خضر رسلان*: ثقافة الكاوبوي.. شريعة الغاب في دولة تسمّى أمريكا
بيروت-لبنان-09-01-2023
تتميّز الثقافات والمجتمعات العريقة بخاصية الثقة واليقين التي تظهر في احترام الذات واحترام الآخر والتسليم بحقه في العيش بحرية وكرامة وحياة لائقة، وهذا ما يفتقده المكوّن الأمريكي بحكم تشكله من خليط متناقض في العادات والمعتقدات والثقافات، والذي استحوذ على الثروات ونهب أرض سكانها الأصليين من الهنود الحمر الذين تعرّضوا إلى أبشع أبادة عنصرية عرفها التاريخ.
هذا الإرث الثقيل في الذهنية الأمريكية استولد الارتياب في نيّات الآخرين إلى الدرجة التي قد يفتح بعضهم النار على الآخرين لمجرد الشك. ومن هذه الخلفية أجازت القوانين الأمريكية بحرية حيازة الأسلحة، وتحت عنوان اختلافات الثقافات يمكن تبرير أيّ جريمة قتل بين أمريكيين ومواطنين من شعوب أخرى، واعتبار أنّ القتيل ربما يكون جاهلاً باختلاف الثقافات وأنّ القاتل الأمريكي بحكم ثقافته “المتحضّرة”! مارس حقّ الدفاع عن النفس بحرية. هذا النموذج الأمريكي المبني على عدم الثقة والشك بالآخرين يفسّر تخلي أمريكا عن أصدقائها إذا ما دعت الضرورة أو مصلحتها إلى ذلك.
إنها ثقافة الكاوبوي اللاحضارية المسكونة بالخوف والتي تفتح النار على الآخر لمجرد الشكّ، ومن ثمّ انتهاج سلوك عدواني لا يكترث بالنتائج أو بالتضحية بالطرف الآخر.
هذا الواقع الذي يعيشه المجتمع الأمريكي في ظلّ دولة تدعو إلى عولمة (الحياة) الأمريكية على العالم ونقل نموذج الأمريكي المتحضّر الذي له “الحقّ في إلغاء الآخر”! الى إعطاء الحقّ للدولة الأمريكية الكاوبوي في سيادتها على العالم وبشكل أحادي ولو أدّى ذلك الى إبادة الشعوب عن طريق القتل والتجويع والحصار الشامل، كما سحقت نظام سلفادور الليندي الاشتراكي في تشيلي، وقوّضت الثورة السّاندينية في نيكاراغوا بقسوة وكما اقتلعت الرئيس البنمي دانيال أورتيغا من قصره عنوة وسجنته، ومثلهُ القس الهاييتي أريستيد رئيس هاييتي الشرعي ونفته إلى الكونغو قسراً ونصّبت بديلاً له، هذا إلى جانب وقوفها الدائم إلى جانب الاحتلال “الإسرائيلي”، وغير ذلك الكثير من النماذج الأمريكية في الهيمنة والتسلط وهضم الحقوق.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية قادت الولايات المتحدة أكثر من 80 بالمئة من إجمالي الحروب التي وقعت في العديد من دول العالم باسم “الديمقراطية” و”الحرية” و”حقوق الإنسان” تاركة وراءها الموت والدمار في الكثير من بلاد العالم.. فالحرب طريقة الحياة الأمريكية كما أشار المؤرّخ الأمريكي بول إل أتوود.
بعد نهاية الحرب الباردة، رأت الولايات المتحدة نفسها أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهذه فرصة نادرة لإعادة تشكيل العالم بالشكل الذي تراه مناسباً، ووفقاً للإرث الثقيل في الذهنية الأمريكية الذي يرتاب من نوايا الآخرين انتقمت من أولئك الذين رفضوا الامتثال لها، وامتدّت العواقب إلى ما هو أبعد من الخسائر البشرية والانهيارات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية للدول المستهدفة، لتصل إلى تحطيم الاستقرار الإقليمي والعالمي.. ولتبرير سياستها التدخلية أخفت الولايات المتحدة جرائمها لتُظهرها على أنها “نظرية الحرب العادلة” وما تسمّى “تجارب ديمقراطية”.
لكن امتثالاً للسنن التاريخية وسيادة الدول التي تحدث عنها علماء الاجتماع لا سيما ابن خلدون في مقدمته فان “أحادية القطب” التي تتشبّث بها الولايات المتحدة لن تدوم طويلاً، وسيتحوّل العالم نحو عالم متعدّد الأقطاب وهذا ما تخشاه أمريكا من ضعف تفوقها العالمي، وبالتالي بدأت العمل على إحكام قبضتها استباقاً لذلك وعلى رأس أولوياتها تهشيم كلّ من يهدّد قيادتها الأحادية للعالم، وبناء على ذلك وانسجاماً مع الذهنية الأمريكية التاريخية المرتكزة على الشكّ والارتياب بالآخر فإنها لن تألو جهداً في رفع وتيرة التوتر وإشعال الحروب وإزهاق الأرواح في محاولة منها لوقف التمرّد الروسي ومواجهة المارد الصيني اللذين يقودان الاتجاه العالمي بقوة نحو عالم متعدّد الأقطاب مزوّدين بإمكانيات هائلة بشرية وتكنولوجية فائقة التطور.
ربما تتغاضى الذهنية الأمريكية عن التفلت السعودي الذي أبرم عقوداً اقتصادية مع الصين، وأيضاً ربما تتماشى مع أيّ استدارة تركية نحو ترميم علاقتها مع سورية، ومن غير المستبعد أن تغضّ النظر عن اي تحسّن مرتقب في العلاقات الإيرانية السعودية، إلا أنها بلا شك، وانطلاقاً من الموروث التاريخي الذي يتحكم في العقلية الإلغائية الأمريكية، فإنها كما أجازت للمواطن الأمريكي “المتحضر” إطلاق الرصاص وحمّلت القتيل المسؤولية لجهله اختلاف الثقافات فإنّ الإدارة الأمريكية وأدواتها في الدولة العميقة سيستمرّون في سياسة العقوبات والحصار واستنزاف الشعوب، ويحمّلون الروس والصينيين وإيران ودول “بريكس” وغيرها من الدول الرافضة للأحادية القطبية كلّ ما ينتج عن ذلك من ضحايا وكوارث وويلات…
إنها ثقافة الكاوبوي، شريعة الغاب في دولة تسمّى أمريكا.
*خبير ومحلل سياسي لبناني