أخبار العالمبحوث ودراسات

توجّهات الصّراع الدّولي الجديدة

اعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

تتميّز السياسة الدولية بالتجدد والتغير الدائم فليس هناك عناصر أو أدوات ثابته تحكم سيرورتها او تمشّيها باتجاه معيّن أو مجموعة من الاتجاهات الاخرى، وقد فرضت الحرب الباردة هذه الحقيقة، فشهد النظام الدولي تغيّرا كاملا في مختلف المستويات، حتى أنّ الاطراف لم تعد نفسها والموارد لم تعد المحرّك الوحيد للكسب وبلوغ الاهداف، فقد فرض عصر العولمة ذلك الغموض في خوض الصراع، لأننا لم نعد ندرك جيّدا بأي اتجاه ستتحرّك الامور في ظلّ التواتر السريع للأحداث.

كيف يمكن تحديد النظام الدولي الحالي ؟ و ماهي الاطراف و الاشكال الجديدة للصراع ؟

سمات النّظام الدّولي الحالي

يُعبّر مفهوم النّظام الدولي عن عدّة عناصر متشابكة ومتداخلة فيما بينها، أحيانا تكون متجانسة وأحيانا متنافرة، وهي تتفاعل فيما بينها وفقا لعديد المتغيّرات الناتجة عن تأثيرات خارجية أو داخلية، وبصفة عامّة فهو يلخّص العلاقات الدولية بكلّ ما تنطوي عليه من خصال وسمات معيّنة في فترة معيّنة.

تحتلّ هذه العناصر مراتب غير متساوية ومتباينة في النّظام لذلك قد يكون الصراع وعدم الثّبات سمة بارزة فيه، ويمكن اعتبار هذا الصراع والتغير تحدّيا مباشرا للعنصر المهيمن فيه (النّظام الدولي)، باعتبار انّ الصراع يعني عدم قبول هذا النهج الدولي ممّا سينجم عنه المساس بمصالح القوّة المهيمنة، لذلك ستسعى الاخيرة لاعتماد عديد الاستراتيجيات والاتجاهات حتى تحافظ على مكانتها ويخلّص ذلك السياسة الخارجية، وهذا ما تقوم به الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، حيث انّها تقوم ببناء مؤسسات اقتصادية وسياسية ومنظمات اقليمية أمنية مكرّسة ايديولوجيتها الليبيرالية، وهي بذلك تبني النّظام الدولي محيطة مصالحها بهذه المؤسسات التي تعتبر بمثابة الدرع الذي يحمي اهدافها ومصالحها.

ويعني ذلك، أنّ النّظام الدولي الحالي يقوم على الحفاظ على قوّة الولايات المتحدة الامريكية و هيمنتها باعتماده على آليات الهيمنة ( المؤسسات، القواعد العسكرية، التكنولوجيا .. ) التّي تمارس تأثيرا على على سلوك الدّول، و تمثّل بعض ردود الافعال تحديا واضحا للنّظام الدولي الذي يحمي منطق القطبية الاحادية، فشرعيّة النّظام الدّولي تُستمدُّ من تفكير الدول بأنّ مشاركتها فيه سيضمن لها الاستفادة، لكن هناك بعض العوامل التي يمكن لها أن تضعف القول بشرعيّة النّظام وهي الاختلافات الاقتصادية والايديولوجية والاجتماعية التي يجمع فيما بينها، فهو لا يعتبر كلاّ متجانسا، بل متكوّن من العديد من الوحدات، أي مجموعة من الانظمة الفرعية ذات المستويات والنّطاقات المختلفة، ويثير هذا الاختلاف الكبير مشكلة عميقة، بحيث كلما تعدّدت عناصر النّظام و أشكالها اختلفت تأثيراتها، ويكوّن ذلك تلك التّحديات المختلفة و المتباينة حسب المصالح والاهداف، وبالتالي سيتوجّب على السياسات الخارجية الامريكية أن تكون متناغمة مع كل مشكلة ناجمة عن كلّ نظام فرعي من النّظام الدولي، ولتحديد سياسات مستقبليّة أكثر استجابة لتطلعاتها تقوم الولايات المتحدة الامريكية بالتدقيق في مدى نجاعة آليات النّظام في الماضي وعلى ضوء ذلك يقع التغيير والاصلاح.

تعتبر قضيّة الهرمية الدولية في النّظام الدولي قضيّة تاريخية، اثّرت بعمق على السياسة الامريكية  واتجاهاتها و جعلتها متذبذبة ومتغيّرة، لكنّ ذلك لا ينفي وجود بعض السّمات الثابتة التي من أبرزها “مشروع فرض الهيمنة” ودعم فكر “القطبية الاحادية” إلى جانب اتجاه اخر وهو “المشاركة في صياغة النظام الدولي وقيادة العالم”، لأنّ الامور لن تتّجه دائما في صالح الولايات المتحدة الامريكية خاصّة في ظلّ التغير العميق في موازين القوة العالمية، وذلك يعني ظهورعناصر منافسة بالتاليسيكون هناك اضطرار الى تشريكها في القيادة ولن يجدي الصراع أي جدوى، أو على الاقل الصراع المباشر، في المقابل ستظهر عناصر قوى اخرى لن تكون مشاركة في النّظام أو يمكن القول بأنه ستكون هناك مجهودات لكبح قواها و تغييب أدوارها وسيكون الصراع معها مباشرا .

وبالتالي فإنه يمكن القول بأنّ النّظام الدولي مقترن بعنصرين رئيسيين و هما فرض “القوة” و”الصراع” على حساب “التعاون” و”التشارك” و”تنظيم الادوار” .

إنّ العناصر الفرعية في النّظام الدولي لن تكون بمعزل عن الصراعات بين عناصر القوى الكبرى، بحيث ستتأثر وتنتج عوامل اخرى تؤثر بدورها على العلاقات بين هذه العناصر الفاعلة فيه، لذلك فإن خاصية العزلة صعبة التّحقق في النظام الدولي الحالي، حيث أنّ جميع الابعاد والمجالات تتداخل، لكن درجة التأثير والعلاقات ليست  بنفس الدرجةومثال على ما تمّ ذكره، هو التداخل الحاصل بين الابعاد المحلية والدولية، كما أنّ اتجاهات الصراع في النّظام الدولي ليست خاضعة لمبدا النّظام أو التناسق فهي واسعة النطاق .

وتوجدعلاقة حتمية بين ثلاث متغيّرات، وهي التغير الدائم لأطراف القوة وسرعة انتشارها على المستوى العالمي، تحوّل أسباب الصّراع وبالتالي اتجاهاته، و التحول الذي يمكن أن يحصل في الهرمية الدولية. كلّ هذه العناصر غير ثابته ومتحوّلة، فتغير القوى العالمية سيؤثّر على مناطق انتشارها نظرا في أنّ المصالح و الايديولوجية والاهداف ليست نفسها، بالتالي فإن مضامين الصراع ستكون أيضا مختلفة.

كما تصبح القوى الدولية فاعلة في النّظام الدولي نتيجة اكتسابها لعناصر القوّة، وتؤثّر الاخيرة بدورها على سلوك الدول وطريقة تفاعلها فيما بينها، و يمكن ان تكون هذه العناصر مادية أو غير مادية، داخلية أو خارجية … وتكمن الأهمية القصوى في مدى اكتساب دولة ما العناصر المشكّلة لقوتها الدولية مقابل ضعف تواجدها لدى دولة اخرى، وهذا التباين في توزعها هو المشكّل الرئيسي للصراع. لكن هناك بعض الدول التي لا تحتل مرتبة القوة العالمية رغم اكتسابها للعناصر الجديرة بتمكينها من ذلك، وهنا فإنّ القدرة على الاستغلال والتوظيف وفقا لعديد المتغيرات أو بما يمكن أن نصفها بالمكتسبات هي التي تُحدث الفرق وتلعب الدّور الأهم، كالعامل التكنولوجي أو خارطة التحالفات، بالتّالي فإن امتلاك عناصر القوة لا يؤدي ضرورة لتصدّر الهرمية الدولية .

تغيّر شكل الصراع الدولي و مضامينه

أصبح الاتجاه الغالب في الصراع بين أطراف النّظام الدولي، هو اعتماد القوة الناعمة، توظيف المشاريع والمحاربة بالعلاقات والتحالفات والمساومة والتهديد وكذلك استخدام نظام العقوبات والتضييق، توظيف القوة النووية للتخويف، التحريض…  مع عدم اللجوء الى القوة العسكرية الا في الحالات القصوى، وهو ما يمكن تسميته التحول من استخدام القوة التقليدية الى الغير تقليدية، من خلال التّركيز على استغلال التكنولوجيا المعرفة، المال والاعلام وغيرها من العناصر الاخرى التي تلعب دورا هامّا في التأثير.

كمالم تعد عناصر القوة حكرا على عدد قليل من الدول أو هدفا صعب المنال، بل عملية انسياب هذه القوة من دولة الى اخرى اصبح أمرا أقل صعوبة، وهو ما يضفي سمة التغير وعدم الثبات في النظام الدولي، حيث خرج النّظام العالمي اليوم من الشكل التقليدي للصراع، و دخل في أوج الصراع “المعولم”، أي لا توجد نهايات واضحة ويمكن لقوى صغيرة الظهور في النظام الدولي على حساب القوى الكبرى نتيجة سوء استغلال عناصر القوة لمواردها، و ينطبق ذلك على الولايات المتحدة الامريكية بحيث عملت قديما على الحفاظ على مكتسباتها العسكرية وأتاحت الفرص لدول اخرى على غرار روسيا و الصين في بناء كيانها في ذلك الوقت.

أمّا بعض القوى الصغيرة، فقد اتجهت الى خلق مناطق نفوذ اقليمية وتعارضت مع الولايات المتحدة الامريكية في مناطق النفوذ الكبرى مما أدّى الى احتدام الصراع و خلق حرب باردة، بالتالي فإنّ العولمة قد أثرت بشكل كبير على النظام الدولي نتيجة عدم وجود مجالات ثابته للصراع، حيث أصبح التنافس إقليميا وأثّر ذلك بدوره على المجال المحلي.

و من تداعيات العولمة، اختفاء تلك الحدود التقليدية وسير الاحداث بطريقة سريعة إلى جانب تعدّد أطراف التفاعل في النّظام الدولي، حيث لم تعد تقتصر على العناصر التقليدية الواضحة، كما لم تعد الحروب العسكرية تحكم صراعات أطراف النّظام، و يكمن ذلك نتيجة عجز الاخيرة على تحمل تداعيات هذا النوع من الحروب، لكن العالم يتجه أكثر فأكثر نحو الحروب بالوكالة، و الاهم في ذلك هو سعي  القوى العالمية الى الاستغلال المفرط للتكنولوجيا في تطوير اسلحتها والخوض في حرب المعلومات.

ونتيجة لذلك برزت قوى جديدة في النظام الدولي، حيث لم نعد نتحدّث فقط عن دول تحتل مراكز القوى على المستوى العالمي، بل كذلك عن تنظيمات ارهابية وجهادية دخلت المشهد الدولي وصارت تؤثر بطريقة كبيرة على سياسات القوى العالمية وحتى في علاقاتها فيما بينها، إلى جانب أطراف اخرى تسعى لبلوغ صفة الدولة وهو ما يمكن تبيّنه في الحركات الساعية للانفصال، أمّا القوى الاقليمية فلها دور شديد الاهمية، حيث أنها لعبت دورا كبيرا في تشتيت القوى العالمية وإفشال مخطّطاتها في الكثير من الاحيان وذلك باعتمادها استراتيجية تعطيل قدرة الطرف الاقوى على استغلال عناصر قوّته، وحدث ذلك كثيرا مع الولايات المتحدة الامريكية، حيث وجدت نفسها في عديد المواقف غير قادرة على اتمام خطتها في الشرق الاوسط نتيجة ضغوطات ايران، وكان لروسيا أيضا دور بارز في تعطيل الولايات المتحدة الامريكية في العديد من الملفات على غرار الملف السوري، فرغم الاختلاف الكبير في القدرات والامتيازات والقوى، إلا أنّ العديد من اللاعبين في النظام الدولي الذين لهم قدرات محدودة كان لهم استراتيجيات فاعلة ومثّلو منافسا شرسا للقوة العالمية، وتشتغل هذه الاستراتيجيات بآليات جديدة تماما ومختلفة عن الاستراتيجيات التقليدية المتركّزة على القوة العسكرية.

ونستخلص إذا بأن الصراع لم يعد تقليديا أي بين دولتين، فقد أصبح النظام العالمي يحتمل عدّة عناصر مختلفة ومتباينة، كما أصبح التنافس عابرا لكل المجالات ولم تعد عناصر القوة التقليدية بتلك الجدوى التي كانت عليها سابقا، فقد ظهرت عناصر اخرى تمتلكها أطراف محدودة القوى توظّفها لصالحها ضدّ القوى الكبرى، و يبرز ذلك سير النّظام الدولي نحو التعددية القطبية وبروز عوامل قوّة اخرى مختلفة تماما عن القوة العسكرية ولها قدرة على الانتشار بصفة كبيرة جدا، ويقود ذلك الى تداخل كبيرة بين ما هو دولي، إقليمي، ومحلي نتيجة تقاطع المصالح بين مختلف الاطراف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق