أخبار العالمبحوث ودراسات

عرش الإمبريالية المتوحشة يسقط والعالم متعدد الأقطاب يتشكّل

العالم اليوم يشهد تحولا غير مسبوق وبسرعة كبيرة، نحو نظام عالمي جديد، بدأ يغير قواعد اللعبة الدولية ومنطقها والفاعلين بها، بعد أن شهد عقودا من نظام أحادى القطبية بذلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية جهودا لتظل منفردة ومهيمنة بكل وحشية، ولكي تكون القطب الأوحد في قيادة العالم وتترأس لطاولة العالم.

ولكن لم يعد للعالم الآن مكان لهذا النظام المتمركز حول الولايات المتحدة فقط، متجاهلة العالم ومن عليه بإتباعها سياسات تخدم مصالحها وأطماعها ووحشتها وخاصة سرقة مقدورات الشعوب التي تستضعفها، غير مبالية باحتياجات المجتمعات والدول واستقرارها وأمنها وسلامتها.

 وتبنت شعارها الأناني والإجرامي الهمجي، “أمريكا أولا” على حساب الأمم وتآكل الشعوب، وبذلت فى سبيل ذلك الغالى والنفيس لتخلق بؤرا ومناطق للصراعات والحروب والتدخل السافر فى شئون الدول لتصبح المهيمن الوحيد على هذا العالم وأخطر ورقة خلقتها هي “ورقة صناعة الإرهاب”.

 الأمر الذي ترتب عليه صحوة عالمية ووعي شعبي كبير خاصة للمجتمعات التي انتهكتها “المكينة الهمجية الاستعمارية الأمريكية” بلفظ الدول والشعوب لهذا النظام وتحديها لها.

 لتتجه الدول الآن نحو نظام عالمي جديد بتكتلاته وتحالفاته وفاعلين جدد، ليصبح الملاذ الآمن للدول والشعوب التي تغمرها اليوم موجة من الوعي والصحوة الكبيرة وكذلك موجة الاستقلال الكبير والحقيقي.

 وبناء عليه، يتناول هذا التحليل التشكيل العالمى الجديد وأسسه ومحدداته واتجاهاته والفاعلين الجدد فيه، والتغيرات التى تلوح فى الأفق.

بداية، لا بد من الإشارة إلى وضع أمريكا الحالي، فقد فقدت أمريكا صفة القطب الأوحد على جميع الأصعدة اقتصاديا وسياسيا بصورة غير مسبوقة، ولم تعد لها السلطة والنفوذ فب الشئون الخارجية كما عهدها بل لم يعد بمقدورها القيام بالحرب المباشرة، وأصبحت سياستها الخوض فى الحروب بالوكالة، وترك الدول تواجه مصيرا مجهولا، فهي تخرب وتحطم وبعدها تهرب فهي تدخل على الدول من أجل الدمار وليس البناء.

والنموذج الأمثل والواضح اليوم هو خروجها المخزي من أفغانستان بعد عشرين عاما من الدمار الشامل للدولة؛ حيث لم تفعل شيئا لها ولشعبها بل تركتها تواجه مصيرا مجهولا، يتابعه العالم بكل أسى من دمار وعنف وإرهاب، ومن قبل كان العراق ونشاهدها اليوم تخرج كذلك من العراق بفضائح كبيرة خاصة سرقاتها الموصوفة لنفط العراق وذهب ومقدرات الدولة العراقية.

 والمؤسف بعد كل هذا، تعيش أمريكا على أمجاد الانتصار فى الحرب العالمية وقوتها العسكرية، وكأن العالم من حولها لم يتغير وعلى رأسه الصين التي تغلغلت في كل دول العالم اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بل عسكريا وتكنولوجيا، خاصة في إفريقيا، وطريق الحزام خير دليل.

