جولة الرئيس الصيني في “الآسيان”: “رسوم” ترامب على قمة الأولويات

إعداد صدقي عابدين: باحث في العلوم السياسية – متخصص في الشئون الآسيوية
قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 26-04-2025
قام الرئيس الصيني شي جين بينج بزيارة كل من فيتنام وماليزيا وكمبوديا في الفترة من 14 إلى 18 أبريل 2025. الجولة جاءت في توقيت مليء بالتطورات المتسارعة على صعيد حرب الرسوم الجمركية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على العالم كله تقريباً. وكانت الجبهة الصينية في تلك الحرب هي الأكثر اشتعالاً وتصعيداً. كما أن نسب الرسوم على كل من فيتنام وكمبوديا كانت من بين الأعلى قبل أن يتم تجميدها لثلاثة أشهر في إطار ما قام به ترامب لاحقاً.
لوحظ في الخطاب الصيني خلال الزيارات الثلاث أن الأمر لم يقف عند مناقشة العلاقات الثنائية مع الدول الثلاث. كما أن الأمر تجاوز علاقات الصين مع رابطة أمم جنوب شرقي آسيا (الآسيان) التي تضم 7 أعضاء آخرين إلى جانب الدول الثلاث التي قصدها شي جين بينج مؤخراً. إذ حضرت تداعيات الخطوات الأمريكية الأخيرة ليس فقط على الصين وتلك الدول، وإنما على العالم كله، بما في ذلك الجوانب الاقتصادية والسياسية.
الحرب التجارية الأمريكية
لا يخفى أن الرسوم الجمركية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تباعاً، وكانت ذروتها في 3 أبريل 2025، قد طالت غالبية دول العالم بنسب مختلفة. وكانت النسبة في حالة فيتنام 46%، وفي حالة كمبوديا 49%، بينما كانت الرسوم على ماليزيا بنسبة 24%.
أما الصين، فإن النسبة ظلت تتصاعد إلى أن وصلت إلى 145%، في ظل عدم سكوت الصين على الإجراءات الأمريكية، والإصرار على الرد بالمثل، مع الإعلان عن الاستعداد لخوض الحرب التجارية، طالما أنها فرضت عليها إلى النهاية. مع بيان أن هذه الحرب تضر بمن يفرضها، ومن تفرض عليه، وكذلك بالدول النامية، وكل النظام التجاري الدولي والاقتصاد العالمي.
التجميد الذي قام به الرئيس ترامب لفرض الرسوم الجمركية طال دول الآسيان، والتي كانت قد اجتمعت كلمتها على عدم الرد على الرسوم الأمريكية، حتى قبل أن يتم الإعلان عن التجميد على الرغم من امتعاضها مما قامت به الإدارة الأمريكية. إذ أن هذه النسب العالية من الرسوم تضر بها كثيراً في ظل أهمية السوق الأمريكية لها. والأمر لم يقف عند الدول الثلاث التي زارها الرئيس الصيني مؤخراً. فبخصوص باقي أعضاء الرابطة، كانت النسب على النحو التالي: 48%، 44%، 36%، 32%، 24%، 17%، 10% لكل من لاوس، ميانمار، تايلاند، بروناي، الفلبين، سنغافورة على التوالي. وهكذا باتت الصين هي الاستثناء الوحيد ليس فقط من التجميد وإنما من زيادة نسب الرسوم.
وقد جاءت زيارة الرئيس الصيني لهذه الدول في هذه الأجواء التصعيدية الأمريكية تجاه بكين، والتي ترافقت مع التهدئة ولو المؤقتة مع دول الآسيان وغيرها من دول العالم. وعلى الرغم من ذلك، فإن دول الآسيان لا تعلم كيف ستكون الأمور بعد انقضاء فترة التجميد من ناحية أولى.
ومن ناحية ثانية فإن ترامب في بعض تبريراته للرسوم العالية على دول الآسيان ذكر أن دولة مثل كمبوديا تعد بمثابة واجهة للصادرات الصينية لبلاده. ولا يخفى الطبيعة المتميزة للعلاقات بين الصين وكمبوديا على جميع المستويات، لدرجة أن البعض يذهب إلى أن الأخيرة تعد على طول الخط مع الموقف الصيني فيما يتعلق بطرق التعامل مع خلافات بكين مع بعض دول الآسيان في بحر الصين الجنوبي.
