غزة: بوابة المتوسط وساحة صراع المصالح الكبرى

إعداد الدكتورة ميسون بشير: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 17-10-2025
يشغل قطاع غزة موقعًا جيوسياسيًا استراتيجيًا فريدًا في قلب الصراعين الإقليمي والدولي على الساحة العربية. فهو شريط ساحلي ضيق على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، يشكل جسرًا طبيعيًا بين مصر وإسرائيل، ما يمنحه أهمية بالغة باعتباره بوابة التحكم في الممرات البحرية الحيوية ومفتاحًا لمداخل الشرق الأوسط.
هذا الموقع جعل غزة ساحة لتقاطع المصالح السياسية والعسكرية والإنسانية، وموضوعًا دائمًا لتنافس القوى الإقليمية والدولية الساعية لتوسيع نفوذها في المنطقة.
تاريخيًا، شهد قطاع غزة صراعات متواصلة منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، إلا أن ملامح الصراع تجلت بشكل أكثر حدة بعد تولي حركة حماس الحكم والسيطرة على القطاع عام 2007. منذ ذلك الحين، أصبح القطاع محورًا للاختبارات السياسية والأمنية الإقليمية والدولية، حيث فرضت إسرائيل وحلفاؤها سياسات حصار وعقوبات متعددة الأبعاد، في حين ظل الفلسطينيون في غزة يواجهون تحديات يومية معقدة على المستويات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية. هذا الواقع جعل غزة مختبرًا حيًا لموازين القوى الدولية والإقليمية، حيث تتقاطع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة مع إيران وتركيا ودول الخليج، في سياق دبلوماسي وسياسي معقد يعكس تعدد طبقات النفوذ والصراع على الهيمنة.
لا يُختزل الصراع على غزة في البعد الجغرافي أو العسكري فقط، بل يمتد إلى أبعاد رمزية وسياسية عميقة؛ فغزة تمثل رمزًا للمقاومة الفلسطينية وصمودها، وتُعد ورقة ضغط استراتيجية في حسابات التوازن الإقليمي والدولي. بالنسبة لإسرائيل، تشكل غزة تهديدًا أمنيًا مستمرًا، بينما تراها أطراف أخرى نقطة ارتكاز للتوازنات الجديدة في الشرق الأوسط.
بعد السابع من أكتوبر 2023، شهد القطاع تصعيدًا عسكريًا واسعًا نتيجة العدوان الإسرائيلي، الذي أدى إلى إبادة جماعية للسكان المدنيين وخسائر بشرية ومادية جسيمة. تفاقمت الأزمة الإنسانية والاجتماعية والسياسية خلال عامين من المعاناة المستمرة والتدمير المتكرر، مما جعل القطاع يمر بواحدة من أصعب فترات تاريخه الحديث. نتيجة لهذا التصعيد، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في الثالث من أكتوبر 2025 برعاية مصرية وتركية وقطرية، شمل تبادل الأسرى وفتح المعابر الإنسانية، لكنه لم ينه جذور الأزمة الحقيقية، وما زال المجتمع الدولي يتطلع لاستمرار هذا الاتفاق وضمان الالتزام به.
هكذا تبقى غزة مفترقًا للصراع الجيوسياسي ومؤشرًا لتحولات الشرق الأوسط، إذ يعكس التصعيد المتكرر فيها اختبارًا لمعادلات القوة الإقليمية وتبدلات موازينها. إن فهم أبعاد الصراع في غزة لا يقتصر على الجانب الفلسطيني–الإسرائيلي، بل يتطلب رؤية شاملة تدرك تشابك المصالح الدولية والإقليمية، وتدعوا إلى حلول متوازنة تحفظ الأمن وتعيد الاعتبار للحقوق الإنسانية والسياسية للشعب الفلسطيني.
ختامًا، تمثل غزة اليوم أكثر من ساحة نزاع محلي؛ إنها مرآة للنظام الدولي في طور التحول، حيث يتقاطع فيها النفوذ الأميركي والإسرائيلي مع محاولات صعود قوى بديلة كروسيا والصين وإيران وتركيا. الصراع فيها يكشف عن تحول الشرق الأوسط من نظام أحادي القطبية إلى بيئة متعددة الأقطاب، تُعاد فيها صياغة التحالفات على أساس المصالح لا الأيديولوجيا. ومن هنا، فإن أي تسوية مستقبلية في غزة لن تكون بمعزل عن هذا التحول الجيوسياسي العميق، بل جزءًا من معادلة النفوذ في شرق المتوسط والعالم.