 فالعملاق الصيني قد دخل وبكل قوة الى الداخل الأمريكي نفسه مستحوذا على السوق الأمريكية، ولكن بكل غرورها تحاول أمريكا إنكارها، أنّ الصين أصبحت اليوم في عقر دارها وتطاردها في الداخل الأمريكي بمنطادات للتجسس على مسمع العالم ومرآه، وكل ما تفعله أمريكا هو محاربتها من خلال جزيرة تايوان الانفصالية بمنهجها المعتاد الكلاسيكي خلق بؤر التوتر ودعم الانفصاليين، الذي عفا عليه الزمن، ومحاصرتها اقتصاديا عن طريق العقوبات، ومحاصرة حلفها الاستراتيجي المستقبلي مع روسيا والهند، وتجمع بيركس وآسيان خير شاهد بمولد أحلاف إستراتيجية جديدة، فهذه التجمعات والتكتلات تدرك أمريكا جيدا أنها ستعمل على إزاحة عرشها وسحب البساط من تحت أقدامها سريعا بنظام عالمي جديد قادم من آسيا وفعلا قد تشكّل وبدأ العرش يسقط تدريجيا ولكن بسرعة كبيرة ولهذا نرى الولايات المتحدة تتخبط “كالثور الهائج”.

– الاندماجات التي تشكلت بالقوة الصلبة (الحروب والسلاح، وسطوة الدول الكبرى على الصغرى، والتوسع الجغرافي بالحروب، والعقوبات الاقتصادية ) لم تعد لها مكان بعد أن لفظها العالم.

– تنامي الدور الشعبي، وأصبح للشعوب الوعي والتطلع للأفضل، والصوت الرافض للاستعمار والهيمنة أعطى زخما عالميا جديدا لا يقبل أن تتسلط عليه دول وتستعمره وتجحف حقه.

– التطلع إلى حقوق الإنسان والعدالة وحياة أفضل بشكل فعلي وليست وهما أمريكي وشعارات للإستغلال والتدخل في الشؤون الداخلية للدول المستضعفة.

– عدم قبول المجتمعات باتحادات تفرض عليها لم تحقق آمالها وتطلعاتها منذ سنوات بل وساهمت في نهب مقدراتهم وأموالهم.

– عالم يتطلع إلى الاندماج الطوعي والاختياري بين كيانات وتحالفات في نظام عالمي جديد وليس اندماجا قسريا.

– عالم يتطلع إلى استغلال ثرواته الطبيعية الطامع فيها الغرب وهذا ما بدأت فعلا به الشعوب الإفريقية في صحوة كبيرة ووعي تام.

– عالم يتطلع إلى نظام عالمي جديد يتغلب فيه على الهيمنة الاقتصادية وعملة القطب الواحد (الدولار).

– عالم جديد يطالب بإعادة النظر في الشئون الداخلية للدول وأوضاعها السيئة كما الشئون الخارجية.

بدأ التشكيل الجديد لهذا العالم الآن من خلال عدة مؤشرات:

 وهو المشهد الحالي من صعود دول على المسرح العالمي، وعلى رأسها روسيا والصين فى خضم التطورات العالمية الجديدة (الحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات المالية العالمية، أزمة الشرق الأوسط وسقوط كلب الحراسة الأمريكي الكيان الصهيوني، والتغير الجيوسياسي على الصعيدين الإقليمي والعالمي، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، والحصار الأمريكي للصين بعد تفوقها عالميا، وتراجع الدور الأمريكي، ولفظ القارة الإفريقية لاستعمار الغرب وطرد فرنسا من كل دول الساحل والصحراء الإفريقة، والحروب والصراعات فى القارة السمراء، والإرهاب، والهجرة، والتغير المناخى، والصراع الروسى الغربى).

في مقابل تراجع دول وقوى غربية وهو ما يشير إلى قدوم نظام عالمي جديد لا محال، فهذه التطورات هي دلالات على البدء الفعلي فى تشكيل النظام العالمي الجديد، وإن النظام الحالي الذي تعمل عليه واشنطن وتحارب من أجل بقائه واستمراره لم يعد قائما من الأساس، فالخريطة السياسية للعالم شهدت تغيرا بظهور دول جديدة لم تكن قائمة، واختفاء دول كانت قائمة، وتغيير مراكز النفوذ والقوى العالمية، ومستقبل ينذر بنهاية نظام عالمي بقواه العالمية الجديدة التي نؤمن بالعدالة والأخلاق الإنسانية والشراكات الدولية والشرعية الدولية الحقيقية وليست شعارات، وشروق نظام جديد بقوى جديدة، الأمر الذي ترتب عليه تغيير في العلاقات الدولية.

 تغيير ديناميكية الجغرافيا السياسية “الجيوبولتيك” القائمة على  الموارد البشرية والطبيعية للدول وما ينتج عنه من توسع جغرافي على حساب الدول والأوطان إلى الاتجاه نحو التقارب في العلاقات السياسية والاقتصادية وفق مصالح الدول.

