“روسيا–الصين 2025: اتفاقيات استراتيجية لإعادة رسم خريطة القوة العالمية

قسم الاخبار الدولية 07-09-2025
شهدت العلاقات الروسية–الصينية خلال العقدين الأخيرين تطورًا ملحوظًا جعلها من أبرز التحالفات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، حيث تجاوزت هذه العلاقة الطابع التجاري البسيط لتتحول إلى شراكة استراتيجية شاملة ذات أبعاد طاقوية، تكنولوجية، عسكرية، وتعليمية.
وقد مثّل التوقيع على اتفاقية “قوة سيبيريا-2” في الثاني من سبتمبر 2025 خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين ولقائه نظيره الصيني شي جينبينغ لحظة مفصلية في مسار هذه الشراكة، إذ تم الاتفاق على بناء خط أنابيب غاز عملاق يمتد من حقول يامال في سيبيريا مرورًا بالأراضي المنغولية وصولًا إلى الصين بطاقة سنوية تصل إلى خمسين مليار متر مكعب ولمدة ثلاثين عامًا، وهو مشروع تقدر استثماراته بأكثر من خمسة وخمسين مليار دولار. وتكمن أهمية الاتفاقية في كونها ليست مجرد صفقة اقتصادية بل خطوة استراتيجية من شأنها أن تعيد تشكيل خريطة الطاقة العالمية وتؤثر بعمق على سوق الغاز الطبيعي المسال.
فقد أكد الرئيس بوتين خلال مراسم التوقيع أن تسعير الغاز سيتم “وفق مبادئ السوق”، وبدات الصيغة السوقية التي اعتمدتها روسيا مع أوروبا، في إشارة إلى رغبة موسكو في طمأنة بكين بأن الشراكة قائمة على أسس متوازنة. لكن هذا الإعلان لم يخفِ حقيقة أن المفاوضات حول المشروع استغرقت سنوات طويلة منذ 2018، حيث طالبت روسيا بتعويض خسائرها الناتجة عن فقدان أكثر من سبعين بالمئة من صادراتها إلى أوروبا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، بينما ضغطت الصين للحصول على أسعار تفضيلية معتبرة.
وقد نشر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في الثالث من سبتمبر 2025 تغريدة قال فيها: “مشروع قوة سيبيريا-2 ليس مجرد خط أنابيب، إنه جسر استراتيجي بين روسيا والصين، ورمز لولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب”، وهي تغريدة تكشف البعد الرمزي والجيوسياسي للمشروع.
ولم يكن هذا المشروع معزولًا عن بقية الخطوط، إذ سبق لروسيا أن دشنت خط “قوة سيبيريا-1” في ديسمبر 2019 بطاقة بلغت ثمانية وثلاثين مليار متر مكعب سنويًا، تم الاتفاق على رفعها إلى أربعة وأربعين مليار متر مكعب بحلول 2026، فضلًا عن مشروع “سخالين” الذي سيزوّد الصين بنحو اثني عشر مليار متر مكعب إضافية سنويًا.
هذه الأرقام تعكس حجم الرهان الطاقوي الذي يربط موسكو وبكين، حيث يُتوقع أن يرتفع الطلب الصيني على الغاز بنسبة خمسة وثلاثين بالمئة بحلول 2030، وهو ما يجعل من روسيا المزود الرئيسي لهذا الاحتياج الحيوي. وفي السياق نفسه، أعلن بوتين خلال زيارته أن بلاده ستعمل على تحديث شبكة السكك الحديدية في شرق روسيا لدعم مشاريع الطاقة وتعزيز قدرة البلاد على نقل الموارد إلى الأسواق الآسيوية.
لكن زيارة بوتين إلى بكين لم تقتصر على اتفاقية الغاز، إذ أفضت إلى توقيع أكثر من اثنتين وعشرين اتفاقية تعاون شملت مجالات متعددة.
ففي الفضاء، جرى تثبيت التعاون حول مشروع “المحطة العلمية القمرية الدولية” الذي تم التصديق عليه منذ 2024 بمشاركة الصين وروسيا والإمارات وباكستان، وهو مشروع يحمل رمزية كبيرة في سباق القوى العظمى نحو الفضاء ويعكس طموح الطرفين في تقويض الريادة الغربية في هذا المجال.
أما في مجال التكنولوجيا، فقد أُعلن عن اتفاقية ابتكار بين “سبيربنك” الروسية وجامعة تسينغهوا الصينية لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة، كما خُطط لإنجاز نحو تسعين مشروعًا صناعيًا وتجاريًا بقيمة تصل إلى مئتي مليار دولار تغطي قطاعات التصنيع والنقل والزراعة واستخراج الموارد.
وفي المجال الزراعي، تم توقيع اتفاقية تعاون تمتد من 2025 إلى 2030 تهدف إلى رفع قيمة التبادل الزراعي من عشرة مليارات دولار إلى خمسة وعشرين مليارًا بحلول نهاية العقد، مع تحسين آليات التفتيش والحجر الصحي.
أما في مجال الصحة، فقد نصّت مذكرة تفاهم على تطوير مشترك للقاحات والأدوية ومشاريع للرعاية الطبية وتبادل الخبرات.
كما شملت التفاهمات مجال التعليم والثقافة، حيث أُعلن عن برامج لتبادل أكثر من خمسة آلاف طالب وباحث سنويًا، إضافة إلى إنشاء مدارس وجامعات مشتركة وتوسيع التعاون الإعلامي لمواجهة الروايات الغربية المهيمنة.
لقد وصف الرئيس شي جينبينغ هذه الاتفاقيات في مؤتمره الصحفي المشترك مع بوتين بأنها “شهادة على صداقة الشعوب، ورمز للتعاون الاستراتيجي الذي يتجاوز الاقتصاد إلى بناء مستقبل عالمي أكثر توازنًا وعدالة”، وهو تصريح يختصر الرؤية الصينية لشراكتها مع موسكو. ويذهب المحللون إلى أن هذا التحالف يعكس بوضوح مفاهيم الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية، إذ يُفهم…