات في مواجهة فقدان البيوت والأحبة. وكما صرحت إحدى الأمهات في غزة: “أطفالي يسألونني عن الطعام ولا أملك سوى الماء لتهدئتهم”، عبارة تختزل انهيار أبسط مقومات الحياة.

الأطفال يعيشون واقعًا أكثر قسوة؛ مدارسهم إمّا مهدّمة أو تحولت إلى مراكز إيواء، وألعابهم استبدلت بأصوات الطائرات والانفجارات. في تقرير أممي حديث ورد أن “أكثر من 15,000 طفل دون الخامسة سُجّلوا في برامج علاج سوء التغذية خلال فترة قصيرة”. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات، بل هي أرواح صغيرة تُصارع الموت قبل أن تتفتح أحلامها. ولعلّ مأساوية المشهد تتجلى أكثر في وصف إحدى التقارير الإنسانية: “الحياة الفلسطينية تتفكك هنا، وما يحدث ليس حادثًا عابرًا، بل نتيجة خيارات سياسية”.

في هذا السياق، تصبح الأعياد والمناسبات الدينية محطات رمزية أكثر من كونها لحظات فرح. فشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى لم يعودوا فضاءات للتوسّع في الاحتفالات، بل غدوا مناسبة لإعادة إحياء قيم التضامن والتكافل رغم الحصار والقصف. فالفرح في العيد أصبح مقيدًا بالوجع، وزيارة العائلة تتحول إلى فعل مقاومة للحزن، وتبادل التهاني مرادفًا لتبادل رسائل الصمود. وكما جاء في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة: “الناس يتضورون جوعًا، والأطفال يموتون، ومن واجب من لهم دور أن يتحرّكوا”.

أما الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني، فهي مزيج من التحدي والأمل، ومن البقاء والانتظار. الأسواق تُفتح حين تسمح الظروف، البحر يُصبح ملاذًا مؤقتًا، والكهرباء تنقطع بالساعات الطويلة، فيما تتحول المنازل إلى ملاجئ جماعية. التعليم بدوره يعاني انهيارًا حادًا؛ المدارس تُقصف أو تُستعمل كمراكز إيواء، والطلاب يُجبرون على الانقطاع أو الدراسة في ظروف لا إنسانية. ومع ذلك، يظل الإصرار على مواصلة التعليم أحد أشكال المقاومة الرمزية، باعتباره بوابة نحو مستقبل قد يكون أكثر أمانًا.

على المستوى الدولي، تتعالى الأصوات الإنسانية وتتصاعد المبادرات الشعبية، من أساطيل إغاثة إلى حملات احتجاجية في شوارع العواصم العالمية. منظمات أممية حذّرت بوضوح من خطر المجاعة، بينما أشارت منظمة العفو الدولية إلى “استخدام التجويع كسلاح”.

كما قالت الناشطة البيئية غريتا ثونبرغ من على متن أسطول مساعدات: “لدى القادة واجب قانوني لمنع الإبادة”. هذه الأصوات تعكس يقظة الضمير العالمي، لكنها تواجه جدارًا من العجز السياسي والانقسامات داخل النظام الدولي. فالقدرة النظرية للأمم المتحدة ومجلس الأمن على فرض ممرات إنسانية أو وقف إطلاق النار تتعطل أمام حق النقض والتوازنات الجيوسياسية، ما يجعل القرارات الإنسانية رهينة الإرادة السياسية للدول الكبرى.

وبين الأمل في التضامن الإنساني وخيبة الأمل من قصور المؤسسات الدولية، يظل الفلسطيني العادي — امرأةً كانت أو طفلًا أو شابًا — يحاول أن يصنع حياةً من بين الركام. المساعدات قد تُطيل البقاء، لكن ما لم يتحول الضغط الدولي إلى فعل سياسي حقيقي، ستظل المأساة تتكرر.

إن فلسطين اليوم ليست مجرد ملف سياسي أو قضية إقليمية، بل مرآة أخلاقية تكشف مدى قدرة العالم على الوفاء بمبادئه الإنسانية. فكل رقم عن سوء تغذية هو وجه لطفل فقد حقه في النمو، وكل تقرير عن نزوح هو بيت فقد دفء أركانه.

وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: هل يستطيع النظام الدولي أن يرى ما وراء الأرقام ليبصر الإنسان؟

 وإذا لم يُسعف هذا النظام مجتمعًا يواجه المجاعة والقصف في القرن الحادي والعشرين، فهل يظل جديرًا بأن يُسمى “نظامًا دوليًا إنسانيًا”؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق