فرنسا: عاصفة “SDF” والآلاف “من دون مأوى ثابت” وبينهم المشردون
قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية
تونس 08-03-2024
خلال الأعوام العشرة الماضية، تضاعف عدد المشردين، الأمر الذي سلّط الضوء على الأداء الحكومي، إذ يبيت المشردون في محطات الميترو وعلى الأرصفة وتحت الجسور، وطعامهم عبارة عن فتات من تعاطف المارة.
تشهد فرنسا، كما معظم الدول الأوروبية، زيادة سنوية في فئة الأشخاص التي تُعرف بـ“SDF”، أي “من دون مأوى ثابت”، وبينهم المشردون.
هذه الزيادة كانت، في مجملها، نتيجة الأزمة المالية العالمية وتدفق المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط.
خلال الأعوام العشرة الماضية، تضاعف عدد المشردين، الأمر الذي سلّط الضوء على الأداء الحكومي، إذ يبيت المشردون في محطات الميترو وعلى الأرصفة وتحت الجسور، وطعامهم عبارة عن فتات من تعاطف المارة.
فمن هم هؤلاء؟
وكيف تسعى الدولة الفرنسية ومؤسساتها لتسوية أوضاعهم؟
أرقام تعيد الأزمة إلى الواجهة
قدّم كريستوف روبرت، المفوض العام لمؤسسة “أبيه بيير”، تقريره السنوي بشأن مشكلة السكن، في 1 فبراير 2024، ناشد فيه الحكومة التحرك بصورة عاجلة لتجنب أزمة كبيرة.
ووفقاً للتقرير، يعيش 330,000 شخص بلا مأوى في فرنسا، وهو رقم ارتفع أكثر من ضعفين خلال عقد من الزمن.
الكاتبة والناشطة في مجال العمل الاجتماعي والتضامني نويمي كابونيتو، تقول إن العدد الفعلي للمشردين يتخطى هذا الرقم “نظراً إلى انتشارهم في الأماكن القروية والبعيدة، والتي يصعب أن تطالها الإحصاءات”.
والجدير بالذكر أن المعهد الوطني للإحصاء (Insee)، قام، قبل أعوام، بإجراء تحقيق مفصّل عن “الأشخاص من دون مأوى” من أجل دراسة خصائص هؤلاء الأشخاص ومساراتهم، وتوصل إلى أن العدد يزيد على 140000. وكان بينهم فقط عدد قليل من “المشرّدين” الذين يعيشون في الشارع.
تضيف كابونيتو أن هذه الفئة شهدت زيادة كبيرة في عدد النساء والأطفال مقارنة بالعقد الماضي، بحيث “تشكّل النساء ما يقارب ثلت العدد”.
وبعضهن ضحايا للعنف المنزلي، بالإضافة إلى ذلك، هناك من يرفضون السكن، و”لا يمكننا إجبارهم إلا في حالات اضطرابات عصبية”، بالإضافة إلى عامل الهجرة وزيادة طلبات اللجوء بفعل الأزمات العالمية والحروب.
الشارع القاتل
يعاني المشردون مشاكل كثيرة تهدد صحتهم وتوازنهم النفسي وحياتهم أيضاً، فلقد توفي رجل بسبب البرد قبل أيام. وبحسب صحيفة “لو باريزيان”، نشب في هذا الشهر شجار عنيف في مخيم للمشردين في إيفلين، أودى بحياة رجل روماني يبلغ من العمر 47 عاماً.
وفي إحصاء لجمعية “موتى الشارع”، شهد عام 2022، 611 حالة وفاة في الطرقات. ووفق دراسة أجراها معهد “أنسرم”، يموت نحو ستة أضعاف عدد المشردين “المختبئين” كل عام من دون أن يلاحظ أحد ذلك.
تؤكد نويمي كابونيتو أن الأشخاص، الذين عاشوا في الشارع فترات طويلة، يكوّنون عقلية مغايرة منفصلة عن المجتمع، و”يفقدون الإحساس بالزمان والمكان فيرفضون مساكن الدولة”، ولا يعبأون بالنوم على الطرقات بين أقدام المارة، فيراكمون مشاكل نفسية كبيرة، بالإضافة إلى المشاكل التي تعانيها مراكز الإيواء فيما يخص الأعداد الهائلة، وما ينجم عن ذلك من الحاجة إلى الاندماج والتعامل مع الآخر في غرف غير منفردة، وخصوصاً في العاصمة باريس، على حدّ وصفها.
والأمثلة كثيرة على المتشردين في شوارع فرنسا فمثلا:
آلان، هو متشرد أفريقي في نواحي سان لازار في باريس منذ 10 أعوام. هاجر إلى فرنسا عبر البحر. وهو حاليّاً من دون أي أوراق ثبوتية، بعد تعرضه للسرقة، وهي ظاهرة منتشرة بين هؤلاء المشردين. وهو نتيجة ذلك غير مؤهل لتلقي أي مساعدات تقدمها الدولة، ويقتات من تعاطف المارّة أو من أعمال متفرقة.
أمّا جواد، جزائري الأصل، فيقول: “أحياناً أستطيع أن أجد مأوى في غرفة أوتيل، لكني معظم الوقت أنام على الأرصفة وتحت الجسور”.
يعمل جواد في الشراء والبيع، فيبحث عن الخردة ليعيد بيعها بثمن قليل كي يشتري طعامه.
ويضيف: “إذا زاد معي ما يكفي من المال أستأجر سريراً في أحد الفنادق الرخيصة”. ويعبّر عن استيائه قائلاً إن “الدولة الفرنسية غير معترفة بوجودي. أنا في باريس منذ أكثر من 4 أعوام ولا أملك أي إثبات على هوية أو إقامة”.
وأكّد أن عدة جمعيات ساعدته على الحصول على الـAME، وهي المساعدة الطبية الحكومية لهذه الفئات. وتقدَّم كذلك بناءً على طلب سكن اجتماعي، “لكن يبدو أنني لست أولوية”، على حد تعبيره.
مساعٍ لاحتواء الأزمة
يشار إلى أن ظاهرة المخدرات تجد مكانها بين هذه الفئة.
ويقول شكيب حميدان وهو عامل اجتماعي في مؤسسة “أورور”، ويعمل حالياً في مركز للإيواء النهاري في باريس. يهتم هذا المركز بصورة خاصة بمرافقة المدمنين على المخدرات وتقليل المخاطر المرتبطة بإدمانها، بالإضافة إلى بعض الأنشطة التوعوية.
يقول إن إيجاد مأوى للمتقدّمين بطلبات منهم “ليس بالأمر السهل، وعدد الشقق التي لدينا محدود جدّاً، والشقق موزّعة مسبقاً”.
خلال أزمة كورونا، كرّست الدولة مبالغ كبيرة لتأمين مساكن إضافية لاستقبال الأشخاص الذين لا مأوى لهم، الأمر الذي زاد عددها بصورة ملحوظة.
ويقول شكيب عن مواكبته ملفات هذه الفئة في بداية انتشار الوباء عام 2020، بحيث كانت الدولة تستأجر فنادق ومراكز إيواء موقتة، و”هي الوسيلة التي ما زالت تعتمدها حتى الآن”.
يوجد الآن عدد من مؤسسات الإيواء العامة والمحليّة، والوصول إليها يكون وفق معيار الضرورة، وبعد دراسة دقيقة للملفات الشخصية.
فالمرأة الحامل في الشهور الأخيرة وضحايا العنف والطفل والقاصر والعامل يتمتعون بأولوية السكن.
تتوزع هذه المراكز بين “الإيواء الطارئ”، و”الإيواء بهدف الإدماج”، من أجل دعم الفئة المهمشة لاستعادة استقرارها، و”إيواء المواطن” الذي يعتمد على تضامن الأفراد الذين يختارون توفير غرفٍ في منازلهم موقتاً لإيواء شخص يواجه صعوبات.
أما الصليب الأحمر و”مطاعم القلب” وجولات الرعاية المتنقلة، والتي تُعرف بـ”مارود الساموسوشيال”، فهي مؤسسات خيرية تعنى بصورة خاصة بتوزيع الوجبات الغذائية والملابس في الشارع أو في مراكزها، وتقدم أيضاً خدمات صحيّة.
تموّل هذه المراكز، بصورة كبيرة، من المتبرعين، وتؤكد نويمي كابونيتو، التي تعمل في مؤسسة “إيكواليس”، المموَّلة بصورة كلية من الدولة، أن الحكومة تقدّم كثيراً من المغريات إلى المتبرعين “كالإعفاء الضريبي، على نحو يجعلها مساهمة بصورة كبيرة في تمويل هذه المؤسسات”.
الجدير بالذكر أن فرنسا تعاني أزمة سكن كبيرة، وخصوصاً في العاصمة باريس. وعلى الرغم من أن القانون يضمن حق كل فرد في الحصول على سكن لائق، فإن الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 15 مليون شخص تأثروا بهذه الأزمة في عام 2023.
ووفقاً لكابونيتو، تحتاج قضية فئة المشرّدين إلى “إرادة سياسية حقيقية وتخصيص تمويل إضافي”، عن طريق منح هؤلاء الأشخاص فرصة بناء حياة مدنية سليمة، يمكنهم من خلالها المشاركة في دفع الضرائب وتخفيف العبء عن الدولة في المستقبل.
و”إن تجربة استقبال الأوكرانيين تمثل دليلاً على أن الدولة قادرة على تحقيق ذلك عندما تريد ذلك”.