أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

غزة ما بعد العدوان: ملامح المشهد السياسي الفلسطيني الجديد

يشهد المشهد الفلسطيني واحدة من أكثر مراحله حساسية وتعقيداً منذ عقود، بعد العدوان المدمّر الذي استهدف قطاع غزة في أكتوبر 2023. لم يكن هذا العدوان مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل لحظة مفصلية أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية الفلسطينية، ووضعت النظام السياسي أمام أسئلة مصيرية تتعلق بشرعية الحكم، ومستقبل المقاومة، وموقع فلسطين في معادلة الإقليم والعالم.

أعادت تداعيات العدوان فتح جراح الانقسام الداخلي الذي أرهق الفلسطينيين طويلاً. فحركة حماس، التي ظلت لسنوات تدير القطاع بقبضة أمنية وتنظيمية، تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، سواء من حيث الضغوط الإنسانية أو التململ الشعبي من استمرار المعاناة اليومية.

في المقابل، لم تستطع السلطة الفلسطينية في رام الله ملء الفراغ السياسي أو استعادة الثقة الشعبية المفقودة، إذ بدت عاجزة عن تقديم مشروع سياسي جامع يوازي حجم التحديات.

وبين الطرفين، يتنامى حضور الشارع المدني في غزة والضفة الغربية، الذي بدأ يعبّر عن نفسه بمبادرات إصلاحية ومطالبات علنية بالمحاسبة والشفافية، ما يشير إلى تحوّل تدريجي في الوعي السياسي الفلسطيني نحو المشاركة والمساءلة.

على الصعيد الإقليمي، بدا المشهد أكثر تعقيداً، فبينما ركّزت بعض القوى العربية على جهود التهدئة وإعادة الإعمار، ظهرت أطراف أخرى تسعى لإعادة صياغة المعادلة السياسية في غزة بما يتناسب مع مصالحها الأمنية والإستراتيجية.

أما إقليمياً، فقد أعاد العدوان فتح النقاش حول جدوى استمرار الانقسام الفلسطيني، وضرورة صياغة رؤية موحدة لإدارة القطاع تضمن الأمن والاستقرار دون المساس بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية.

دولياً، برزت تحولات مهمة لا يمكن تجاهلها. فقد أطلقت الولايات المتحدة مبادرة سياسية تدريجية تربط إعادة الإعمار بترتيبات أمنية وسياسية محددة، في حين أقدمت كلّ من بريطانيا وإسبانيا على الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، وهي خطوة شكّلت سابقة أوروبية أعادت بعض التوازن إلى الخطاب الدولي بشأن القضية الفلسطينية.

كما شهدت العواصم الغربية واللاتينية مظاهرات حاشدة تضامناً مع الفلسطينيين، ما أعاد الاعتبار للقضية في الوعي العالمي بعد سنوات من التراجع والتهميش.

هذه التغيرات، وإن كانت محدودة في أثرها العملي حتى الآن، إلا أنها تشكّل فرصة سياسية يمكن للفلسطينيين توظيفها لإعادة بناء خطاب دبلوماسي حديث يستند إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان.

وفي موازاة الحراك السياسي، يبرز ملف إعادة إعمار غزة بوصفه التحدي الأكبر والأكثر حساسية. فالإعمار، في جوهره، ليس مسألة مالية أو تقنية فحسب، بل عملية سياسية بامتياز، تختبر مدى جدية الأطراف المحلية والدولية في دعم بناء مؤسسات فلسطينية فاعلة وشفافة.

فبدون منظومة حوكمة رشيدة وإشراف نزيه على الموارد، قد تتحول عملية الإعمار إلى أداة جديدة للصراع الداخلي أو للنفوذ الخارجي. لذلك، فإن نجاحها مرهون بمدى القدرة على إشراك الكفاءات المحلية، وتوحيد الجهود تحت مظلة وطنية واحدة، وضمان العدالة في توزيع الموارد بما يرمم الثقة بين المواطن ومؤسساته.

أمّا مستقبل غزة السياسي، فيبدو مفتوحاً على ثلاثة مسارات متداخلة:

  • الأول يتمثل في إنشاء إدارة مدنية انتقالية بإشراف دولي وعربي محدود، وهو خيار يحظى بقبول إقليمي لكنه يحتاج توافقاً فلسطينياً صريحاً.
  • الثاني استمرار حكم حماس بصيغة معدلة تُظهر انفتاحاً أكبر على المصالحة، غير أنّ هذا الخيار يبدو هشّاً في ظل الضغط الشعبي وتراجع الدعم الخارجي.
  • أما الثالث، وهو الأسوأ، فيتمثل في حالة فراغ سياسي وفوضى داخلية، قد تعيد القطاع إلى مربع اللااستقرار وتفتح الباب لتدخلات متعددة الاتجاهات.

وسط هذه الاحتمالات، تبقى الحقيقة الثابتة أن غزة بعد العدوان ليست كما كانت قبله. فالدمار الواسع وما خلّفه من مآسٍ إنسانية كشف هشاشة البنية السياسية، لكنه في الوقت ذاته أعاد توحيد الوجدان الفلسطيني حول ضرورة إعادة بناء النظام الوطني على أسس جديدة.

لم تعد معادلة القوة وحدها كافية لتحديد مستقبل غزة، بل باتت الحاجة ملحّة إلى مشروع وطني يوازن بين المقاومة والسياسة، بين الواقعية الدبلوماسية والثوابت الوطنية، وبين الداخل الفلسطيني والمجتمع الدولي.

إن إعادة صياغة المشهد السياسي في فلسطين بعد العدوان تتطلب قيادة قادرة على قراءة المتغيرات الدولية والإقليمية بذكاء، واستثمار اللحظة التاريخية لتثبيت الحقوق الفلسطينية في إطار الشرعية الدولية.

فالقضية الفلسطينية ما زالت تمتلك عمقاً شعبياً وأخلاقياً عالمياً، لكن ترجمة هذا العمق إلى مكاسب سياسية تستلزم رؤية موحدة، ومؤسسات قوية، وخطاباً عقلانياً يعيد بناء الثقة بين الفلسطيني والعالم.

غزة اليوم ليست مجرد عنوان للمأساة، بل ميدان لاختبار الإرادة السياسية الفلسطينية، وقدرتها على تحويل الألم إلى مشروع وطني جامع. فالسؤال الذي سيحسم مستقبلها لم يعد فقط “من يحكم غزة؟” بل “كيف تُحكم غزة، وبأي شرعية، ولأي غاية؟” — سؤال تختصر إجابته جوهر المرحلة القادمة من التاريخ الفلسطيني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق