درس أخلاقي من المحنة… لا أحد يتعاطف مع ضعفاء يحلمون بالفتوحات
إعداد: سعد القرش/ لبنان
ستنتهي محنة غزة 2023، وتضاف إلى سجل دام، نتذكره في وقت لاحق، في زمن أفضل، كما نتذكر محناً أشدّ ترويعاً. تدمير هولاكو لبغداد، ومجازر سليم العثماني في مصر، وجرائم الفرنسيين في الجزائر. وللمحنة عبر ودروس، أولها أهمية العقيدة في الرهان على النصر. تثير دهشة المراقب البعيد رؤية شعب متمسك بأرضه، بعد مئة سنة من التنكيل والطعن والخيانات. لا يهرب، ولا يعلق آمالاً على غيره. والعدو يبدأ هجرة عكسية، وقد تأكد له خطأ الاختيار، وأنه يواجه صاحب عقيدة لا يتنازل عن حقه في الحياة والكرامة. ومن الدروس المهمة أيضاً أن الوحشية الصهيونية لا تُعدي. شهدت أسيرات إسرائيليات وأمريكيات بحسن معاملة المقاومة.
في الفيلم الفلسطيني “سجل اختفاء” مشهد يبدو عابراً، لكنه مهين، والمخرج إيليا سليمان يجيد تسديد لكمات ذكية: “أتكيّف عندما أوجعهم”. ذكر أن شخص مهمّاً، من مسؤولي دعم الأفلام في إسرائيل، كره الفيلم بشدة، وقال له: “لو صوّرت جندياً إسرائيلياً يضرب طفلاً فلسطينياً ويفجر له مخه، كنت قلت لك برافو. لكن أن تصور الشرطة تهرع بسرعة، لينزل الجنود ويتبولون على الحائط، هذه إهانة حقيقية، نحن بالنسبة لك كارتون، أنت لا ترانا موجودين من الأساس”.
إسرائيل، كفكرة، غير أخلاقية. بندقية للإيجار. ذراع بعيدة ينفذ بها الرجل الأبيض مهام قذرة، لا يريد أن يتدنى ويلوث بها يديه؛ فيتهم بأنه غير أخلاقي، غير متحضر.
تثير دهشة المراقب البعيد رؤية شعب متمسك بأرضه، بعد مئة سنة من التنكيل والطعن والخيانات. لا يهرب، ولا يعلق آمالاً على غيره. والعدو يبدأ هجرة عكسية، وقد تأكد له خطأ الاختيار، وأنه يواجه صاحب عقيدة لا يتنازل عن حقه في الحياة والكرامة
النجاح في الاحتفاظ بالآدمية، في الحروب والمحن الكبرى، اختبار اجتازه الفلسطينيون بامتياز. رأى العالم صوراً ومشاهد تمثل سقوطاً أخلاقياً للعدو، سلوكاً غير آدمي، ولا حتى حيواني، في قنص الأطفال، وحرق أشجار الزيتون، والتمثيل بجثث الشهداء بغرز عصيّ في المؤخرات والعيون، والتبول على الجثث. هؤلاء الوحوش تزعجهم شهادات الأسيرات عن رعاية المقاومة لهن. في مؤتمر صحفي أدهش العدو، قالت الأسيرة الإسرائيلية ليفشيتز: “عاملونا بودّ، ووفروا لنا كل ما نحتاج إليه”. صحافة العدو انتقدت الأسيرة، واعتبرت شهادتها تدميراً للرواية الإسرائيلية. وقال مراسل الكنيست: “كان ينبغي تسجيل المقابلة وحذف أجزاء منها قبل بثها… في الحرب ممنوع إذاعة رسائل لم يحلم العدو بنشرها للعالم”.
كلام الأسيرة أغضب الحكومة؛ فقالت إن التصريحات “مفاجأة صادمة لنا، وسببت لإسرائيل ضرراً دعائياً”. فالعدوان كاشف، ينزع الأخلاق عن عدو يدعي التحضّر، ويحتمي بأكاذيب رعاة يروّجون أنه واحة الديمقراطية في صحراء الاستبداد والهمجية. والأزمات تسفر عن مشاعر حقيقية لا يجدي معها تجميل الخطاب. جورج بوش الابن سوّغ الغزو الأمريكي للعراق بأنه حرب صليبية. وجاء جو بايدن أكثر صراحة، وأقل تديناً، فاعترف بأنه صهيوني، وليس شرطاً أن يكون الإنسان يهودياً لكي يصير صهيونياً. والسيناتور الأمريكي ليندسي جراهام قال مع بدء العدوان: “نحن في حرب دينية، وأنا أقف مع إسرائيل”. والسفير الصهيوني لدى الأمم المتحدة دعا المسيحيين واليهود إلى “إكمال واجبهم المقدس”.
ستنتهي محنة غزة 2023، وتضاف إلى سجل دام، نتذكره في وقت لاحق، في زمن أفضل، كما نتذكر محناً أشدّ ترويعاً. تدمير هولاكو لبغداد، ومجازر سليم العثماني في مصر، وجرائم الفرنسيين في الجزائر. وللمحنة عبر ودروس، أولها أهمية العقيدة في الرهان على النصر.
النزوع الأخلاقي للمقاومة الفلسلطينيين أكسبها تعاطف العالم، بمن فيهم يهود في فلسطين المحتلة، وفي الولايات المتحدة التي يقيم فيها أكبر عدد من اليهود في العالم، ويعارضون السياسة الإسرائيلية. هذا السلوك الأخلاقي “العملي الميداني” للمقاومة الفلسطينية لا تتوازى معه قيم أخلاقية نظرية تغلق ملف الرصيد التاريخي المتباهي بالغزو، والحلم باستعادة الفتوحات، والبكاء على الأندلس.
في خطبة الجمعة، 27 أكتوبر 2023 وهي موحدة تقريباً تختلف في الدرجة لا النوع، إلحاحٌ على أن الله لا ينصر إلا المتقين، وأن الهزيمة في الحروب سببها كثرة الذنوب. هذا “كلام” ساذج قد يحمل البعض إلى الظن بأن الأعداء على الحق فينتصرون، وأن الله يكافئهم على التقوى.
خطباء الجمعة يزعقون في الميكروفونات، يحاصرون مساكين يعانون الفقر والاستبداد بالتقريع، وتحميلهم مسؤولية احتلال فلسطين، وهوان المسلمين في الشرق والغرب. ومن هذه الثغرة يتسللون إلى التاريخ، فيستعرضون الفتوحات والغنائم، ويعايرون شبان هذه الأيام بفتوحات أسامة بن زيد وطارق بن زياد ومحمد بن القاسم. أتمنى أن أشهد ارتقاء الوعاظ إلى الوعي بأن الغزو والفتوحات صفحة يجب أن تطوى طيّ السجل. لها ظرفها التاريخي، ولعلها توجب الاعتذار بقدر ما تستدعي الفخر. ليتهم يكفّون عن ذكرها إلا في قضايا البحث العلمي؛ لأنها تنكأ جراحاً في ذاكرة شعوب عانت فوائض السلوك العسكري. ما أصعب الاستقواء على شعب، وتخييره بين الإسلام والجزية والحرب، بمعنى القتل.
السلوك الأخلاقي “العملي الميداني” للمقاومة الفلسطينية لا تتوازى معه قيم أخلاقية نظرية تغلق ملف الرصيد التاريخي المتباهي بالغزو، والحلم باستعادة الفتوحات، والبكاء على الأندلس
في جهالات صباي، انتشيتُ بكلام السلفيين عن “عصور العزّة”. سمعتُ أحدهم يقول إن رسولاً لقائد مسلم ذهب إلى كسرى. وبدافع من مبدأ أن يكون المسلمون أعزّة على الكافرين، دخل الإيوان بحصانه. تمهل وهبط، وثقب السجادة بسيفه ثقبين، وأدخل فيهما الحبل لتقييد حركة الحصان. ثم طرح على كسرى الخيار الثلاثي الشهير: الإسلام، الجزية، القتال. إلى تلك الروح الاستعلائية المريضة يحنّ الكثيرون، ويقرنونها بعودة العزّة إلى الإسلام، إذا تجنب المسلمون المعاصي. ولا يفكرون في أن أمة لا تنسى ذلك الجرح، ولو احتفظت بالإسلام، فقد اختارت منه الحسين عليه السلام، رمزا لمأساة تذكّرها بمأساتها القومية. إنها إيران. ماذا لو استقبلت مبشرين لا مقاتلين؟
الماضي، بحمولاته من اجتهادات فقهية وسياسات وفتوحات، يُدرس كماضٍ ينتمي إلى لحظته التاريخية، وليس نموذجاً ملهماً. في “مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي”، كانون الثاني/يناير 2020، انفعل الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر المستنير، على مطالبين بتجديد الفكر الديني، قائلاً إن التراث “حمل مجموعة من القبائل العربية التي كانت متناحرة ولا تعرف يمينا من شمال، في ظرف ثمانين عاماً، إلى أن يضعوا قدمهم في الأندلس وقدمهم الأخرى في الصين”. ألا تقتضي الحكمة تجنب الزهو بإخضاع شعوب لم تمارس عدواناً على المسلمين؟ الزهو يأخذ منحنى هابطاً مع سلفيين متشددين، يبحثون عن عزاء في الهوان الحالي، ولو بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد.
محنة غزة 2023 أعادت قضية فلسطين إلى مقدمة اهتمامات الضمير العالمي. إنجاز كبير يتضافر مع صمود ميداني بطولي، وأداء إنساني تفادى بربرية العدو وفضح دعاواه، ونقض روايته عن التحضّر، وشيطنته مواطنين يرفضون مغادرة بيوتهم وزيتونهم. شيطنة الآخر كامنة في ضمير أوروبي يفيق الآن على مأساة فلسطين، بعد خضوعه لرواية الأسلاف عن همجية الآخر، أيّاً كان الآخر غير المستحق للحياة. أفلام كثيرة ألحّت على “التفوق الأبيض”، مثل “صمت الحملان” و”جانجو”. وهناك جمل قصيرة في “الأب الروحي” و”أساطير الخريف” عن الهنود الحمر. لم يكونوا هنوداً ولا حمراً. هوارد زن وثّق روايتهم في كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة”، لعلي أكتب عنه بما يليق.