أخبار العالمأمريكاأوروبابحوث ودراسات

عمر الناتو 75 سنة وهو عبئًا على السلام والأمن الدوليين

احتفلت دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” في شهر أبريل الماضي بمرور 75 عامًا على تأسيس الحلف في 4 أبريل 1949، ومع أن الهدف المعلن لهذا التحالف هو تعزيز الأمن الجماعي للدول الأعضاء من خلال تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف، فإن الناظر إلى عمق “الناتو” وجوهره يتأكد له أن هذا التحالف بات يعاني شيخوخة ممزوجة بكثير من الأمراض والخلافات، بعد أن تأكد لكثير من الشعوب أن حلف الناتو ظل يخدم- طوال أكثر من 7 عقود- مصالح وأهداف “دولة واحدة”، وهي الولايات المتحدة.

ليس هذا فقط، فحلف الناتو الذي بات يضم 32 دولة، منها 30 دولة أوروبية، بالإضافة إلى كل من كندا والولايات المتحدة، ينفق سنويًّا ما يزيد على 1.1 تريليون دولار على الشؤون الدفاعية، وكل هذا لم يحقق الأمن والسلام لأوروبا والعالم، بل يراه الكثيرون بمنزلة “أداة للصراع”، و”منصة لعدم الاستقرار”؛ لأن رغبة الحلف في ضم أوكرانيا وجورجيا كانت السبب في اندلاع الحرب الجورجية الروسية عام 2008، والحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، وأمسى الناتو عبئًا على السلام والأمن الدوليين، ليس فقط في أوربا والقطب الشمالي، بل من خلال الدور الجديد الذي يسعى إلى القيام به في شرق آسيا وجنوب شرقها.

 لكن أكثر ما يلفت النظر في حلف مضى على تأسيسه 75 عامًا أنه يعاني مشكلات داخلية عميقة دفعت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى وصف الناتو عام 2017  بأنه “عفى عليه الزمن”، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 15 ديسمبر 2019 بأنه  “مات إكلينيكيا”،…

 فكيف تشكل “أيديولوجية الناتو” التوسعية خطرًا على السلام والاستقرار العالمي؟

والى أي مدى تضرب الخلافات والتباينات الحلف رغم كل ما يقال عن تجديد شبابه بعد الحرب الروسية الأوكرانية؟

قام تأسيس حلف الناتو في مثل هذا الشهر قبل 75 عامًا على 3 مرتكزات رئيسة:

أولا: هي أن تكون روسيا خارج أوروبا،

ثانيا: وتظل الولايات المتحدة داخل القارة العجوز،

ثالثًا: أن تكون ألمانيا “تحت السيطرة”.

 في حين كان الهدف المعلن هو الوقوف أمام الاتحاد السوفيتي السابق، لذلك طرح الكثيرون بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 السؤال الكبير عن سبب استمرار حلف الناتو وتوسعه إذا كان حلف وارسو والاتحاد السوفيتي نفسه قد تفككا، ولم يعد لهما وجود، وادعت حينذاك الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، وبيل كلينتون، أن بقاء الناتو في صالح روسيا والأمن الأوروبي؛ لأن فكرة “ألمانيا المحايدة” أخطر بكثير من “ألمانيا في إطار الناتو”، وأنه من خلال الناتو يمكن احتواء والسيطرة على ألمانيا حتى لا يظهر “الرايخ الرابع” ويهدد أوروبا، وروسيا، والعالم من جديد.

 لكن بعد مرور أكثر من 3 عقود ونصف العقد على تفكك الاتحاد السوفيتي، يتأكد للجميع المقصد الحقيقي لتوظيف الولايات المتحدة لحلف الناتو، وتحويله إلى “أداة وظيفية” ضمن أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.

 ولهذا بدأ الحلف يزحف شرقا باتجاه الأراضي الروسية في 5 موجات متتالية لضم أعضاء جدد، بدأت بتوحيد ألمانيا 1990، فرغم تأكيد كل الوثائق أن الولايات المتحدة وعدت ميخائيل غورباتشوف- آخر زعيم سوفيتي- أن الناتو لن يتحرك شبرًا واحدًا تجاه الشرق بعد توحيد ألمانيا، فإن ما جرى منذ هذا الوعد قبل نحو 35 عامًا من ضم دول في وسط أوروبا وشرقها إلى حلف الناتو، ومنها دول كانت في السابق أعضاء في حلف وارسو، إنما يؤكد ما يقوله الرئيس الروسي فلاديمير بوتن دائما بأن الغرب خدع روسيا طويلا عندما ضم 3 دول سابقة في حلف وارسو إلى حلف الناتو عام 1999، وهي بولندا، والمجر، والتشيك، وفي أول وأكبر توسع للناتو في عهد الرئيس بوتين ضم الحلف الأطلسي 7 دول أوروبية عام 2004، وهي بلغاريا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وقبل مرور عامين، وفي عام 2009، ضم الناتو دولتين أوربيتين جديدتين، هما ألبانيا وكرواتيا، قبل أن يضم عام 2017 الجبل الأسود، وفي عام 2020 ضم مقدونيا الشمالية، ونتيجة لتسويق الخوف من روسيا بعد الحرب الروسية الأوكرانية ضغطت واشنطن لضم فنلندا والسويد بسرعة، وهو ما تحقق بضم فنلندا في أبريل الماضي، ومؤخرا لحقت السويد بالحلف هذا العام، في حين تنتظر 3 دول أخرى الدخول، وهي جورجيا، وأوكرانيا، والبوسنة والهرسك.

 ووفق المادة العاشرة من ميثاق الناتو، فإن العضوية مفتوحة لأي دولة تقبل بمعايير الناتو كما تدعي واشنطن.

من يتأمل السنوات الطويلة منذ تأسيس الناتو، سوف يكتشف أن الحلف كان وراء شيوع حالة من عدم الاستقرار في أوروبا والشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال، دعم الحلف ما سمى “بالثورات الملونة”، ومنها “الثورة الوردية” في جورجيا 2003، و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا 2005، وقبلها دعم المعارضة في التشيك، فيما أطلق عليه “ربيع براغ” 1968، كما قاد حلف الناتو العمليات العسكرية لتدمير دولة عربية بالكامل، وهي ليبيا، عندما تدخل عام 2011 وترك ليبيا للفوضى والتخريب منذ ذلك الوقت حتى اليوم.

رغم الزيادة الدائمة في عدد الدول التي تنضم إلى الناتو، الذي بدأ بـ12 دولة وقت التأسيس حتى صار 32 دولة بعد 75 عامًا، فإن الأوضاع الحقيقية للناتو لا تبتعد كثيرا عن وصف الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وهناك كثير من المشاهد داخل الناتو تؤكد ذلك، منها:

 فرغم التحاق اليونان وتركيا مبكرًا بحلف الناتو عام 1952، فإن الخلافات الجيوسياسية بين البلدين لا يمكن أن تندمل بشأن ترسيم الحدود البحرية، وجزر بحر إيجه، والتداخل في المياه الإقليمية لكل دولة، ووصل الأمر بتركيا أنها هددت اليونان أكثر من مرة بالاجتياح، كما تشكو اليونان دائما أن تركيا وراء موجات الهجرة غير الشرعية التي تطرق الحدود المشتركة بينهما، وتصاعد الصراع بين أثينا وأنقرة- على نحو خاص- على جزيرة قبرص، حيث ترفض تركيا سحب نحو 45 ألف جندي من شمال قبرص التي قُسمت منذ عام 1974 دون أي أفق سياسي لتوحيد الجزيرة في المديين القريب والمتوسط، وفي أكثر من مرة كانت تركيا واليونان قريبتين جدا من الانزلاق إلى صراع عسكري بسبب قبرص، رغم وجود قواعد عسكرية ضخمة للناتو، مثل قاعدة “إنجرليك التركية”، وقاعدة “خليج سودا اليونانية”، فضلًا عن الحديث التركي الدائم عن رغبة أنقرة في إلغاء “اتفاقية لوزان” لعام 1923 حتى تستطيع تركيا استرداد كثير من الجزر اليونانية في شرق المتوسط، وهي كلها قضايا قادرة على تفجير الناتو من الداخل.

 الحقيقة المؤكدة التي يدركها كل أعضاء الحلف أن الناتو جرى توظيفه خلال العقود الماضية لصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى وبريطانيا بعدها، ولم يثبت في يوم من الأيام أن الحلف ساعد على استقرار الأمن الجماعي الأوروبي مع الأطراف القريبة أو البعيدة، وخير شاهد على هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ومن منطلق مصالح خاصة وأنانية شديدة، ضغطا على أستراليا حتى تلغي اتفاقًا بنحو 50 مليار دولار لشراء الغواصات الفرنسية لصالح شراء غواصات بريطانية وأمريكية تعمل بالطاقة النووية، وهو ما فجر خلافات لم تنته تداعياتها حتى اليوم، ويدرك الفرنسيون أن حلف الناتو إحدى “الأدوات الأمريكية” للصراع مع روسيا، وليس من أجل  الأوروبيين، وهذا ليس جديدًا، فالمعروف أن فرنسا انسحبت من قيادة حلف الناتو منذ عام 1966 في عهد الرئيس شارل دي جول، وبدأت تعود تدريجيًا إلى الناتو بداية من عام 1995، لكن عودتها الرسمية لقيادة الحلف كانت في أبريل (نيسان) عام 2009 في عهد الرئيس نيكولاي ساركوزي، أي بعد نحو 43 عاما من الانسحاب، ورغم الدعم الفرنسي لأوكرانيا في الحرب الروسية الأوكرانية فإن الغالبية الفرنسية تشكو من دفع ثمن باهظ لهذه الحرب، وتطالب بحل دبلوماسي لهذه الحرب، وهو ما يتناقض مع الأهداف الأمريكية التي تعمل على إطالة زمن الحرب من خلال إرسال مزيد من المساعدات العسكرية.

لا يمكن وضع 32 دولة في حلف الناتو في خندق واحد، فعلى سبيل المثال، باتت دول وسط أوروبا وغربها، الأعضاء في الناتو، أقل حماسة للصدام مع روسيا مقارنة بما يسمى دول “الجناح الشرقي” للحلف، الذي يضم “مجموعة دول بودابيست التسع”، وهي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا والتشيك وسلوفاكيا والمجر وبولندا ورومانيا وبلغاريا.

 وتحليل الخطاب السياسي في مجموعة بودابيست يقول إنه يتماهى بالكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الدول الأخرى في الحلف ليس لديها المستوى نفسه من دعم الأهداف الأمريكية داخل الحلف، خاصة ما يتعلق بطريقة إنهاء الحرب مع روسيا، وحتى وقت قريب كانت كثير من الدول تعارض المطالب الأمريكية بوصول الإنفاق العسكري إلى 2 % من الناتج القومي، وبنهاية العام الجاري سوف تكون هناك 18 دولة فقط من إجمالي 32 دولة وصلت بالفعل إلى الإنفاق على الشؤون العسكرية بنسبة 2 % من ناتجها القومي، مع أن الاتفاق على هذا الأمر بدأ منذ نحو 10 سنوات في قمة حلف الناتو في ويلز عام 2014؛ لأن الأوروبيين يدركون أن غالبية هذه الأموال تذهب لشراء الأسلحة والذخيرة الأمريكية، ولهذا تقول دول وسط أوروبا وغربها إن شراء السلاح الأمريكي وإطالة الحرب مع روسيا هما السبب الرئيس للتضخم في أوروبا.

كان نسيان الماضي ووأده أحد الأسباب التي سوقتها الولايات المتحدة لتأسيس حلف الناتو قبل 75 عامًا، وأنها تريد أن ينصهر الأعضاء في بوتقة المصالح الواحدة، لكن هذا الأمر ثبت فشله يوما بعد يوم، وخير مثال على ذلك مطالبة بولندا بنحو 6 تريليونات دولار تعويضات عن الاحتلال الألماني لها في الحرب العالمية الثانية، وردت ألمانيا على هذا الطلب بأنها سوف تفتح ملف الأراضي الألمانية التي حصلت عليها بولندا، كما أن المجر تتحدث كثيرا عن أراضي المجريين التي مُنحت لأوكرانيا، وأن هذه القضية يجب أن تكون أولوية لحلفائها في حلف الأطلسي.

أكثر الشواهد التي تؤكد فشل الناتو في أداء مهمته هو البحث الدائم عن “مظلات أمنية جديدة” للأمن الجماعي الأوروبي. على سبيل المثال، يقترح الفرنسيون والألمان والإيطاليون وغيرهم من الشعوب الأوروبية تأسيس “جيش أوروبي موحد”، كما أن ألمانيا صاحبة فكرة تأسيس ما يسمى “درع السماء”، وهي مبادرة عليها خلاف مع فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، وتقوم على شراء منظومات دفاع جوي قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لتعمل وفق نسق دفاعي واحد عن الدول التي سوف تنضم إلى “درع السماء”، ورغم الأموال الطائلة التي يخصصها الأوروبيون لمشروعات حلف الناتو وتدريباته، ما زال الحلف بعيدا جدا عن تحقيق الشعور بالأمن للأوروبيين، وهو ما دفع وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر إلى القول إن روسيا ظلت طوال 4 قرون كاملة ضمن جوهر المعادلة الأمنية الأوروبية، وإن الأمن في أوروبا يحتاج إلى روسيا أكثر من أي وقت مضى، لكن البيت الأبيض وشركات السلاح الأمريكية لهما رأى آخر.

لم يسجل حلف الناتو نجاحًا واحدًا خلال مسيرته السبعينية، فالجميع شاهد الخروج المروع للقوات الأمريكية، وقبلها كل قوات الناتو، من أفغانستان بعد نحو 20 عامًا من الوجود هناك، وماذا كانت النتيجة؟ أفغانستان باتت أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل دخول الناتو، والسيناريو نفسه تكرر في العراق، فالاحتلال الأمريكي للعراق، ومعه كل دول الناتو، لم يقضِ على إرهاب داعش، كما أن كثيرًا من دول الناتو أقرت بفشلها في العراق، لكن فشل الناتو في ليبيا خير مثال على أن رؤية الحلف تقوم على الهدم والتخريب ونشر الفوضى، وليس البناء وتعزيز دور المؤسسات الوطنية، فبعد هدم الناتو مؤسسات الدولة الليبية لم يسمع أحد أن الحلف قدم رؤية لمساعدة الشعب الليبي في مرحلة ما بعد القصف والدمار الذي ألحقه الناتو بالبنية التحية، ومقدرات الشعب الليبي.

الواضح أن موجات توسع الناتو يمكن أن تزداد في السنوات المقبلة لتضم دولًا في البلقان، لكن السؤال الأهم سوف يظل قائمًا، وهو: هل حقق حلف الناتو الأمن والسلام والاستقرار في أي عملية أو دول دخلها؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق