عن الدولة العميقة وخباياها…

10/09/2025
إعداد: صبرين العجرودي
ييرتبط مفهوم الدولة العميقة ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة السياسية، ذلك لما يلعبه من تأثير مهم في هذه الأنظمة ومدى تحقيقها للنتائج المأمولة، ويحدث ذلك عن طريق عناصرها التي تبني صفة هذه الدولة “العميقة”، نظرًا لأنّها لا تكون مكشوفة للعيان ولا تقوم بأدوارها على مرأى من المجتمع، بل تتخفّى وراء البنى الاجتماعية وتؤثّر بها وتحرّكها بالطرق التي تحقّق لها غاياتها.
ما هي الدولة العميقة؟
يشير مفهوم الدولة العميقة إلى: مجموعة خفية من الفاعلين والمؤسسات السرّية المتسرّبة داخل أجهزة الدولة الواسعة النطاق والظاهرة للعيان، وعادة ما يكون الهدف الرئيسي لهذه العناصر هو الفوز في الصراع السياسي عن طريق تكريس العنف وإثارة البلبلة وبثّ الفوضى باعتماد مختلف الوسائل، كمؤسسات الدولة أو التسبّب في الجرائم الاجتماعية لبثّ الفوضى والذعر وإثارة الرأي العام…
تشكّل الدولة العميقة جزءًا من خطّة شاملة عالمية أو إقليمية يقع تطبيقها على مستوى الدولة، حيث ينطلق عناصرها في التوغّل داخل أجهزة الدولة والقيام بأدوارهم وفقًا لما تفرضه طبيعة البنية أو المنظومة الاجتماعية، فمثلًا إذا ما تحدّثنا عن الإعلام كمؤسسة اجتماعية، يمكن للإعلاميين أن يكرّسوا ممارسات الدولة العميقة من خلال أدوارهم ضمن هذه المؤسسة باعتماد التضليل الإعلامي أو بثّ الدعاية السوداء…
أهم مكوّنات وعناصر الدولة العميقة
الأجهزة الأمنية:
لا يمكن اختصار عناصر الدولة العميقة في مفهوم “القوات المسلّحة” فقط أو “المنظومة العسكرية” وكل المؤسسات الأخرى المتعلّقة بها، لكن هناك مؤسسات اجتماعية أخرى لا تخضع لسلطة المؤسسة العسكرية رسميًا قد تكون من ضمن عناصر الدولة العميقة، وخاصة في الدول التي يكون نظامها مدنيًا.
أمّا مفهوم “القوات المسلّحة” فيحيل على الطابع الرسمي لهذه القوات التي تُشرف عليها الدولة والمؤسسة العسكرية، في حين أنّ مفهوم “الأجهزة الأمنية” أكثر اتساعًا، يجمع بين الأولى “القوات المسلّحة الرسمية” والعناصر غير الرسمية التي لا تخضع لسلطة الدولة والمؤسسة العسكرية، كالهيئات العسكرية الخاصّة والملحقة، وكذلك الميليشيات والمرتزقة وعصابات المافيا وكل الجماعات المسلّحة وغير المسلّحة غير النظامية ولا ترتبط بالدولة.
وعمومًا تشتغل “القوات المسلّحة” لصالح سلطة ظاهرة للعيان تكون أهدافها واضحة، في حين أنّ “الأجهزة الأمنية” بمعناها الشامل والواسع التي قد تشمل عناصر لها قيادات متخفّية تقود إلى وجود مصالح متعدّدة ومتقاطعة فيما بينها.
يقترن مفهوم “الدولة الأمنية المستقلة” بمفهوم “الدولة العميقة” مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية على مستوى الارتباط الكامن بين عناصر كلّ من المفهومين، فالأولى بمثابة دولة مستقلة توجد داخل الدولة الرسمية ككيان تترابط مؤسساته على المستوى الداخلي بحيث تكون عناصر القيادة واضحة ومستقلّة لدرجة أنّها لا تخضع لأيّ رقابة خارجية، لكن تُحدّد أهدافها من داخلها من طرف المسؤولين الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح النخبة السياسية.
أمّا في الدولة العميقة فتكون العلاقات بين عناصرها الداخلية (الميليشيات، القوات المسلّحة، الأجهزة الاستخباراتية، الشرطة، عصابات المافيا والمنظمات الإجرامية…) غامضة وغير واضحة ومحدّدة حتى بالنسبة إلى العناصر أنفسهم، فهي لا تستطيع حتى أن تميّز بعضها أو أن تدرك خطوط الترابط بينها وبين العناصر الأخرى، وبذلك فإنّ الأجهزة الأمنية شديدة الاستقلالية عموديًا في علاقتها بالركائز الأخرى للدولة، ومشتّتة للغاية أفقيًا في علاقة الفاعلين ضمن الدولة العميقة بالآخرين، وفي علاقة الدولة العميقة بالقوات المسلّحة ووزارتي الدفاع والداخلية.
منطق الوصاية
تعتمد الدولة العميقة على منطق معيّن لتبرير وجودها، فعلى الرغم من تموقعها خارج ركائز الدولة وبناها القانونية، إلا أنّها تدّعي كون وجودها أمرًا ضروريًا داخل الدولة، وأنّ المجتمع في حاجة إليها، أو تحديدًا إلى “مبدأ الوصاية” الذي يشكّل إحدى أهم عناصرها ومصدر قوّتها.
يحيل مفهوم الوصاية على قدرة الأفراد على العمل خارج بيروقراطية الدولة والحكومة ومختلف الإكراهات التي يمكن أن تفرضها على الأفراد وتُلزمهم إيّاها، ومن خلال ذلك يمكن للأفراد أن يبنوا علاقات براغماتية ويطوّروا من أنفسهم داخل الدولة العميقة من خلال الفساد والمحسوبية…
تنظر الدولة العميقة إلى أنّ الوصاية ضرورة ملحّة داخل المجتمع، وبذلك فهي ترى أنّ وجودها أمر ضروري خاصّة في الدفاع عن الوطن من أي تهديد كان سواءً من الداخل أو الخارج، وهي توجد داخل الدولة من منطلق انعدام ثقتها في سياسات الحكومة والدولة، ومنه فإنّ الدولة العميقة تبرّر بعض الممارسات غير القانونية ضدّ الجهاز الحكومي والدولة بأنّه ليس دفاعًا إلاّ من خطر يهدّد الوطن وهويّته، فهي تقدّم نفسها على أنّها مُنقذ الوطن واليد المدافعة عنه من انتهاكات الدولة والحكومة، ويعكس اعتبار الدولة العميقة نفسها أنّها الوصي على الوطن. في هذا السياق يقول أستاذ العلوم السياسية البولندي-الأمريكي “آدم برزيفورسكي” (Adam Przeworski): يتمّ تعريف الوصاية العسكرية بأنّها الافتقار إلى رقابة مدنية على القوات المسلّحة في ظلّ نظام ديمقراطي، وبعبارة أخرى حيث يحتفظ الجيش بالحق في إطاحة القادة المنتخبين “لتصحيح مسار تدبير شؤون الدولة”.
لكن في وضعيّة الدولة العميقة لا يمكن اعتبار أنّ منطق الوصاية يقتصر فقط على المنظومة العسكرية أو الجيش، بل هناك العديد من المؤسسات الأمنية الأخرى التي تعتبر نفسها وصيًّا على الدولة الوطنية وهي في حالة تأهّب مستمر لمهاجمة الحكومة والنخب السياسية وغيرها من العناصر التي تهدّدها الدولة الوطنية. ويجدر التأكيد على أنّ الدولة العميقة وُجدت أساسًا لتلعب هذا الدور الوصائي، وبغيابه ينعدم وجودها، وذلك يجعلها دائمًا في صراع مستمر مع الدولة متعلّلة بالإصلاح والتصحيح “لدورها الأساسي”.
بارانويا الحصار ونظرية المؤامرة
أولًا يُقصد بـ“البارانويا” عملية التفكير المستمر والشك غير المنطقي لدى المريض به بأنّ هناك تهديدات وخطرًا داهمًا ومؤامرات تقوم بها عناصر معيّنة ضدّه.
تُعتبر بارانويا الحصار أحد أهم عناصر المهمّة أيضًا في الدولة العميقة، باعتبار أنّها تبرّر دور الوصي والحارس على الدولة الوطنية، ويقع ذلك عن طريق إيهام المجتمع بأنّ هناك خطرًا خارجيًا يهدّدهم ومندسّين داخل الحكومة يعملون لصالح هذه الأطراف الخارجية، وبذلك فالدولة العميقة تستمد منطق وجودها من خلال بثّ البارانويا والإقناع بسياسة المؤامرات حتى بين أعضائها.
تسعى الدولة العميقة للترويج لكون هناك أعداء إقليميين أو عالميين أو عناصر أخرى سرّية في غاية من الخطورة تتآمر على الدولة ويخطّطون من أجل السيطرة عليها وعلى ثرواتها، ومن خلال ذلك تُشرعن خططها ومؤامراتها بتعلّة مناهضة أعداء الوطن الخارجيين ومسانديهم من الداخل أو بما يعتبرونهم خونة الدولة الوطنية وبيادق القوى الخارجية، ومن خلال هذه الأفكار المتمثّلة في منطق الوصاية وبارانويا الحصار تتفادى أي محاولات داخل الدولة في القضاء عليها أو محاسبتها على خططها التآمرية وجرائمها، فهي سرّية على مستوى تنظيمها وطرق عملها والعناصر التي تكوّنها وتقودها، لكنّ وجودها لا يُعتبر سرًّا، بل إنّها تظهر نتيجة الاعتقاد بأهمية دورها من الدولة والحكومة والمجتمع في حدّ ذاتهم، وقد ساهم ذلك في تمتّعها بسلطة استثنائية بعيدة عن خصائص السلطة القانونية، ففي بعض الأحيان تتنازل الدولة عن بعض الحاكمين خدمة لمصلحة الدولة العميقة.
وتلخيصًا لما ذُكر فإنّ منطق اشتغال الدولة العميقة هو خلق صراع وأعداء وهميين وجعل المجتمع والبنى الاجتماعية دائمًا في حالة خوف وارتياب وإحساس متواصل بوجود مؤامرات تُحاك ضدّ أمنهم وتهدّدهم، ممّا يخلق لديهم الحاجة إلى وجود قوّة موازية تعتمد على نفس آليات العدو من مؤامرات وجرائم واغتيالات تقضي على عدو الدولة الوطنية وتحقّق غايتهم في الشعور بالأمان، وهذه القوّة هي الدولة العميقة، فكلّما تعمّقت الفجوة بين الحكومة والشعب ازدادت شرعيتها وتمكّنت من تحقيق مصالحها مقابل مزيد “هشاشة الدولة الوطنية” والسير بخطى ثابتة نحو تفكّك بناها واحدة تلو الأخرى، فالدولة العميقة هي في حرب غير مباشرة مع “الدولة الشرعية”، حرب تتغذّى من ضغوط البنى التحتية الاجتماعية والفوضى وخوف الحكومات والإحساس بالحاجة إليها.
الزبونية
تشكّل الدولة العميقة سببًا ونتيجةً في نفس الوقت “للبارانويا”، ذلك لأنّها تروّج لها وتسلّط الأضواء عليها حتى تبيّن مقدار حاجة الدولة والمجتمع والحكومة إليها، إلاّ أنّ هذا العنصر لا يُعتبر كافيًا حتى يبني القوّة التي تبدو عليها الدولة العميقة، فمن المؤكّد أنّها بحاجة إلى بناء علاقات مع الدولة والمجتمع تستطيع من خلالها أن تحقّق أهدافها، فإذا ما افترضنا أنّها منعزلة عن بقيّة عناصر الدولة فذلك سيشكّل حتمًا عائقًا أمام مصالحها، خاصّة وأنّ الحكومة تسيطر على أغلب مؤسسات الدولة، لذلك هناك حاجة ملحّة لبناء علاقات زبونية يمكن أن نطلق عليها أيضًا بالنفعية (Pragmatique)، بحيث تكون هذه العلاقات مرتكزة أساسًا على المصالح المتبادل.
وذلك ما يبرّر العلاقات القائمة في عديد البلدان أحيانًا بين المافيا ومسؤولي الحكومة؛ ففي تركيا مثلًا، خلال فترة التسعينات، تمكّنت المافيا من التغوّل في المؤسّسات الأمنية والاستخباراتية، وقد وضعت تحت سيطرتها عددًا كبيرًا من القادة السياسيين والعسكريين الذين تآمرت معهم. حيث تستغلّ الحكومة التركية قدرة المافيا على ارتكاب الجرائم ومخالفة القانون لتحقيق مصالحها، في مقابل قيامها بحماية المافيا من التتبّع والمحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها. وهو ما يفسّر الاغتيالات والجرائم التي يظلّ مرتكبوها مجهولين لدى الرأي العام، بينما هي في الحقيقة جزء من قلب الدولة العميقة المتآمرة مع الدولة الوطنية والنخب السياسية.
وبذلك فنحن نتحدّث عن علاقات زبائنية داخل الدولة العميقة مقابل عمليات انتخابية أو كسب للدعم الشعبي في الدولة الوطنية. ومثلما تشهد الأخيرة صراعات بين السياسيين حول الهيمنة والسلطة، فإن عناصر الدولة العميقة تتصارع فيما بينها من أجل تحصيل أكبر قدر من الامتيازات في العلاقات الزبائنية التي يمكن أن تتّخذ أشكالًا بالغة التطوّر، من خلال بناء هذا النوع من العلاقات مع المنظمات الاقتصادية والسياسية العالمية، واستغلالها كوسيلة ضغط على الدولة الوطنية.
تأثير الدولة العميقة في المجتمعات – لماذا تعتمد الدولة العميقة على الأجهزة الأمنية؟
يجدر الإشارة إلى أنّ الدولة العميقة تزداد قوّة كلّما ازدادت “الدولة الوطنية” ضعفًا وهشاشة، سواء على مستوى مؤسساتها أو أجهزتها أو مختلف أنظمتها، حتى إنّها “تلعب” كثيرًا على العقل الجمعي والمخيال المجتمعي، من خلال القيم والمعتقدات والتمثّلات الذهنية والمنظومة الأخلاقية. لذلك تركّز أوّلًا على حاجات المجتمع ومواقفه، وتسعى إلى السيطرة على العنصر الأقوى في نظرها، والبعيد عن البارانويا التي تروّجها، لتوظّفه في خدمة مصالحها.
وتتغذّى الدولة العميقة على فكرة أنّ التغيّرات في الأنظمة السياسية تحصل في المجتمع عن طريق الصراعات أو الثورات والانتفاضات، وعادة ما يكون للقوات المسلحة، وفي مقدّمتها الجيوش والقوات شبه العسكرية، دور بارز في السلطة، أو هي التي تُطلق شرارة التغيير والانقلاب على الحكّام. لذلك كثيرًا ما تعوّل الدولة العميقة على القوات المسلحة والجيوش، وتعتمد عليها باعتبار أنّ الشعوب تعبّر عمومًا عن سخطها تجاه النخب السياسية لا تجاه القوات المسلحة، بل على العكس من ذلك، تُنظر إليها باعتبارها قوّة قاهرة على المهيمنين على السلطة والسياسيين، وليست هدفًا مباشرًا للثورات الشعبية. ومن هنا تستثمر الدولة العميقة في الجيوش.
والنقطة المهمّة في هذا السياق أنّ المنظومة العسكرية لا تُعدّ عنصرًا ثابتًا من عناصر الدولة العميقة، بل إنّ الأخيرة تسعى دائمًا إلى احتوائها والسيطرة عليها لتوظيفها في خططها، نظرًا لأهميتها ومكانتها الاجتماعية. ويمكن القول إنّها وسيلة للانقلاب وإعلان السيطرة، وليست عنصرًا يخدم مصالحها بإدراك كامل.
ماذا عن القول بانهيار الدولة العميقة؟ وهل يمكن أن تنجح الحرب ضدّها؟
قد يجمع العديد من المحلّلين السياسيين على أنّ خوض الحرب ضدّ الدولة العميقة لا يكتسي ذلك القدر من الصعوبة، بل إنّ كسب هذه الحرب قد يكون ممكنًا إذا توفّرت مجموعة من المتغيّرات المتعارضة مع العناصر الأساسية التي ترتكز عليها الدولة العميقة. وبالعودة إلى هذه العناصر، يمكن القول إنّ الأجهزة الأمنية، بما تتضمّنه من قوات مسلّحة ونُظم عسكرية رسمية وغير رسمية، تمثّل النواة الأساسية للدولة العميقة. ونظريًا، يمكن أن تتراجع الأخيرة بزوال عناصرها الأمنية أو باصطفافها في الجهة المقابلة، غير أنّ هذه المعادلة لا يمكن أن تتحقّق طالما استمرّت مغريات الدولة العميقة وتفوّقت على بقية الأطراف.
وقد أشرنا سابقًا إلى اعتماد الدولة العميقة على جملة من المبرّرات التي تسعى من خلالها إلى “تشرعن” وجودها داخل الدولة رغم انعدام شرعيتها، حيث تقنع الأفراد بضرورة الاعتماد عليها بعيدًا عن إكراهات الدولة وضغوطها البيروقراطية. وحينها يلجأ الأفراد إلى الطرق الملتوية التي تمثّل منطق اشتغال الدولة العميقة، بعدما غرست فيهم الشعور بانعدام الثقة تجاه الحكومات والمؤسّسات الرسمية للدولة الوطنية، وجعلتهم في حاجة دائمة إلى مخالفة القانون لتحقيق مصالح يرونها منافية لقواعد الدولة.
وينبغي القول في هذا الإطار إنّ اضمحلال الدولة العميقة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغياب منطق الوصاية، وزوال قناعة الأفراد بضرورة وجودها، وتخلّصهم من الأفكار القائلة بضرورة اللجوء إلى أساليبها، مقابل زيادة ثقتهم بالقانون والمنطق الذي تشتغل به الدولة الشرعية. غير أنّ ذلك ليس سهلًا على أرض الواقع، ولا يمكن منطقيًا الحديث عن دولة خالية تمامًا من أطراف تقدّم الولاء للدولة العميقة، ليس لشيء سوى سعيها الدائم لتحقيق مصالحها.
ويرتبط هذا الأمر بدرجة الثقافة السياسية والوعي الاجتماعي بالديمقراطية، إذ إنّ انعدامهما يغذّي استمرارية الدولة العميقة. فكلّما ارتفع الشعور بوجود تهديدات خارجية ومؤامرات سياسية، ازداد الخوف وتعزّز الإحساس بالحاجة إلى وجود الدولة العميقة، بينما يؤدّي شعور الشعوب بالأمان والاطمئنان إلى تقويض الشرعية التي قد تُمنح لها. كما تقنع الدولة العميقة الحكومات بوجود تهديدات تتربّص بها، ويقوم نجاحها أيضًا على ربط علاقات زبائنية مع أطراف داخل الدولة لقضاء مصالحها، مقابل استغلال بعض عناصر الدولة الوطنية لقدرتها على ارتكاب الجرائم والقيام بأعمال غير قانونية.
وبالتالي يمكن الاستنتاج أنّ الحرب على الدولة العميقة تكون عمليًا خاسرة، لأنّ العناصر التي تستمدّ منها وجودها وقوّتها موجودة، بدرجات متفاوتة، في كل دولة وطنية. أي إنّ وجود الدولة العميقة يُعدّ أمرًا شبه حتمي، مهما اختلفت درجة قوّتها، نظرًا لوجود ميكانيزمات سياسية لا يمكن الاستغناء عنها أو تسيير الدول بدونها. ولهذا نلاحظ أنّ معظم السياسيين لا يحاربون الدولة العميقة، أو على الأقل لا يعلنون صراحة الدخول في صراع معها، لأنّ مآل هذا الصراع لن يكون سوى الخسارة.


