انهيار الرأسمالية: بين فوضى السوق واستدعاء الدولة

إعداد قسم البحوث والدراسات الاستراتجية 22-10-2025
يرى أولريش شيفر أن الرأسمالية المعاصرة وصلت إلى مرحلة حرجة من تاريخها؛ مرحلة يتهددها الانهيار من الداخل نتيجة إفراطها في التحرر من القيود الأخلاقية والسياسية.
فبعد ثلاثة عقود من سيطرة اقتصاد السوق الحر الذي أُطلق من عقاله منذ سبعينيات القرن الماضي، تكشفت الأزمات واحدة تلو الأخرى: من الانهيارات المالية إلى اتساع الفجوات الاجتماعية، ومن تفكك العقد الاجتماعي إلى فقدان الثقة في الدولة.
ويُقدِّم شيفر تشخيصًا حادًا: “إما أن تنجح الرأسمالية في تجديد نفسها من الجذور، وإما أنها ستنهار وتصبح من مخلفات التاريخ”.
المحاور الرئيسية لكتاب انهيار الرأسمالية: بين فوضى السوق واستدعاء الدولة
-
اقتصاد بلا كوابح: من الحرية إلى الفوضى
يفتتح المؤلف بنقد جذري لما يسمى بـ اقتصاد السوق المحرَّر من القيود، الذي نشأ بفعل السياسات النيوليبرالية التي بشّر بها فريدمان وريغان وتاتشر.
تحولت الحرية الاقتصادية من وسيلة للابتكار والنمو إلى ذريعة لتغوّل رأس المال، حيث غابت الرقابة، واحتُكرت الأسواق، وتراكمت الثروات في يد أقلية.
يشير شيفر إلى أن هذه المرحلة شهدت تراجع الدولة عن وظائفها الأساسية، فتنازلت عن الضبط والعدالة لصالح “السوق الحكيم”— الذي أثبت أنه أكثر الأنظمة حماقةً حين يُترك بلا ضوابط.
-
الأزمة المالية العالمية
يرى شيفر أن أزمة 2008 لم تكن حادثًا عارضًا، بل كانت نتيجة منطقية لبنية رأسمالية تعتمد على الديون، المضاربات، والربح السريع.
المال عن الإنتاج، فأصبحت الثروة تولّد الثروة بلا عمل، بينما يدفع المواطن العادي ثمن كل انهيار.
ويعتبر المؤلف أن هذه الأزمة كشفت الزيف الأخلاقي الذي تستند إليه الرأسمالية المعاصرة:
“الأسواق التي تزعم أنها عقلانية، هي في الحقيقة مدفوعة بالجشع والخوف، لا بالحكمة والعقل”.
-
الدولة بين الغياب والضرورة
ينتقل شيفر هنا إلى طرحٍ تصحيحي: لا خلاص إلا بعودة الدولة إلى دورها الطبيعي، ليس كخصمٍ للسوق، بل كمنظّمٍ لها.
فالدولة مطالبة بأن تضع حدودًا للأسواق من دون أن تشل قواها، وأن تمنح المواطنين الأمان والثقة من غير أن تتحول إلى سلطة وصاية.
يدعو المؤلف إلى إحياء فكرة الدولة الاجتماعية التي توازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وإلى ترسيخ مبدأ أن: “الاقتصاد يعمل داخل الإطار الذي ترسمه الدولة، لا أن ترسم الدولة إطارها داخل حدود السوق”.
-
القيم المفقودة: أخلاق السوق الجديدة
يُرجع شيفر أصل الأزمة إلى انهيار المنظومة القيمية التي كانت تضبط حركة الاقتصاد.
فالرأسمالية، حين فقدت التزاماتها الأخلاقية تجاه المجتمع، انزلقت إلى عبادة الربح على حساب الإنسان والطبيعة.
ولهذا يرى أن الإصلاح الحقيقي لا يكون تقنيًا أو سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا وثقافيًا قبل كل شيء.
“من دون أخلاق مشتركة، لا يمكن للسوق أن تظل حرة، ولا للمجتمع أن يظل إنسانيًا”.
-
نحو رأسمالية متجددة: طريق الإصلاح الممكن
لا يدعو المؤلف إلى إسقاط الرأسمالية بالكامل، بل إلى تجديدها من الداخل.
إن الحل يكمن في صيغة جديدة من اقتصاد السوق الاجتماعي، يكون فيه الربح في خدمة الإنسان لا العكس.
ذلك يستدعي:
- فرض رقابة فعالة على البنوك والأسواق المالية.
- إعادة توزيع عادل للثروة والفرص.
- الاستثمار في التعليم والبحث العلمي.
- تعزيز الشفافية والمساءلة.
“إذا أرادت الرأسمالية البقاء، فعليها أن تتعلم التواضع، وأن تعيد اكتشاف الإنسان الذي تجاهلته”.
الخلاصة العامة
يسلّط أولريش شيفر الضوء على مشكلة الحضارة الغربية الحديثة: تحوّل السوق من أداةٍ لخدمة الإنسان إلى سيّدٍ يتحكم بمصيره.
فما لم تُستعد الدولة دورها كضامن للعدالة والكرامة، وما لم تُستعد الأخلاق إلى قلب الاقتصاد، فإن الرأسمالية تتجه نحو نهايتها المحتومة.
الكتاب ليس دعوة إلى الاشتراكية، بل إلى عودة التوازن بين الحرية والمسؤولية، بين الربح والمصلحة العامة.
إنه نداءٌ لإحياء الدولة العاقلة، التي تعرف كيف تحدّ من السوق دون أن تُقيد ديناميكيتها، وتعرف كيف تحمي الإنسان من أن يتحول إلى رقم في معادلة الربح.