من ثم فإن الدولتين أعربتا عن “معارضتهما القوية للحمائية التجارية” مع التأكيد المشترك على “التزامهما بنظام تجاري متعدد الأطراف يتمحور حول منظمة التجارة العالمية”. ولم تكتف الدولتان بذلك بل ذهبتا إلى الالتزام بالمحافظة على “نظام تجاري يمكن التنبؤ به وقائم على القواعد وشفاف وغير تمييزي ومفتوح وشامل”. ليس هذا فحسب بل إنهما اعتبرتا “القيود المفروضة على التجارة والاستثمار تشكل تهديداً للأمن الاقتصادي والنظام التجاري الدولي”.
المسائل ذاتها كان هناك اتفاق عليها بين كل من الصين من ناحية وفيتنام وماليزيا من ناحية أخرى، وإن كانت لغة البيانين المشتركين أقل حدة مما كان عليه الأمر في حالة كمبوديا. ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى ما ذكر عن طبيعة العلاقات بين بكين وبنوم بنه. وربما عدم خشية الأخيرة من التماهي مع السياسة الصينية.
وعلى العكس من ذلك، أرادت كل من فيتنام وماليزيا الاحتفاظ بمسافة عن المواقف الصينية نظراً لما قد يترتب على التماهي التام من تداعيات من قبل الولايات المتحدة من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية نظراً لوجود خلافات مع الصين، وإن كانت درجتها مختلفة. فالخلافات الحدودية البحرية بين الصين وفيتنام أكثر حدة. وتقريباً هي تأتي في المرتبة الثانية من حيث حدتها بعد تلك التي بين الصين والفلبين. وربما كان للاعتبارات الأيديولوجية وما يترتب عليها من التزامات سياسية بين البلدين دور مهم في السيطرة على تلك الخلافات.
لكن ذلك لم يمنع من الاتفاق مع الصين على تعددية النظام التجاري الدولي وانفتاحه وأهمية القواعد التي أرسيت في ظل منظمة التجارة العالمية، وضرورة عدم وضع عراقيل أمام العولمة الاقتصادية نظراً للمضار الكبيرة التي تعود على الجميع جراء ذلك.
كان لافتاً أن الرئيس الصيني قد تحدث في الدول الثلاث عن ترحيب الصين بمنتجات تلك الدول، في رسالة واضحة إلى ما يمكن أن تقوم به بلاده من تعويض لما قد تفقده جراء تراجع صادراتها إلى السوق الأمريكية.
وهنا يمكن الحديث عن أربعة أمور:
- أولها يتعلق بالحدود التي يمكن للصين أن تقوم بها على صعيد استقبال المزيد من منتجات تلك الدول، خاصة في ظل ما تتعرض له هي من قيود على دخول صادراتها للسوق الأمريكية، ومن ثم سعيها إلى تنشيط سوقها الداخلية لاستيعاب المزيد من منتجات شركاتها التي كانت تذهب إلى الولايات المتحدة.
- وثانيها يتصل بما يمكن أن تطالب به الصين على صعيد صادراتها إلى تلك الدول في مقابل المزيد من فتح أسواقها أمامها.
- وثالثها له علاقة باللغة التي استخدمها الرئيس الصيني عند حديثه عن هذه المسألة في الدول الثلاث. فبينما تم تخصيص المنتجات الزراعية من كل من ماليزيا وكمبوديا والمزيد من فتح السوق الصينية الضخم أمامها، كان الحديث بدون تحديد بالنسبة لفيتنام.
- ورابعها يرتبط بما أطلقه مسئولون أمريكان من تحذيرات للدول الأوروبية التي تتقارب تجارياً مع الصين على خلفية الرسوم التجارية الأمريكية. إذ اعتبر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت أن ذلك سيكون بمثابة “خطوة انتحارية”.
فكيف سيكون السلوك الأمريكي تجاه دول الآسيان على هذا الصعيد؟.
هناك كثير من الجوانب التي يختلف فيها وضع علاقة دول الآسيان مع الصين عنه في حالة علاقات الدول الأوروبية مع الصين. من ثم فإن الغضب الأمريكي تجاهها لن يكون بنفس حدته حيال الأوروبيين، هذا إن وجد، خاصة وأن هذه الدول قد تعاملت مع أمر الرسوم الأمريكية بحذر شديد من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية فإن هناك تاريخاً حافلاً من التفاعلات التجارية مع الصين، ومكانة خاصة لكل منهما تجاه الآخر. ناهيك عن الاتفاقيات الجماعية والثنائية، والتي يتم العمل على تطويرها من آن لآخر، حتى قبل أن تظهر قضية الرسوم التجارية الأمريكية.
يشار هنا إلى أن هناك اتفاقية تجارة حرة بين الصين ودول الآسيان تم التوقيع عليها في العام 2002، والتي دخلت حيز التنفيذ في بداية العام 2010، وأن هناك مفاوضات تجري لترقية هذه الاتفاقية في نسخة ثالثة، بعدما كان الطرفان قد أقرا بروتوكولاً لترقيتها في نوفمبر من العام 2015، ودخل حيز التنفيذ في بداية يوليو من العام 2016.
وبحسب بيانات رابطة الآسيان، فإن الصين استمرت الشريك التجاري الأول للرابطة على مدار خمسة عشر عاما متوالية منذ العام 2009، وأن الرابطة باتت الشريك التجاري الأول للصين لأربعة أعوام متوالية منذ العام 2020.
وتشير الأرقام أيضاً إلى أن حجم التجارة بين الجانبين قد بلغ في العام 2023 حوالي 700 مليار دولار، أي أنها زادت بأكثر من الضعف على مدار عشر سنوات، حيث كانت قيمتها في العام 2012 حوالي 320 مليار دولار.
وتشير البيانات الصينية إلى أن التجارة بين الجانبين قد بلغت في العام 2024 حوالي 970 مليار دولار. وخلال شهري يناير وفبراير من العام 2025 زادت التجارة بين الجانبين بنسبة 4% مقارنة بما كانت عليه في نفس الفترة من العام الماضي.
هذه الأرقام تشير إلى مدى ضخامة التبادل التجاري بين الجانبين من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية الرغبة المتبادلة في استمرار هذا الاتجاه التصاعدي. ومن ثم يأتي الحرص على تحديث الاتفاقيات الخاصة بتحرير التجارة بين الجانبين. وفي هذا دليل على أن كلا الطرفين يعول على الآخر في ظل أجواء الحرب التجارية العالمية الراهنة.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال التباين الكبير في العلاقات الاقتصادية بين الصين وكل من دول الآسيان العشر، خاصة في ظل التباين بين مستوى التنمية الاقتصادية في تلك الدول، ومن ثم التباين في حجم تجارتها الخارجية، كما لا يمكن إغفال تأثير العوامل السياسية على الجوانب الاقتصادية للعلاقات كما هو الوضع في حالة الفلبين. إذ أن الأخيرة هي الأكثر تصعيداً حيال الصين في خلافهما البحري، علماً بأن مانيلا تحظى بدعم أمريكي كامل وطويل المدى في هذا الأمر.
الأحادية الأمريكية
كان هناك ربط واضح من قبل الرئيس الصيني في زياراته للدول الثلاث بين الجوانب السياسية والاقتصادية. وعلى سبيل المثال، فإنه قد صرح في كمبوديا قائلاً: “إن سياسات الأحادية والهيمنة لا تحظى بدعم الشعوب، وإن الحروب التجارية تقوض النظام التجاري متعدد الأطراف وتعطل النظام الاقتصادي العالمي”.
وفي فيتنام، دعا شي إلى “معارضة سياسة القوة والأحادية بشكل مشترك”. ومن ماليزيا، ذكر أن بلاده ستعمل معها وباقي دول الآسيان على “التصدي للتيارات الخفية المتمثلة في المواجهة الجيوسياسية والمواجهة بين المعسكرات، والتيارات المضادة المتمثلة في الأحادية والحمائية”. من ثم فإن وزير الخارجية الصيني وانغ يي ذهب إلى أن الجولة قد “أرسلت إشارة قوية بأن الصين تدافع بقوة عن التعددية وقواعد التجارة الدولية”.
هذه الرسائل الصينية الواضحة بخصوص الأحادية الأمريكية تعبر عن موقف صيني راسخ. إذ لا تخفي الصين معارضتها لتلك الأحادية والتي تصفها أحياناً بالتنمر. وتذهب إلى أن العالم بات يمر بتغيرات غير مسبوقة منذ قرن من الزمان، وأن هناك متغيرات كثيرة تتجاوز المنطق الأمريكي في التعامل مع باقي الدول والمناطق والقضايا.
وعلى ذلك، فإن الصين لا تمل من الحديث عن هذه القضية مع شركائها، سواء بشكل ثنائي كما حدث في الجولة الأخيرة للرئيس الصيني في دول الآسيان الثلاث، أو على المستوى الجماعي في تجمعات ومنتديات ومؤسسات من قبيل منظمة شنغهاي للتعاون، والبريكس.
وفي معارضة الأحادية، تكاد تتطابق وجهة النظر الصينية مع نظيرتها الروسية، وقد تكون وجهة النظر الكورية الشمالية أشد حدة في تلك المعارضة.
فكيف هو الحال بالنسبة لدول الآسيان خاصة تلك التي زارها الرئيس الصيني مؤخراً؟
بالنسبة لفيتنام، فإنه على الرغم من التحسن الكبير الذي طال علاقاتها مع الولايات المتحدة، إلا أنها مازالت في المعسكر الأيديولوجي نفسه الذي تنتمي إليه الصين. والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لكمبوديا على هذا الصعيد، مع خصوصية أكبر للعلاقات مع الصين كما ذكر، كما أن ماليزيا دائماً ما تحرص على درجة من الاستقلالية في علاقاتها الخارجية.
من ثم فإن هذه الدول ليس من مصلحتها هيمنة قوة واحدة على النظام الدولي. وهي وإن كانت تعارض سياسات الهيمنة والأحلاف الأمريكية كل بطريقته، إلا أنها ليست مع هيمنة دول أخرى. ومن هذه الزاوية، تحاول واشنطن دعم علاقاتها بتلك الدول، حيث أنها تلح على ما تسميه محاولات صينية لتغيير الأمر الواقع بالقوة في محيطها القريب، بما في ذلك في بحر الصين الجنوبي.
دول الآسيان التي باتت مركزاً للإقليمية في آسيا تحاول البعد عن الانحيازات الواضحة كتجمع، لكن تبقى هناك تباينات واضحة في اختيارات دولها فرادى. فلا يمكن وضع موقف الفلبين في نفس سلة مواقف باقي الدول. إذ تجري الأولى سلسلة من المناورات العسكرية مع واشنطن، في ظل موقف أمريكي واضح في الانحياز لوجهة النظر الفلبينية في خلافاتها الحدودية مع الصين في بحر الصين الجنوبي.
تدرك الصين أن الاستراتيجية الأمريكية التي لم تتغير مع تغير الإدارات الحاكمة في واشنطن تستهدف احتوائها. ومن ثم فإن واشنطن تعمل على بناء شبكة من التحالفات المحيطة ببكين. وتدفع باتجاه تبني حلفاء وشركاء واشنطن مواقفها نفسها فيما يتعلق بالقضايا التي تكون الصين طرفاً فيها أو حتى فيما يخص ما تعتبره بكين شئوناً داخلية.
وهنا يمكن تعداد شريحة كبيرة من القضايا، منها ما يتعلق بتايوان وهونج كونج وسينكيانج والتبت. والأمر المؤكد بالنسبة لهذه القضايا أن دول الآسيان لا تنخرط في الخوض فيها كما تفعل دول آسيوية أخرى كاليابان أو حتى دول إقليمية أخرى مثل استراليا. ولا يخفى أن طوكيو حليف قديم لواشنطن في المنطقة، وهناك خلافات قديمة متجددة بينها وبين بكين.
ولعل ما ذكره نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس بخصوص تعيين السفير الأمريكي الجديد جورج جلاس في طوكيو، وما ذكره السفير نفسه بخصوص وضع اليابان في المنطقة لا يخلو من دلالة بالنسبة للصين. إذ ذكر أن فانس قد خاطب السفير بالقول: “على عاتقك مسئولية كبيرة، لأنك ستذهب للخدمة لدى أهم حليف وأهم منطقة في العالم في أهم وقت”.
بينما ذكر السفير نفسه أن اليابان ضمن “منطقة صعبة جداً”، موضحاً أنه يقصد بذلك وجود كل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية. كما أن استراليا دخلت في صفقة كبيرة مع واشنطن ولندن من أجل الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الاعتراضات الصينية حول خطورة هذه الصفقة على الأمن في المنطقة، بما في ذلك سباقات التسلح. وقد اعتبرتها بكين متعارضة مع النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. وهناك الكثير من نقاط الخلاف السياسي بين الصين وأستراليا.
إذا كانت دول الآسيان تحرص على أن لا تدخل نفسها في خضم هذه القضايا التي تعتبرها الصين من صميم شئونها الداخلية، إلا أنها تظل معنية بقضايا أخرى، على رأسها السلوك الصيني في بحر الصين الجنوبي، والذي بات بنداً دائماً على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، وقد جعلته واشنطن بنداً دائماً أيضاً على أجندة اجتماعات مجموعة السبع الصناعية.
ومع ذلك، فإن غالبية دول الآسيان لا تتماهى مع ما تطرحه واشنطن، ربما باستثناء الفلبين، وحتى الفلبين كانت قد حرصت على وجود مسافة بينها وبين السلوك الأمريكي، واختارت التقارب مع الصين في ظل رئاسة رودريجو دوتيرتي 2016 – 2022.
تدرك دول الآسيان مدى أهمية موقعها الجيو استراتيجي، وتدرك في الوقت ذاته خطورة ذلك الموقع، ومن ثم فإنها في الأغلب لا تعلن عن انحيازات واضحة تجاه هذا الطرف أو ذاك، نظراً لأنها تدرك أن ذلك قد يعود عليها بخسائر كبيرة.
وفي الوقت نفسه، فإنها تحرص على وجود نقاط توازن لا تبدو معها بلا موقف، وعلى سبيل المثال، فإنها لم تنصع للضغط الأمريكي بخصوص علاقاتها مع روسيا حتى قبل أن تندلع الحرب في أوكرانيا.
ومع ذلك، تبقى خصوصيات لكل دولة من دول الآسيان على حدة على صعيد علاقاتها بكل من الصين والولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فإن فيتنام قد اتفقت مع الصين في زيارة شي الأخيرة على “دعم بعضهما البعض بقوة على طريق الاشتراكية”. ولم يكن غريباً أن يؤكد الجانبان “عزمهما على الدفاع بقوة عن النظام الدولي الذي تشكل الأمم المتحدة جوهره، والنظام الدولي الذي يشكل القانون الدولي أساسه، والالتزام بـ “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي” والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية التي تشكل مبادئ وميثاق الأمم المتحدة أساسها”.
المتأمل في هذه العبارة يجد أنها تكاد تتطابق مع ما كانت ترد به بكين على واشنطن عندما تتهمها بأنها تمثل أكبر تهديد للنظام الدولي القائم على القواعد. ومن ثم فقد أعلن الجانبان تمسكهما القوي بالتعددية، والعمل المشترك لحماية العدالة والإنصاف الدولي بما يضمن مصالح الدول النامية، ودعم نظام دولي متعدد الأقطاب، مع معارضة “سياسات الهيمنة والقوة والأحادية”.
تقريباً تكررت المعاني نفسها في البيان المشترك مع كمبوديا. بينما غابت بعض المسائل والمصطلحات عن البيان مع ماليزيا. ويبدو هذا مفهوماً في ظل خصوصيات كل دولة من دول الآسيان بما في ذلك نمطها التنموي، وتوجهات سياستها الخارجية. ومن ذلك على سبيل المثال أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة بقوة على جدول أعمال مباحثات الرئيس الصيني في ماليزيا، وهو ما لم يكن كذلك في مباحثاته في فيتنام وكمبوديا.
كان لافتاً أن الرئيس الصيني قد تحدث عن دعم بلاده القوي لما أسماه “تمسك كمبوديا بالاستقلال الاستراتيجي”. يأتي ذلك في ظل الجدل الدائر بخصوص قاعدة ريام البحرية في كمبوديا، والتي افتتحت مؤخراً بعد عمليات تطوير قامت بها الصين، ومن ثم رسو سفن صينية بها بعد الافتتاح وإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية الكمبودية.
وكانت كمبوديا قد نفت ما تم تداوله من سيطرة الصين على القاعدة، معلنة أنها مفتوحة لقطع بحرية من دول أخرى. وبالفعل فقد رست فيها سفينتان حربيتان يابانيتان في 19 أبريل 2025.
وكانت كمبوديا قد نفت منذ بدء الصين عمليات تطوير القاعدة البحرية منتصف العام 2022 وعلى لسان وزير دفاعها تيا بنه المخاوف التي قيلت بشأن علاقة الصين بالقاعدة عندما قال: “هناك مزاعم بأن قاعدة ريام الحديثة ستستخدم حصراً من قبل الجيش الصيني. كلا، الأمر ليس كذلك أبداً”.
وإذا كانت القاعدة لن تكون حكراً على الاستخدام الصيني، فإن طبيعة العلاقات بين الجانبين، ناهيك عما قامت به بكين لتطوير القاعدة، فضلاً عما يمكن أن تؤول إليه علاقات كمبوديا مع الولايات المتحدة سوف يكون له تأثير على مدى استفادة البحرية الصينية من هذه القاعدة ذات الموقع الاستراتيجي الهام على خليج تايلاند بالقرب من مضيق ملقا الذي يمر منه حوالي خمس التجارة العالمية سنوياً.
خاتمة
يبدو الاتفاق بين الصين ودول الآسيان بخصوص تداعيات الرسوم التجارية الأمريكية أكثر منه بكثير بخصوص اتفاقها على مسألة طبيعة النظام الدولي ومآلاته. ويمكن تبين ذلك من مفردات بيان وزراء اقتصاد دول الرابطة في 10 أبريل 2025. إذ اعتبرها الوزراء سبباً لحالة من عدم اليقين، وتمثل تحديات وصفت بالكبيرة للشركات، لا سيما المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، إضافة إلى تأثيراتها على مجمل التجارة العالمية والإقليمية وكذلك الاستثمارات.
هذه التأثيرات لا تقتصر على منطقة دون أخرى، كما أن تأثيراتها لن تقف عند الشركات فقط، وإنما ستمتد إلى المستهلكين حتى في الولايات المتحدة نفسها. ليس هذا فحسب بل إنهم اعتبروها ذات تأثير على الأمن الاقتصادي وما يصحبه من استقرار. وقد وصل بهم الأمر إلى اعتبارها معيقاً للتقدم الاقتصادي في دول الرابطة، وأن تأثيراتها ستمتد لتطال علاقاتها مع الولايات المتحدة.
هذا الاتفاق في تداعيات الرسوم الجمركية الأمريكية لا يمتد إلى كيفية التعامل معها أو الرد عليها، فشتان بين المنطق الصيني القائم على الندية والمقارعة ومنطق دول الآسيان الذي ينحي الصدام جانباً.
والتفسير هنا واضح، فما بين بكين وواشنطن تنافس أو صراع على قيادة النظام الدولي، والصين بات لديها ما يمكنها ليس فقط من تحمل الضربات الأمريكية، وإنما بالرد عليها بطريقة قد تكون أكثر إيلاماً، ناهيك عن استعداها لحرب تجارية طويلة طالما فرضت عليها، مع تأكيدها على أنها لا تريدها، وأن فيها خسارة صافية للجميع، وهذا نابع من إدراك صيني لسياسة أمريكية واضحة المعالم تستهدفها من شتى الجوانب.
في المقابل، فإن وزراء اقتصاد دول الآسيان في اجتماعهم المشار إليه آنفاً وقبل أن يعددوا التأثيرات السلبية للرسوم الجمركية الأمريكية، فإنهم قد أكدوا على ما وصفوه بـ”الشراكة القوية والدائمة” بين الرابطة وواشنطن، معتبرين أن شراكة واشنطن مع الرابطة استراتيجية وشاملة، وأن الأخيرة كان لها دور هام في تعزيز مكانة الرابطة، وإن هذا قد عاد بالنفع على كلا الطرفين، كما أنه قد خدم “السلام والاستقرار والنمو الاقتصادي والاستثمار والتجارة في المنطقة”.
شتان ما بين إدراكات الصين لدور الولايات المتحدة في المنطقة وإدراكات رابطة الآسيان للدور نفسه، ومن ثم طبيعة تعامل كل طرف مع السياسة الأمريكية في المنطقة. والأمر بالنسبة للصين لا يقف عند سياسة واشنطن في المنطقة المحيطة بها، وإنما في شتى بقاع العالم. والحال كذلك بالنسبة لواشنطن التي ترى في مبادرات بكين ومشاريعها الإقليمية والعالمية تهديداً لمصالحها. وخير مثال على ذلك الجدل الدائر بين واشنطن وبكين فيما يتعلق بقناة بنما، وما تثيره واشنطن حول مشاريع بكين وقروضها المقدمة للكثير من دول العالم وعلى رأسها الدول الأفريقية.