روما تدشن خطة “ماتي” في أفريقيا من بوابة الجزائر… “مشروع الروابي الخضراء”
قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 12-07-2024
وسط طوفان الأحداث الكبرى التي تهز العالم، مر خبر التوقيع على اتفاق إطار بين الجزائر وإيطاليا في مجال التعاون الزراعي، بشكل عادي، على الرغم من أنه يعدّ إنجازاً لافتاً، بالمعايير الاقتصادية التقليدية، في مسار الشراكة المنبعثة بين البلدين، منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم، وتغيير قواعد التعامل والعمل مع دول جنوب المتوسط.
لكن الأهم في هذه الخطوة، هو تأكيد الجزائر أن مشروع الروابي الخضراء مع الشركاء الإيطاليين، في الصحراء الجزائرية الممتدة، خطوة حاسمة لتحقيق الأمن الغذائي والاستقلال الاقتصادي للجزائر.
بين الجزائر وروما.. تاريخ ووفاء ومصالح كبرى
نهاية يناير الماضي، وعندما كانت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، تخاطب نحو عشرين زعيما أفريقياً حضروا قمة إيطاليا أفريقيا، كانت جانب من التعليقات في الصحف الغربية، تتحدث عن طموح التيار اليميني الشعبوي في إيطاليا، في إعادة بعث أطماعها الاستعمارية المفترسة في القارة الأفريقية، عبر مشروع “ماتي أفريقيا “، خاصة أن زعيمة إيطاليا الجديدة وصلت إلى سدة الحكم ممتطية جواد محاربة الهجرة، خاصة تلك القادمة من دول الجنوب.
رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد، ذهب أبعد من ذلك، ومباشرة بعد انتهاء القمة، خرج إلى الصحافيين قائلاً إنّ الدول الأفريقية كانت تتمنى أن تجري مناقشتها في هذه الخطة وتفاصيلها، قبل الإعلان عن الشروع في تنفيذها، وأضاف: “نحن في حاجة إلى نقلة نوعية ونموذج جديد للشراكة… أفريقيا لا تريد أن تمد يدها، نحن لسنا متسولين”.
في الإطار العام، تتبنى الجزائر، وتدافع عن نظرة ترى أن القارة الأفريقية تعرضت إلى ظلم تاريخي كبير من القوى الاستعمارية الغربية، وأن جانباً هاماً من مفاعيل هذا الظلم، لازالت تأثيراته ملموسة، وأحيانا بشكل فج ومؤلم في عدة مناحي سياسية واجتماعية واقتصادية في الجسد الأفريقي المنهمك، لكن هذه النظرة، يجب ألاّ تمنعنا، بل يجب أن تدفعنا، إلى تطوير مقاربة سياسية وجيوسياسية أفريقية جديدة براغماتية، تقوم على توحيد الصف الأفريقي، والتعامل مع الأطراف الخارجية بكل ندية وعلى قاعدة “رابح – رابح “.
مع الوضع في الاعتبار أن الديناميات الاقتصادية التي تبنى بين الدول، يمكنها الاستثمار في إرث التاريخ والثقافة لإعطاء بعد أعمق وأقوى لهذه العلاقات.
وضمن هذه الرؤية يمكن أن نفهم كيف نجحت الجزائر وروما، على الرغم من التباين الواضح في البنية الصلبة للمشروع السياسي لكل بلد، من تطوير علاقة سياسية واقتصادية، استفادت من زخم محطات تاريخية ملهمة بين البلدين، لتؤسس لشراكة قوية بين البلدين، بدأت ثمارها الأولى تظهر في الميدان، وفي عدة قطاعات، وعلى رأسها قطاعي الطاقة والفلاحة.
مشروع الروابي الخضراء.. أكبر من مجرد حلم
لم يكن يوم السادس يوليو الجاري، مجرد يوم عادي للإعلان عن البدء في تنفيذ مشروع اقتصادي كبير في الصحراء الجزائرية مع الشركاء الإيطاليين، في تفاصيله المباشرة هو كذلك، وهو بهذا المعنى مجرد اتفاق شراكة بين الجزائر وشريك أجنبي، على غرار مئات المئات المشاريع التي أُعلن منذ بداية السنة الجارية، لكن التوقيت والشكل الذي تم به الإعلان عن مشروع زراعة 36 ألف هكتار من الأراضي في الصحراء الجزائرية من تنفيذ شركة إيطالية، في أيام احتفال الجزائر بذكرى عيد الاستقلال، وبحضور سياسي ودبلوماسي لافت، فإن ذلك يصدر أكثر من رسالة ولأكثر من طرف.
أولاً: للمهتمين بالاستثمار في القطاع الفلاحي في الجزائر، وبحسب ما صرح به وزير الفلاحة الجزائري يوسف شرفة، فإنّ المشروع المدمج يتعلق بإنتاج الحبوب والبقوليات على مساحة تقدر بـ36 ألف هكتار بولاية تيميمون، بقيمة إجمالية تقدر بـ420 مليون يورو، مشيراً إلى أنه يندرج ضمن المخطط الوطني الخاص بتطوير الشعب الاستراتيجية الذي يشمل الحبوب والبقوليات والنباتات السكرية والزيتية والبذور وكذا الحليب.
وبالتالي، ومن الناحية الاستثمارية، تكون السلطات الجزائرية، قد دشنت واحد من أكبر الاستثمارات في المجال الفلاحي في منطقة الصحراء، بعد أشهر قليلة من إعلانها عن مشروع كبير لتربية الأبقار وإنتاج الحليب المجفف، على مساحة تتجاوز 100 ألف هكتار ستشرع في تجسيده شركة ” بلدنا” القطرية في محافظة أدرار برقم أعمال 3.5 مليار دولار.
هذه المشاريع الكبرى، والمنجزة من شركات كبرى لها حضور كبير في السوق العالمية، يضع الصحراء الجزائرية، كواحدة من أهم المناطق الجاذبة للاستثمار في العالم، وذلك للأسباب التالية:
1 ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية الشاسعة والخصبة والتي أثبتت التجارب في مناطق وادي سوف وتيممون أن الصحراء هي مستقبل الزراعة في الجزائر.
2 توفر المياه الجوفية وبكميات كبيرة جداً، إذ تُصنف منطقة الواحات والصحراء في الجزائر أنها من أكبر خزانات المياه الجوفية في العالم .
3 توفر الطاقة، وبأشكالها كافة، وبتكلفة منخفضة جداً مقارنةً بالأسعار في السوق الدولية.
4 تطوير المنظومة التشريعية للاستثمار في الجزائر، ومنح المستثمرين، خاصة في القطاع الفلاحي تسهيلات، وامتيازات جبائية هامة.
5 وجود إرادة سياسية ومن أعلى هرم السلطة في الجزائر للنهوض بالفلاحة الصحراوية.
6 توفر الجزائر على بيئة مستقرة سياسياً وأمنياً وبشكل كبير جداً.
ثانياً: لشركاء الجزائر والمهتمين بالسوق الجزائرية، لجهة وضع مشروع الشراكة مع إيطاليا لزراعة القمح والبقوليات، وإنشاء مصانع للعجائن، في سياق خطة كبيرة وطموحة لتحقيق الجزائر الاستقلال الغذائي وبشكل كامل، خاصة في مجال الحبوب في آجل أقصاه سنة 2027، مع العلم أن السلطات الجزائرية، كانت قد كشفت أنه وبفضل توسع زراعة الحبوب في الصحراء الجزائرية، فإن الجزائر وصلت إلى إنتاج نحو 80% من احتياجاتها من القمح.
وبالتالي الجزائر تعلن عن نفسها، كدولة تطمح أن يكون لها في المستقبل القريب حصة من سوق الحبوب، باعتبارها بلد مصدر، وليس مستورد، وستكون السوق الأفريقية على رأس أولوياتها.
ثالثاً: للدول الأفريقية الشقيقة والصديقة، أن الجزائر بإمكانها أن تكون جسراً بين الدول الكبرى والسوق الأفريقية ضمن قواعد الاحترام المتبادل والندية.
وضمن هذا السياق، يمكن أن نفهم تصريحات وزير الزراعة الإيطالي فرانشيسكو لولوبريجيدا، عندما اعتبر أن هذا المشروع هو أول نتيجة ملموسة في قطاع الصناعات الزراعية الذي يهدف إلى الإنتاج من خلال مشروع يضع الراية الجزائرية، جنباً إلى جنب مع العلم الإيطالي.
واعتبر الوزير الإيطالي أن أفريقيا وأوروبا الجزائر وإيطاليا ركيزتان أساسيتان في مواجهة تحدي تطوير الأمن الغذائي الذي ينظر إلى المشاكل الكبرى ويعالجها ويحلها بمنطق الالتزام المشترك.
وقال في هذا الصدد: “قبل أنريكو ماتي، كانت شعوب أوروبا تنظر إلى أفريقيا بمنطق افتراسي، ونحن لا ننوي أن يعاد تكرار ذلك، ولكننا نعتقد من جهة أخرى أنه لا ينبغي التعامل مع أفريقيا بنظرة خيرية ترضي ضمائر قلة من سكان البلدان التي تعدّ أكثر تقدماً”.