ومن ثم، تتجه علاقات الدول فيما بينها نحو التطور الاقتصادي وقوة الدول ونفوذها وما تمثله من دور مؤثر فى المنطقة وتوسعها سياسيا، وخير دليل على ذلك التطبيع غير المعهود الذي تشهده المنطقة بين القوى الإقليمية الرئيسية وهو ما يتجاوز الأطر التقليدية، وقيام الصين بدور الوساطة فى منطقة الشرق الأوسط، فالجيوبوليتك بمفهومها لم تعد مقبولة الآن؛ حيث إنها قائمة على توسع  الدول لحدودها حتى ولو على حساب دول الجوار، وهو ما تنتج عنه الحروب والخسائر الاقتصادية بل انهيار للدول.

 وفق المشهد الدولي الحالي من صعود تحالفات وتكتلات وتجمعات لدول بعينها تحدد ملامح النظام العالمي الجديد في مقابل تراجع التحالفات الحالية مثل حلف الناتو الذي اختزل دوره في الصدام المباشر والحروب، والأمم المتحدة التي اختزلت دورها في القلق والشجب والإدانة فقط، ولم نسمع عن دور لها على أرض الواقع فى الحروب والصراعات والانهيار الاقتصادي وخاصة في ما يفعله كيان الاحتلال الصهيوني في غزة والإبادة الجماعية والأمم المتحدة عاجزة تماما عن إيقاف هذا الكيان الصهيوني الإرهابي.

نظام اقتصادي جديد تجاوز العملة الواحدة (الدولار) والاتجاه للعملات المحلية وسلة عملات جديدة.

– صعود القوى الدولية الجديدة، وتعظيم قدرتها على استخدام سياسة الوفاق وتبنيها مبادئ نظرية “الرابح_رابح”، وعدم التدخل فى سياسات الدول الداخلية، والاستفادة من  أخطاء القطب الواحد، والعمل على تفاديها حتى لا تكون عائقا فى  النظام العالمي الجديد.

– قيام القوى الصاعدة بدرء سياسة الانفراد فى النظام العالمي الجديد والتكاتف والعمل معا هو سمة الفاعلين الجدد لإرساء نظام التعددية القطبية وهو ما يظهر جليا بالتعاون بين روسيا، والصين، والبرازيل، والهند.

– تعمل التعددية القطبية الجديدة على التغيير الجذري للنظام الدولي الحالي الذي أسس عقب الحرب العالمية الثانية وهو ما تم فعليا وظهر جليا بالتجمعات والتحالفات ومخرجات مؤتمراتها.

– تعددية قطبية تعمل الآن فى الواقع الملموس على نظام اقتصادي جديد قائم على الاندماج بين الدول المتقدمة والنامية الذي من شأنه تضييق الفجوة الاقتصادية وهو نظام غير معهود بين الدول المتقدمة والنامية وهو ما زرعه القطب الأوحد بقيادته، الأمر الذي خلق دولا تهيمن وتستغل ثروات الدول النامية.

– حرص التعددية القطبية على تبنى سياسة الوفاق والتعاون لنهضة الدول ما نتج عنه نظام عالمي أكثر عدالة، الأمر الذي يترتب عليه نهوض الدول النامية.

– تعددية قطبية تعمل على كشف حقيقة الإرهاب ومكافحة الإرهاب فى النظام الدولي الجديد وليس على زرعه الذي هو سياسة القطب الواحد ونهجه لتفتيت الدول والشعوب.

– تشكيل السياسية الخارجية الجديدة وفق التغيرات الجيوسياسية والاتجاه نحو الدول المؤثرة وذات الثقل.

– تغيير الفواعل، فبعد أن كانت أمريكا فقط أصبح الغرب الجماعي أمريكا والدول الأوروبية (نشهد ذلك الآن فى الحرب الروسية الأوكرانية، وتأييد الدول الأوروبية لأمريكا) جاءت الفواعل الآسيوية روسيا والصين والهند واتجاهها نحو الشرق والغرب.

لن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي تجاه تشكيل النظام العالمي الجديد ومولد أقطاب متعددة بتكتلاتها ما يجعلها تتصرف كأنها في وضع الموت التدريجي تنافس وتصارع لتبقى وجودها، وتتمثل خططها في الآتي:

– مهاجمة التجمعات والتكتلات الوليدة والناشئة من جهة، والاتجاه إلى تحالفات هي القائد لها للحفاظ على نظامها الحالي كقطب أوحد من جهة أخرى.

– تبنى أمريكا سياسة الحرب الباردة الجديدة مع الدول الصاعدة حتى لا تصبح قوى اقتصادية وتكنولوجية.

– تعمل أمريكا على درء النفوذ الآسيوي في القارة الإفريقية، خاصة فى دول شمال وغرب إفريقيا ما جعلها تتحالف مع جميع الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا.

– تأجيج انقلابات الشعوب على أنظمتها الوطنية، خاصة على الجيوش الوطنية، والحال فى السودان خير دليل وتخطط كذلك لدول بعينها في إفريقيا وخاصة وهي تروّج اليوم مع فرنسا إلى تواجد فاغنر في الجنوب التونسي وطائرات عسكرية روسية في مدينة من الجنوب التونسي.

– جر الصين وروسيا لاستنزافهما عسكريا (إمداد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة والذخائر العنقودية التي تأخذ معها الأخضر واليابس- تايوان والصين).

– إلقاء التهم على الصين من جراء وباء كورونا، والتسبب في أزمات مالية عالمية غير مسبوقة دفع فاتورتها العالم أجمع.

– حروب الطاقة والغذاء وهى حروب جديدة على العالم بأكمله نشهدها الآن.

– قيام الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مع أمريكا ببذل الجهد حتى لا يختل النظام العالمي لمصلحة الدول الصاعدة.

– نقل مناطق الإرهاب إلى آسيا بخروجها المتعجل من أفغانستان لصرف نظر الدول الآسيوية عن طموحها في التنمية والإستقلال.

– نظام اقتصادي يسمح بتدخل الدولة لضبط الإيقاع مثل الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل (مجموعة بيركس) يخدم مصالح الشعوب والدول جميعا.

– نظم سياسية تتبناها الاتحادات الجديدة لضبط التوازنات وإدارة الخلافات، ووضع ميثاق عالمي جديد ما يؤسس لسياسة خارجية وعلاقات دولية جديدة مبنية على الاحترام والعدالة.

– نظام اجتماعي لمواجهة المخاطر المشتركة التي تهدد الشعوب وسلامتها، والعبث بالأوطان ومقدراتها، والارتقاء بالشعوب وإشباع الاحتياجات.

– نظام ثقافي جديد وهو ما نشاهده من الصين وروسيا وتغلغلهما ثقافيا في كل دول العالم.

– نظام قانوني يحترم الاتفاقات والمواثيق والقوانين بين الدول.

– نظام يعمل على التوازنات بين القوى المتعددة من تكتلات ومراكز قوى.

يتبقى خروج النظام العالمي الجديد للنور بأقطابه المتعددة وتحالفاته الجديدة رهن التكاتف الفعلي لإنهاء الصراعات والنزاعات على مستوى العالم بأكمله، فإن لم يكن هناك التحرك الجاد والفعلي (وهو ما بدأ بالفعل) لدرء الحروب والنزاعات التي يشهدها العالم الآن، وخاصة وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم يبقى لها إلاّ إشعال الأزمات والحروب وخلق بؤر توتر في كل مكان في العالم وهي تتجه الى تكتيك الاستنزاف ولكن الإشكالية التي تدركها أمريكا اليوم أنه ربّما تنجح في التكتيك ولكنها ستخسر استراتجيا ولهذا هي تتخبط وتجدها تندفع وتنسحب بين الموقف والقرار.

 يتبقى السؤال: هل تستعين أمريكا بحلفاء جدد لإبقائها قطبا واحدا؟ وهل تعمل أمريكا جاهدة لإبقاء النظام الدولي كما هو عليه؟

أو تسير بالتوازي مع القوى الصاعدة مع أن المؤشرات الحالية لا تدلّ على ذلك؟

 أم تعمل جاهدة في حال تغير النظام الدولي الحالي لكي تكون فاعلا ولاعبا مع الفاعلين واللاعبين الجدد على المسرح العالمي حتى تكون حاضرة فى إعادة توزيع مراكز القوى العالمية الجديدة؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق