تكتل “بريكس”: قوة اقتصادية ناشئة تعيد تشكيل النظام العالمي
إعداد صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 24-10-2024
تشكل مجموعة “بريكس” واحدة من أهم التكتلات الاقتصادية في العالم، وهي تضم خمس دول ناشئة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. تأسست المجموعة عام 2009، وسعت منذ إنشائها إلى تحقيق توازن جديد في الاقتصاد العالمي، بعيدًا عن هيمنة الدول الغربية الكبرى التي لطالما سيطرت على المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ويشير اسم “بريكس” إلى الأحرف الأولى من الدول الأعضاء، وقد كان التكتل في بداياته يضم أربع دول فقط (البرازيل وروسيا والهند والصين)، قبل أن تنضم جنوب أفريقيا إليه في عام 2010. ورغم تباين نظم الحكم واختلاف السياسات الاقتصادية بين هذه الدول، فإن ما يجمعها هو الطموح المشترك لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية وكسر الهيمنة الاقتصادية التي فرضها الغرب عبر عقود طويلة.
كيف يمكن لمجموعة “بريكس” تحقيق توازن فعلي في النظام المالي العالمي في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها الدول الأعضاء؟
من رؤية اقتصادية إلى مشروع سياسي متكامل: انطلاق فكرة “بريكس“
برزت فكرة إنشاء تكتل “بريكس” في بداية الألفية الثالثة، في فترة كانت تشهد فيها كل من البرازيل، روسيا، الهند، والصين تحولات اقتصادية واسعة النطاق. كان العالم وقتها قد بدأ يلاحظ انتقال القوة الاقتصادية تدريجيًا من الغرب إلى هذه الدول النامية التي تمثل، في ذلك الوقت، نحو نصف سكان العالم. عام 2001، قدم الخبير الاقتصادي “جيم أونيل” فكرة طموحة تستند إلى تقديرات دقيقة، أشار فيها إلى أن هذه الاقتصادات الأربع ستتبوأ مراكز القوى العظمى بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، اعتمادًا على مجموعة من العوامل المتداخلة.
أول هذه العوامل كان النمو السكاني السريع الذي شهدته هذه الدول، حيث ازداد الطلب الداخلي على السلع والخدمات، ما أدى إلى توسع الأسواق المحلية بشكل غير مسبوق. ثانيًا، جاء التحسن في مناخ الاستثمار الأجنبي، حيث أصبحت هذه الدول وجهات مفضلة للمستثمرين العالميين بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها، والتي شملت تحرير الأسواق، تحسين التشريعات، وتسهيل تدفق رأس المال. ثالثًا، ارتبط هذا النمو بتطور ملحوظ في الصناعات التكنولوجية والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، حيث بدأت هذه الدول في الابتعاد عن الاعتماد التقليدي على الصناعات الأولية نحو اقتصاد متنوع ومبتكر.
ورغم أن البداية الرسمية لتكتل “بريكس” جاءت مع أول قمة جمعت الدول الأربع في عام 2009، إلا أن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين هذه الدول قد اكتسبت مع مرور الوقت طابعًا أكثر تنظيمًا وعمقًا. فالتكتل لم يعد يقتصر على القضايا الاقتصادية فحسب، بل امتد ليشمل تنسيقًا واسعًا في العديد من الملفات السياسية والاستراتيجية التي تتصدر المشهد العالمي. فعلى سبيل المثال، كانت قضايا إصلاح النظام المالي الدولي في قلب اهتمام “بريكس”، حيث سعت الدول الأعضاء إلى تغيير قواعد العمل داخل المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، معتبرة أن هذه المؤسسات لا تعكس التوازنات الاقتصادية الجديدة في العالم.
إلى جانب ذلك، برزت قضايا التغير المناخي والأمن الغذائي والطاقة كمواضيع محورية داخل “بريكس”. وقد دفع التعاون في هذه الملفات الدول الأعضاء إلى تبني رؤى مشتركة حول التنمية المستدامة وإدارة الموارد بشكل أكثر عدالة، بعيدًا عن الهيمنة التقليدية للقوى الغربية. هكذا، تحولت “بريكس” من مجرد فكرة اقتصادية إلى مشروع متكامل يسعى إلى إحداث تغيير عميق في النظام العالمي، واضعًا نصب عينيه تحقيق التوازن بين مصالح الدول النامية والاقتصادات المتقدمة.
تكتل “بريكس” يعيد رسم ملامح القوة الاقتصادية العالمية
تسعى مجموعة “بريكس” إلى إعادة تشكيل ملامح القوة الاقتصادية العالمية، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها. يُعتبر هذا التكتل الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا قوة اقتصادية رئيسية، حيث يشكل نحو 42% من سكان العالم ويساهم بحوالي 24% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويُبرز هذا الرقم أهمية المجموعة الاستراتيجية في صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي.
كما يعزى بقاء “بريكس” وقدرتها على الاستمرار إلى ما تقدمه من بديل للتكتلات الاقتصادية التقليدية التي تهيمن عليها الدول الغربية. في ظل عدم رضا الدول النامية عن نظام اقتصادي عالمي يتجاهل حاجاتها وتطلعاتها، باتت “بريكس” تقدم منصة لتعاون متعدد الأطراف يسعى إلى تحقيق توازن أكبر في السلطة الاقتصادية. في هذا السياق، تشير الأرقام إلى نمو مستمر في تأثير المجموعة، حيث تنظم لقاءات دورية تهدف إلى تنسيق سياساتها الاقتصادية والمالية لمواجهة التحديات العالمية من منظور جماعي بدلاً من الفردي.
وتعكس نجاحات “بريكس” في جذب الانتباه الدولي، وخاصة من الدول التي تبحث عن شراكات بديلة بعيدًا عن الغرب، الدور المتنامي لهذا التكتل في بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وفي عام 2023، شهدت المجموعة توسعًا نوعيًا عبر استقطاب عدد من الدول الطموحة الراغبة في الانضمام إليها أو إقامة شراكات استراتيجية معها، مثل إيران والأرجنتين والمملكة العربية السعودية. هذا التوسع المحتمل لا يعكس فقط الجاذبية المتزايدة لـ”بريكس”، بل يدل أيضًا على رغبة متزايدة من دول أخرى في البحث عن ترتيبات اقتصادية غير تقليدية تعزز استقلالها الاقتصادي وتقلل من تبعيتها للأنظمة التي تسيطر عليها القوى الغربية. كما يعكس هذا التوسع تحولًا في المشهد الدولي، حيث تسعى الدول النامية إلى إيجاد طرق جديدة للتعامل مع التحديات الاقتصادية العالمية بعيدًا عن الاعتماد المفرط على مؤسسات التمويل الغربية. وبالتالي، من المتوقع أن تتعزز مكانة “بريكس” كقوة اقتصادية وسياسية قادرة على التأثير في صنع القرار الدولي.
وتتجاوز جهود التعاون في “بريكس” المجال الاقتصادي فقط، حيث تشمل مجالات استراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والتجارة الإلكترونية. وتعمل المجموعة على استثمار طاقاتها الاقتصادية والمالية لتعزيز التعاون في هذه القطاعات المهمة، حيث يمكن لتعاون أعضائها أن يساهم في تحسين قدراتهم التكنولوجية والبيئية، وتطوير قطاعات متقدمة تسهم في تحسين الاقتصاد العالمي.
ومن خلال تطوير شبكات التعاون الاقتصادي والسياسي، تُظهر “بريكس” رغبة قوية في تعزيز نفوذها خارج إطار الدول الأعضاء، حيث تسعى إلى إقامة علاقات متينة مع دول صاعدة أخرى.
ويسهم هذا النهج في بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، مما يسمح بمزيد من التوازن في القوة الاقتصادية والسياسية، ويقلل من الاعتماد المفرط على الهيمنة الغربية في مجالات التمويل والتجارة.
مع توسع دور “بريكس” في الساحة الدولية، تزداد الآمال في قدرتها على تشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد يعتمد على مبادئ التعددية والعدالة. كما تطمح الدول الأعضاء إلى إحداث تغيير جذري في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بهدف تعزيز تمثيل الدول النامية داخل هذه المؤسسات، وضمان اتخاذ القرارات بشكل أكثر شفافية وعدالة. من الأهداف الاستراتيجية التي تتطلع إليها “بريكس” أيضا هي تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في المعاملات التجارية والمالية الدولية، حيث تُعتبر هذه الخطوة إحدى أدوات التغيير الجذري في النظام المالي العالمي.
ويمكن أن يسهم تخفيف الاعتماد على الدولار في خلق توازن أكبر في التجارة العالمية، ويقلل من تأثير السياسات المالية الغربية على الاقتصادات الناشئة.
إذا نجحت “بريكس” في تحقيق هذه الطموحات، فقد نشهد تحولًا حقيقيًا في طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية. ومن المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة المزيد من التحالفات الاقتصادية والسياسية التي ستتشكل حول هذا التكتل، حيث تسعى دوله إلى إنشاء نظام عالمي يوفر فرصًا أكبر للدول النامية للتأثير في السياسات الدولية المتعلقة بالتجارة والاستثمار والتنمية. وتتجلى أهمية هذه التطورات في كونها تمثل استجابة استراتيجية للتحديات الراهنة، مما يجعل “بريكس” لاعبًا محوريًا في تشكيل مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.
بريكس” وتحديات إعادة تشكيل النظام المالي العالمي
منذ نشأتها، سعت مجموعة “بريكس” إلى إحداث تغييرات جذرية في قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية، مستهدفة الهيمنة الغربية المستمرة على المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. سيطرت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، على القرارات الاستراتيجية داخل هذه المؤسسات، مما أتاح لها تحديد السياسات التي تفضل مصالحها الاقتصادية والسياسية. ومع صعود الاقتصادات الناشئة في العالم، خاصة تلك التي تمثلها دول “بريكس”، شعرت المجموعة بالحاجة إلى إعادة هيكلة هذه المؤسسات لتكون أكثر عدالة، وتعكس بشكل أفضل توزيع القوى الاقتصادية في العالم الحديث.
أولى خطوات “بريكس” على هذا الصعيد تمثلت في إعادة تشكيل النظام المالي العالمي عبر إطلاق “بنك التنمية الجديد” في عام 2014. هذا البنك لم يكن مجرد مؤسسة مالية أخرى، بل جاء كبديل موجه خصيصًا لخدمة مصالح الدول النامية، من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة. وجاءت هذه المبادرة لتقديم حلول مالية بعيدة عن شروط التمويل الصارمة التي عادة ما تفرضها مؤسسات التمويل الغربية على الدول النامية، ما وفر للدول الأعضاء والدول النامية الأخرى آلية تمويل مستقلة تعزز من قدرتها على النمو دون التبعية للغرب.
لم تتوقف جهود “بريكس” عند هذا الحد، ففي عام 2015، قامت المجموعة بإطلاق “ترتيبات الاحتياطي الطارئ”، وهو نظام مالي احتياطي يستهدف تقديم الدعم المالي للدول الأعضاء في حال وقوع أزمات مالية مفاجئة. هذه الآلية تمثل محاولة لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، الذي لطالما هيمن على المعاملات التجارية والمالية العالمية، كما تعد خطوة جريئة نحو إنشاء نظام مالي عالمي أكثر تنوعًا واستقلالية، يتيح للدول الأعضاء مساحة أكبر من الحرية في إدارة اقتصاداتها.