فرض الولايات المتحدة للرسوم الجمركية بشكل تعسفي يضر بالآخرين ويلحق الضرر بنفسها

سونغ وي: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 12-09-2025
أعلنت الولايات المتحدة مؤخرا عن فرض ما يسمى “رسوم جمركية متبادلة” على شركائها التجاريين في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى تصعيد الحمائية والأحادية إلى مستويات جديدة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة زعمت مرارا وتكرارا أن هذا الإجراء يهدف إلى تنفيذ وعود حملة الرئيس ترامب الانتخابية، والحد من “المنافسة غير العادلة” الناجمة عن العجز التجاري التي تضر بالصناعة الأمريكية، وجعل “أمريكا عظيمة مرة أخرى”، إلا أن “عصا” الرسوم الجمركية التي تلوح بها مستغلة هيمنتها الجغرافية والاقتصادية، قد أحدثت تأثيرات سلبية للغاية على النظام الاقتصادي العالمي، وسلاسل الصناعة والإمداد العالمية، والتنمية الاقتصادية للدول الأخرى، لقد أضر ذلك بشكل خطير بثقة المجتمع الدولي في العولمة الاقتصادية والتعددية.
إن فرض الرسوم الجمركية بشكل تعسفي ليس سبيل النجاة لتعزيز النمو الاقتصاديالأمريكي، بل هي طريق خاطئ يضر بعلاقات الولايات المتحدة مع شركائها التجاريين.
وبعد إعلان الولايات المتحدة في 2 أبريل 2025 عن فرض رسوم جمركية إضافية دون تمييز، شهدت البلاد ارتفاعا حادا في الأسعار، وتراجعت سوق الأسهم بشكل حاد، وانخفضت معدلات الفائدة، وانخفضت قيمة الدولار الأمريكي، وهذه مجرد تأثير قصير المدى.
وعلى المدى الطويل، ستؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى زيادة كبيرة في تكاليف الشركات الأمريكية، وانخفاض أرباحها، وتراجع حاد في صادراتها ووارداتها، مما سيؤدي في النهاية إلى انخفاض الحيوية الاقتصادية.
وبالنسبة إلى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، فإن معظم الدول ستتضرر بشدة من تدهور التجارة والاستثمار التجاري. وباعتباره الحليف الرئيسي والشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة، تمثل صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة 15% من إجمالي واردات الولايات المتحدة، مع فرض هذه السياسات الجمركية ستتراجع قدرة منتجات الاتحاد الأوروبي على المنافسة في السوق الأمريكية، مما يفاقم من تدهور اقتصاد الاتحاد الأوروبي، الذي أرهقته بالفعل أزمة أوكرانيا. وعلى سبيل المثال، قد يدخل الاقتصاد الألماني، الذي شهد تراجعا مستمرا خلال عامي 2023 و2024، في حالة ركود. علاوة على ذلك، فإن “عصا” الرسوم الجمركية الأمريكية ليست بلا ثمن، فهي ستؤدي حتما إلى فرض رسوم جمركية انتقامية، ومع تصاعد وتيرة “الحرب التجارية”، تزداد بشكل كبير إمكانية حدوث ركود اقتصادي عالمي.
ومن أجل الدفاع عن حقوقها ومصالحها التنموية، أعلنت الصين في 9 أبريل الماضي عن تعديل معدل رسومها الجمركية على واردات الولايات المتحدة، بموجب “قانون الجمارك لجمهورية الصين الشعبية” وغيره من القوانين واللوائح، والمبادئ الأساسية للقانون الدولي، حيث رفعت الرسوم من 84% إلى 125%.
وأكدت في الوقت نفسه أن فرض الولايات المتحدة رسوم جمركية فاحشة على الصين ينتهك بشكل خطير قواعد التجارة الدولية، ويتعارض مع المبادئ الاقتصادية الأساسية والمنطق السليم، ويعد ممارسة تسلطية قسرية أحادية الجانب وإكراها بشكل كامل.
وفي نفس اليوم، صوتت الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي بالموافقة على تدابير مضادة لفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات الأمريكية، كرد فعل على قرار إدارة ترامب في 12 مارس الماضي بفرض رسوم على واردات الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي.
تضعف الولايات المتحدة التعددية بفرضها المفرط للرسوم الجمركية، وتتعارض بشكل صارخ مع مبدأي عدم التمييز والدولة الأولى بالرعاية اللذين تؤكد عليهما منظمة التجارة العالمية (WTO)، مما يشكّل تهديدا خطيرا للأمن والاستقرار في النظام الاقتصادي والتجاري الدولي وسلاسل الصناعة والإمداد العالمية، كما يضر بشكل كبير بالبيئة التجارية الدولية، ويزعزع أساس النظام التجاري المتعدد الأطراف.
وأشار تشاد باون، كبير الباحثين في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في الولايات المتحدة، إلى أن “فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية متفاوتة على دول مختلفة يعد انتهاكا صارخا لالتزام أعضاء منظمة التجارة العالمية بعدم التمييز. وإذا رفعت الولايات المتحدة معدلات الرسوم الجمركية لتتجاوز أعلى المستويات التي جرى التفاوض عليها مع أعضاء المنظمة الآخرين، فإن ذلك يعد انتهاكا أيضا لقواعد منظمة التجارة العالمية”.
وفي الواقع، فإن فرض الولايات المتحدة للرسوم الجمركية بشكل تعسفي يعني أنها قد انسحبت فعليا من نظام التجارة الحرة الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بقيادتها، وتعكس نيتها في بناء نظام تجاري جديد قائم على مبدأ “أمريكا أولا” وإعادة صياغة قواعد التجارة. ومع انسحاب الولايات المتحدة، يثير مصير نظام التجارة الحرة العالمي اهتمام العالم أجمع.
ووفقا للوضع الحالي، إذا رد الشركاء التجاريون للولايات المتحدة باتخاذ تدابير مضادة بشكل عام، فإن ذلك قد يؤدي إلى تدهور الاقتصاد العالمي بشكل أكبر. وترى المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو-إيويالا أن فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية إضافية قد يسبب تراجعا في حجم التجارة العالمي الإجمالي للسلع بنسبة تقارب 1% خلال العام الجاري، مما يؤثر بشكل كبير على آفاق النمو التجاري والاقتصادي العالمي. وتشير دراسة للبنك الدولي إلى أنه إذا ارتفع متوسط الرسوم الجمركية العالمية بمقدار 10%، فمن المتوقع أن ينخفض حجم التجارة الدولية بنسبة تتراوح بين 15% و20%، الأمر الذي سيؤثر سلبًا على الدول النامية بشكل خاص.
وأشار أوتافيانو كانوتو، كبير الباحثين في مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد ونائب الرئيس الأسبق والمدير التنفيذي الأسبق للبنك الدولي، إلى أن “هذه السياسة الأمريكية الموجهة نحو الثنائية قد تتسبب في ظهور موجة جديدة من الحمائية، وتعيد تكرار سيناريو الحرب التجارية والكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وتسفر عن توجيه ضربة قوية لسلاسل الإمداد العالمية، ويضر بشكل جسيم بالاقتصادات الصغيرة التي تعتمد على استقرار التوقعات. لذلك، فإن جميع الدول في أمسّ حاجة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات وإعادة بناء نظام تجاري حديث متعدد الأطراف”.
كما تسببت سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية في تصاعد التناقضات الداخلية، وزادت من حدة الخلافات بين الأحزاب داخل الولايات المتحدة. ومع ارتفاع الرسوم الجمركية، شهدت الولايات المتحدة مشكلات مثل الارتفاع الحاد في الأسعار وزيادة معدلات التضخم والبطالة بشكل كبير، وازدياد نفقات الأسر الأمريكية.
وشهد عدد غير قليل من المتاجر في الولايات المتحدة “موجات الشراء بدافع الذعر”، كرد فعل يعكس مخاوف المواطنين الأمريكيين من استمرار ارتفاع الأسعار الناجم عن سياسة الرسوم الجمركية الذي دفعهم إلى “تخزين السلع” بشكل اضطراري.
وإضافة إلى ذلك، تصاعدت موجة من الاحتجاجات في الولايات المتحدة، ففي 5 أبريل الماضي وحده نظمت أكثر من 1300 فعالية احتجاجية في جميع أنحاء البلاد. وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مجموعة من المؤسسات مثل جامعة كوينيبياك الأمريكية، ومركز نافيجيتور الأمريكي للبحوث، ووكالة رويترز، ومجموعة إبسوس، أن أكثر من نصف الأمريكيين لا يؤيدون سياسة الرسوم الجمركية، ويشعرون بالقلق إزاء الوضع الاقتصادي المستقبلي.
واستغل الديمقراطيون على كافة المستويات هذه الحالة ووجهوا انتقادات حادة لسياسة الحكومة الجمهورية في فرض الرسوم الجمركية، حيث اتهم السيناتور الديمقراطي آدم شيف وعضو مجلس النواب الديمقراطي سيدفن هورسفورد، الحكومة الفيدرالية باستخدام سياسة الرسوم الجمركية للتلاعب بأسواق الأسهم وتحقيق مكاسب غير مشروعة، مطالبين الكونغرس بإجراء تحقيق مع الحكومة الفيدرالية والمسؤولين المعينين.
كما أعلن غافن نيوسوم، حاكم ولاية كاليفورنيا الديمقراطي، تقديم دعوى ضد الحكومة الفيدرالية الأمريكية بشأن قضية الرسوم الجمركية، متهما إياها بأن سلوكها “يخالف القوانين”، وطلب من المحكمة إعلان بطلان الرسوم الجمركية التي فرضتها الحكومة الفيدرالية ومنع تنفيذها. وأكد تشاك شومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن سياسة الرسوم الجمركية التي تنتهجها الحكومة الفيدرالية عبئا ضخما على الأسر الأمريكية وتستهدف مساعدة المليارديرات في الحصول على تخفيضات ضريبية.
وقال وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن إن معدلات الرسوم الجمركية التي تفرضها الحكومة الفيدرالية غير مقنعة على الإطلاق، ولم تخضع لنقاش مهني ومستهدف وحذر، وإنها جاءت بشكل متهور، مما يضر بمنظومة التحالفات الأمريكية ويبعث بإشارة الانعزالية إلى حلفائها، مما يجعلهم غير واثقين بالولايات المتحدة بعد ذلك، ويبتعدون عنها.
كما انتقد كل من الرئيسين الديمقراطيين السابقين، أوباما وبايدن، سياسة الرسوم الجمركية التي تنتهجها إدارة ترامب، في مناسبات مختلفة. ومن ناحية أخرى، لا يسود الانسجام داخل الحزب الجمهوري. فوفقا لتقارير إعلامية أمريكية، يدفع حاليا سبعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين نحو تشريع يلزم بضرورة حصول سياسة الرسوم الجمركية على موافقة الكونغرس، بدلا من أن تكون صلاحية حصرية للرئيس كما يرغب فيه ترامب. ووصف عضو مجلس النواب الجمهوري من ولاية نبراسكا دون باكون، سياسة الرسوم الجمركية التي تتبعها الحكومة الفيدرالية بأنها “خطأ تاريخي ناجم عن تنازل الكونغرس عن صلاحيته”.
وأشار السيناتور الجمهوري من ولاية كنتاكي راند بول إلى أن سياسة الرسوم الجمركية تكلف الأمريكيين ثمنا باهظا، وعلى الكونغرس إعادة التأكيد على صلاحياته التي يمنحها له الدستور بشأن وضع الرسوم الجمركية وصياغة قواعد التجارة الخارجية. وأوضح مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق خلال إدارة ترامب الأولى وعضو الحزب الجمهوري أن فرض رسوم جمركية على نظام واسع من قبل الحكومة الفيدرالية “غير موفّق”، وسيثقل كاهل الأسر العاملة والشركات الأمريكية.
وباعتبارها أكبر سوق استهلاكية في العالم، فإن “عصا” الرسوم الجمركية التي تنتهجها الولايات المتحدة تفاقم من جديد مخاطر الركود الاقتصادي العالمي. وجدير بالاهتمام، أن الولايات المتحدة، بعد إعلانها فرض رسوم جمركية غير تمييزية في 2 أبريل الماضي، أعلنت تنفيذ إعفاءات جمركية على منتجات إلكترونية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، ولكن بعد ثلاثة أيام فقط، نفى البيت الأبيض بشكل عاجل صحة هذه الأخبار.
وهذه سلسلة من الإجراءات المتقلبة “الأفعوانية” تكشف ضعف ثقة الولايات المتحدة في تنفيذ الهيمنة والأحادية تحت الضغوط الاقتصادية. وقالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية السابقة إن فرض الرسوم الجمركية بشكل تعسفي لا يضر فقط بالنظام التجاري العالمي، بل يؤثر بشكل سلبي عميق وطويل المدى على الأسر والعمال والاقتصاد الأمريكي بشكل عام.
وفي 21 أبريل الماضي، وقّع عشرات الاقتصاديين الأمريكيين، من بينهم حائزان على جائزة نوبل، رسالة مشتركة تعارض سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية، وصفوها بأنها “انحراف عن الطريق الصحيح”، وحذروا من أنها قد تؤدي إلى “ركود ذاتي المنشأ”. وإذا واصلت إدارة ترامب فرض الرسوم الجمركية بشكل تعسفي، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تصعيد ردود فعل الشركاء التجاريين، وستواجه آليات حوكمة الاقتصاد العالمي تحديات جسيمة في ما يتعق بالتنسيق والفعالية، وسيصبح المستهلكون في أنحاء العالم ضحايا لسياساتها الحمائية القصيرة النظر، بينما ستلقي الولايات المتحدة نفسها حتما الضربة القاسية.
____________________
سونغ وي: أستاذة في كلية العلاقات الدولية التابع لجامعة بكين للدراسات الأجنبية