آسياأخبار العالمأمريكا

جزيرة تايوان.. قضية صينية داخلية أم ورقة صراع غربي؟

اكتسبت جزيرة تايوان أهمية استراتيجية متزايدة بفعل موقعها الجغرافي الحيوي في قلب شرق آسيا، وباعتبارها نقطة تقاطع رئيسية في سلاسل الإمداد العالمية، خاصة في قطاع أشباه الموصلات. وقد تحولت هذه الأهمية إلى عنصر توتر متصاعد في العلاقات الدولية، مع احتدام التنافس بين القوى الكبرى حول إعادة تشكيل النظام العالمي.

ففي الوقت الذي تؤكد فيه الصين، انطلاقًا من مبدأ “صين واحدة”، أن إعادة توحيد تايوان مع الوطن الأم تمثل مسألة سيادية لا تقبل النقاش وخط احمر، تتمسك الولايات المتحدة بمواقف متناقضة، تتظاهر فيها باحترام هذا المبدأ من جهة، وتقدم دعماً عسكرياً وسياسياً متنامياً لتايبيه من جهة أخرى، في خطوة يُنظر إليها كعرقلة مباشرة للمساعي السلمية الصينية.

ورغم التحذيرات المتكررة من بكين بشأن التدخلات الخارجية في السيادة الوطنية، ورفضها القاطع لأي محاولات انفصالية تهدد وحدة أراضيها، تواصل واشنطن اتخاذ مواقف تصعيدية هدفها الأساسي الحفاظ على هيمنتها الأحادية، وكبح الصعود الصيني وتصدرها المشهد العالمي، خصوصًا في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية.

كما تسعى واشنطن والغرب لتوظيف ورقة تايوان كورقة ضغط جيوسياسي، بالنظر إلى موقع الجزيرة المحوري الذي يجعلها قاعدة محتملة لتهديدات عسكرية تطال الأمن الإقليمي الصيني، وتمسّ مباشرة بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.

الصراع على تايوان في سياق الانقسام التاريخي حول تمثيل “الصين الواحدة

تقع جزيرة تايوان في شرق القارة الآسيوية، يفصلها عن البر الرئيسي الصيني مضيق تايوان الذي يبلغ عرضه نحو 180 كيلومترًا. وخلافًا لما تُروّج له بعض السرديات الغربية، فإن تايوان لم تكن يومًا دولة مستقلة بالمعنى القانوني، بل كانت تاريخيًا جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الصينية، حيث انضمت إلى السيادة الصينية في القرن السابع عشر. غير أن الجزيرة تعرضت للاحتلال الياباني في أعقاب حرب 1894–1895 التي فرضت على الصين التنازل عنها بموجب “معاهدة شيمونوسيكي”، قبل أن تعود رسميًا إلى السيادة الصينية في عام 1945 عقب استسلام طوكيو وانتهاء الحرب العالمية الثانية.

لكن هذه العودة لم تدم طويلًا في ظل ما شهدته الصين من اضطرابات داخلية بعد الحرب، إذ اندلعت حرب أهلية بين “الحزب الشيوعي الصيني” المدعوم من الاتحاد السوفياتي، و”حزب الكومينتانغ القومي” المدعوم من الولايات المتحدة. انتهت الحرب في 1949 بانتصار الشيوعيين وإعلان جمهورية الصين الشعبية في بكين، في حين انسحب قادة حزب الكومينتانغ إلى جزيرة تايوان وأعلنوا منها قيام ما سموه “جمهورية الصين الوطنية”، رغم عدم وجود أي أساس قانوني لإنفصال الجزيرة أو تشكيل كيان مستقل.

في ذلك الوقت، كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة رافضًا للاعتراف بالصين الشعبية، وسعى إلى استخدام تايوان كأداة استراتيجية لمحاصرة المدّ الشيوعي في آسيا، ومنع الصين الموحدة من استعادة مكانتها في النظام الدولي.

ساهم هذا الدعم الغربي في ترسيخ سلطة الحزب القومي في تايوان، حيث أقام عاصمة موازية في “تايبيه”، واحتفظ بمقعد الصين في مجلس الأمن بدعم أمريكي مباشر، رغم أن هذا التمثيل لم يعكس الواقع الديمغرافي ولا السيادي للصين الحقيقية. ولكن مع تراجع التحالف السوفياتي–الصيني، وتحول أولويات واشنطن الجيوسياسية، بادرت الولايات المتحدة عام 1971 إلى سحب دعمها لتايوان داخل الأمم المتحدة، حيث تقرر منح المقعد الدائم للصين الشعبية، وفي عام 1979 اعترفت واشنطن رسميًا بجمهورية الصين الشعبية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للصين.

شكّل هذا التحول الأمريكي لحظة فاصلة في ملف تايوان، إذ فقدت الجزيرة الاعتراف الدولي تدريجيًا، ولم تعد ترتبط بعلاقات دبلوماسية كاملة سوى مع عدد محدود من الدول لا يتجاوز 15 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة. وساهمت سياسة “الصين الواحدة”، التي حظيت بقبول عالمي واسع، في التأكيد على أن تايوان لا يمكن أن تكون كيانًا مستقلًا، بل جزءًا غير قابل للتجزئة من السيادة الصينية.

ومع ذلك، واصلت الولايات المتحدة وبعض حلفائها اللعب على ورقة “الغموض الاستراتيجي” لتعطيل مسار التوحيد السلمي، من خلال الدعم العسكري والسياسي لتايبيه، ما يعدّ في نظر بكين تدخلاً سافرًا في شؤونها الداخلية.

تايوان بين تحولات الهوية ومشاريع الانفصال المدعومة من الخارج

أدّى قرار الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات بسحب اعترافها الرسمي بجزيرة تايوان كممثل شرعي للصين، إلى تحولات عميقة داخل الجزيرة نفسها. ففي حين كان “النظام التايواني” في بدايته يسعى لاستعادة “الشرعية الصينية” من بكين، ظهرت لاحقًا تيارات سياسية واجتماعية جديدة تبنّت مشروعًا مغايرًا، يتمثل في فصل تايوان بالكامل عن الصين وتأسيس هوية قومية مستقلة.

برز هذا التحول من خلال صعود الطبقة السياسية المنتمية إلى فئة “بنشينغرن” (Benshengren)، وهم السكان الأصليون للجزيرة الذين يمثلون أكثر من 70% من سكان تايوان، والذين كانوا مهمشين نسبيًا خلال عقود حكم حزب “الكومينتانغ” القادم من البر الرئيسي.

طالبت هذه الفئة بإعادة تعريف موقع تايوان، ليس كمنطقة صينية، بل ككيان مستقل ذي هوية ثقافية وسياسية متميزة عن الصين. ورغم أن واشنطن أوقفت اعترافها الرسمي بتايوان، فإنها لم تتخلّ عن دعمها السياسي والعسكري لها، بل وظّفت الجزيرة كأداة استراتيجية لاحتواء بكين ومنعها من استكمال مشروع التوحيد الوطني.

شكّل هذا الدعم الخارجي عاملاً حاسمًا في تعزيز التيارات الانفصالية داخل تايوان، التي أصبحت تعتبر الولايات المتحدة الضامن الأول لاستمرار انفصالها الفعلي عن الصين.

في المقابل، تمسّكت بكين بخيار التوحيد السلمي، مستندة إلى “مبدأ الصين الواحدة” الذي يحظى باعتراف أممي واسع، وطرحت نموذج “بلد واحد بنظامين”، الذي يضمن لتايوان إدارة ذاتية موسعة ضمن السيادة الصينية.

غير أن النزعة الانفصالية، المدعومة من بعض الدوائر الغربية، ساهمت في تعقيد المشهد، لا سيما في ظل التصعيد المتكرر في مضيق تايوان وتكثيف التعاون العسكري بين واشنطن وتايبيه.

في العمق، لا يقتصر اهتمام الولايات المتحدة بتايوان على بعدها الجيوسياسي فحسب، بل يرتبط أيضًا بامتيازات استراتيجية واقتصادية هائلة تحوزها الجزيرة، ما يجعل منها رقعة لا يمكن التفريط بها في خريطة التوازنات الآسيوية.

تايوان: نقطة ارتكاز في التنافس الأمريكي الصيني الجيوسياسي والاقتصادي

برزت تايوان خلال العقود الأخيرة كموقع بالغ الحساسية في حسابات الصراع الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي في قلب شرق آسيا، بل لما تملكه من ثقل اقتصادي وتكنولوجي يجعل منها حلقة محورية في التوازنات الإقليمية والدولية.

ويعود الإصرار الأمريكي على منع بكين من بسط سيادتها على الجزيرة إلى جملة من الاعتبارات الاستراتيجية التي تجعل تايوان بمثابة جدار صدّ أول في مواجهة الطموح الصيني المتصاعد.

فعلى المستوى الجغرافي، يشكّل مضيق تايوان (فورموزا) ممرًا حيويًا في حركة التجارة العالمية، إذ يبلغ طوله نحو 180 كيلومترًا، ويمثل صلة وصل بين بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، ما يمنح الجزيرة موقعًا استراتيجيًا فريدًا في قلب المسارات البحرية الدولية.

واستعادة الصين للسيادة على تايوان ستمكّنها من التمدد البحري نحو الشرق بنحو 150 ميلاً إضافيًا، ما يُعزّز قدرتها على تعطيل العمليات الجوية والبحرية الأمريكية، ويقربها من سواحل اليابان، ويعرض المصالح العسكرية الأمريكية في جزيرة غوام والمحيط الهادئ للخطر.

من هذا المنطلق، ترى واشنطن في تايوان ليس مجرد حليف إقليمي، بل خط دفاع متقدم لحماية حلفائها شرق آسيا، وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية. وأي تراجع أمريكي عن دعم تايبيه سيُفسَّر كضعف في التزامها تجاه شركائها، ما من شأنه أن يزعزع الثقة بتحالفاتها التقليدية ويمنح بكين وروسيا فرصة أكبر لبناء نظام عالمي بديل تقل فيه الهيمنة الغربية.

أما اقتصاديًا، فتشكّل تايوان مركزًا عالميًا لصناعة أشباه الموصلات، وهي المكونات الحيوية التي تُغذّي الصناعات التكنولوجية المتقدمة. ووفق تقارير “تريند فورس” لعام 2021، تحتكر الجزيرة نحو 60% من سوق إنتاج هذه الشرائح الدقيقة، وتزود بها عمالقة التكنولوجيا في العالم، مثل آبل ونفيديا وكوالكوم. وقد أبرزت جائحة كوفيد-19 هشاشة سلاسل الإمداد العالمية عندما تسببت اضطرابات تايوانية في نقص حاد بالإلكترونيات.

وتخشى الولايات المتحدة أن يؤدي استحواذ الصين على هذا القطاع الحيوي إلى قلب موازين القوة الصناعية والتكنولوجية لصالح بكين، لذا سارعت إلى تطوير منشآت محلية لإنتاج أشباه الموصلات، بالإضافة إلى الضغط على تايبيه لتقييد انتقال المهندسين والخبرات إلى الصين. وتعتبر واشنطن أن فقدان السيطرة على هذا المورد لا يعني فقط خسارة اقتصادية، بل تهديدًا استراتيجيًا يضر بأمنها القومي ويزيد من نفوذ الصين الصناعي والعسكري.

لذلك، يتجاوز الصراع حول تايوان مجرد قضية انفصال سياسي، ليشكل واجهة لصراع أوسع بين نموذجين لنظام عالمي جديد، أحدهما تحاول واشنطن الحفاظ عليه، والآخر تسعى بكين لبنائه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق