طبيعة المثقّف العضوي والمثقّف التقليدي داخل الدولة

27/11/2025
إعداد: صبرين العجرودي
أثار مفهوم “المثقف” الكثير من الجدل في الفترات السابقة التي تزامنت مع الفترات الاستعمارية وهيمنة الرأسمالية على السلطة، وقد اشتد النقاش حوله خاصة بعد تحقيق الشعوب لاستقلالها، نظرًا لدوره الجوهري وتأثيراته الكبيرة في أنظمة الحكم وفي الشعوب وفي مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، خاصة منها الجانب المتعلق بالسلطة والسياسة.
ويجدر القول بأنّه لا يمكن حصر مفهوم المثقف ضمن زاوية واحدة أو الإقرار بوجود نموذج واحد يجمع بين كلّ المثقفين، ذلك لأنه في الفترات ما بعد الاستعمارية ومع ظهور الثورات الفكرية، تفكّك مفهوم المثقّف وفقًا لدوره وغاياته وطبيعته في المجتمعات، فلم نعد نتحدّث عن تأثير موحّد يجمع بين كلّ المثقفين.
يعتبر “أنطونيو غرامشي” من الفلاسفة الماركسيين (الذين يحلّلون المجتمع تحليلاً طبقياً) الذين سلّطوا الأضواء كثيرًا على هذا المفهوم، ويرتبط المثقف بالنسبة له ارتباطًا وثيقًا بـ”الدولة” و”الهيمنة”، إذ لا يمكن فهم سمات المثقف وخصائصه وما يضطلع به من أدوار داخل المجتمع بمعزل عن المفهومين السابق ذكرهما، لأنه يمثّل عنصرًا فاعلًا في الدولة، وتتشابك علاقته بالهيمنة والرأسمالية، فنجد المثقف المنصهر عضوياً في قضايا مجتمعه، وذلك المنشغل بأنشطته بعيدًا عن هموم الطبقات المهمّشة.
وباعتبار أن غرامشي من الفلاسفة الماركسيين، سنقوم أوّلًا بتوضيح الرؤية الماركسية للمجتمع وكيف يتبنّى غرامشي جزءًا هامًا منها، وذلك سيحملنا بالضرورة إلى تسليط الأضواء على وظيفة المثقّف العضوي والمثقف التقليدي، ممّا سيبيّن أوجه الاختلاف بينهما.
المنظور الطبقي للمجتمع
يسلّط الفيلسوف وعالم الاجتماع “كارل ماركس” الضوء على الصراع الطبقي، معتبرًا إياه من أهم السمات المميّزة لطبيعة المجتمعات، ويقسّمه إلى طبقتين دون سواهما: الطبقة الرأسمالية القريبة من وسائل الإنتاج (من يملكون الثروة) والطبقة العاملة (من لا يملكون الثروة وليس لهم القدرة على ذلك).
فمثلًا، هناك فرق كبير بالنسبة له بين أصحاب الأراضي والعاملين فيها (الفلاحين)، وبين أصحاب المصانع والعمّال، إذ ينتج عن هذا الاختلاف حدوث صراع في نظام الإنتاج الاجتماعي ككل.
والفرق الكامن بين “كارل ماركس” و”فلاديمير لينين” هو أن الأول يقسّم المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين، الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة غير المالكة لهذه الوسائل، في حين يرى الثاني أن المجتمع ينقسم إلى مجموعة طبقات. ويجدر القول أنّ ذلك لا يلغي وجود الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، لكن تتواجد فيما بينهم مجموعة من الطبقات الأخرى التي تشغل مواقع مختلفة من نظام الإنتاج الاجتماعي ووسائل الإنتاج، وتعكس طريقة تحصيلها للثروة المكانة التي تحتلها في المجتمع.
ويجدر القول إنّه مع الفكر اللينيني القائل بوجود عديد الطبقات الاجتماعية المتباينة فيما بينها، فإن حدّة الصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ستكون منخفضة، لكن إذا ما تقيّدنا بالفكر الماركسي المقرّ بوجود طبقتين فقط، فإن التوتر بينهما سيكون في أعلى مستوياته بقدر الفارق الكبير في توزّع الثروة بين هاتين الطبقتين.
الطبقية في المجتمعات الحديثة
تعتبر المجتمعات البدائية خارج المنظور الطبقي للمجتمع، فباعتبار أن ماركس يرى أنّ وسائل الإنتاج هي المؤدية لظهور الطبقات الاجتماعية وتحدد موقعها من نظام الإنتاج الاجتماعي وتحصيل الثروة، فإن ضعف الإنتاج في الفترات البدائية لا يمكنه أن يؤدي إلى تراكم الثروات لدى فئة معيّنة مقابل ضعفها لدى أخرى، والمقصود بذلك هو غياب تام لمفهوم الملكية الخاصة.
ومع تطور وسائل الإنتاج وارتفاع الإنتاجية، أصبح للأفراد القدرة على الامتلاك والتحكم في الإنتاج وتقسيم العمل وتحقيق الأرباح، ممّا أدى إلى ظهور الطبقة الاجتماعية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، وأصبح الصراع هو السمة الأساسية المميّزة للمجتمعات المعاصرة، فبمجرّد أن ظهرت طبقة لها القدرة على الامتلاك والتحكم في نظام الإنتاج مقابل وجود طبقة أخرى تعمل لحساب هذه الطبقة المهيمنة على وسائل الإنتاج، خرجت المجتمعات من شكلها الموحّد غير المتمايز، لتظهر بعناصرها الجديدة المتناقضة المفضية للصراع.
بالتالي نستخلص في هذا الجزء بالقول إنّ تقسيم المجتمعات في الفكر الماركسي مرتبط أساسًا بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، حيث يلعب هذا العنصر دورًا رئيسيًا في تحديد الطبقات الاجتماعية ومختلف وظائفها، كما يؤدي إلى بروز الصراع جرّاء التناقضات الواسعة بين الطبقة المهيمنة على نظام الإنتاج الاجتماعي والطبقة المُهيمن عليها التي تعمل لحساب مالكي وسائل الإنتاج.
ويجدر القول إنّ الفكر الماركسي لا يتمحور فقط حول الجانب الاقتصادي، باعتبار أنّه يصنّف فئات المجتمع على أساس اكتساب وسائل الإنتاج، بل يعتبر أنّ بداية الهيمنة تنطلق ضرورة من الجانب الاقتصادي لتشمل فيما بعد جوانب أخرى، فتتكوّن الهيمنة السياسية والقانونية والعسكرية.
الدولة كجهاز سيطرة على التناقضات الطبقية
اعتبر ماركس أنّ ظهور الطبقات الاجتماعية ارتبط بتطور المجتمعات وظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ويرتبط مفهوم الدولة لدى ماركس ارتباطًا وثيقًا بهذه الطبقية الاجتماعية، أو تحديدًا يمكن القول إنّ وجود الدولة ليس إلا نتيجة الصراع بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، أي أنّنا لا نستطيع الحديث عن دولة في المجتمعات البدائية لأن انعدام الطبقية ووسائل الإنتاج فيها لا يستوجب ذلك العنصر المنظّم والقاهر.
ومن هنا يمكننا توضيح مفهوم الدولة في الفكر الماركسي بأنها ليست بمعزل عن المجتمعات المتطوّرة، بل إنّها نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، فكلما احتدّ الصراع الطبقي بين أصحاب المصالح الاقتصادية ودخلت المجتمعات في حالة عميقة من التناقضات والفوضى، زادت الحاجة إلى ظهور الدولة كقوة تنظيم وسيطرة على هذه الأوضاع، بالتالي فإن هذه الدولة وليدة مجتمع تطوّر داخله نظام الإنتاج الاجتماعي ليفضي إلى طبقات مهيمنة وأخرى خاضعة تتصارع فيما بينها لتجعل المجتمع متداخلًا، متناقضًا، وغير منظّم… ليبرز مفهوم الدولة بدوره التنظيمي.
الدولة عنصر هيمنة لصالح الرأسمالية
رغم أنّ الدولة تضطلع بدور السيطرة على صراعات المجتمع، إلا أنّها لا تتموقع بموضوعية بين الطبقات، ويعني ذلك أنّ الطبقة البرجوازية هي التي تمارس هذا الدور التنظيمي في كنف الدولة وتمثّل أهم عناصرها، أي الأقوى اقتصاديًا هو من يحافظ على استقرار المجتمع ويقمع كل الحركات الثورية للطبقة العاملة الساعية نحو تغيير الأوضاع لصالحها، بالتالي فإن الدولة ليست إلا أداة تعمل لصالح الطبقة الأقوى.
ارتبط ظهور الدولة بالحاجة إلى قوة تضبط الفوضى القائمة نتيجة الصراعات بين الطبقات الاجتماعية، وتقوم الطبقة العاملة بتحريك أسباب الفوضى ضدّ الطبقة الرأسمالية المهيمنة على وسائل الإنتاج والتي تقوم باستغلالهم، لذلك فإن وظيفة الدولة ودواعي ظهورها هي قمع الفوضى التي تقوم بها الطبقة الكادحة ضدّ الطبقة المهيمنة، وبالتالي فهي تسعى لضمان استقرار الأوضاع لصالح البرجوازيين الذين بدورهم يمثلون هذه الدولة، نظرًا لأن الهيمنة الاقتصادية تبيح لهم كافة الأشكال الأخرى من الهيمنة، والتي على رأسها الهيمنة السياسية (عن طريق الدولة تصبح الطبقة المهيمنة اقتصاديًا مهيمنة سياسيًا)، وبالتالي تظهر وسائل أخرى للهيمنة خلافًا للوسائل المعهودة (وسائل الإنتاج). وباختصار، الدولة هي أداة تضمن استمرار هيمنة الطبقة البرجوازية على الطبقة العاملة.
الدولة في الفكر الغرامشي بين القمع والأيديولوجيا
يعتبر ماركس أنّ الدولة هي أداة أو جهاز لمراقبة المجتمع، بحيث تضطلع العناصر الحكومية البرجوازية بهذا الدور الرقابي. غير أنّ “غرامشي” لا يقرّ بأن هذه الوظيفة الرقابية حكر على الطبقة السياسية فحسب، بل يسلّط الضوء على المجتمع المدني، ويعتبر أنّ السيطرة على الصراعات هي وظيفة يقع تأمينها من العناصر المدنية والحكومية معًا. بالتالي، يتشكّل مفهوم الدولة بالنسبة لغرامشي من نصفين مختلفين: أحدهما حكومي له وظائف قمعية تهدف إلى السيطرة على الأوضاع وتكريس الشكل البيروقراطي لمؤسسات الدولة، والآخر مدني أيديولوجي تُكوّنه الأحزاب ومختلف المؤسسات الاجتماعية (المؤسسة الإعلامية، المؤسسة التعليمية، المنظمات، النقابات، الأحزاب، الجمعيات…)، وتضطلع هذه العناصر بدور أيديولوجي سياسي، وهو مختلف تمامًا عن مفهوم السيطرة الحكومية ووظائف الهيمنة القمعية. تكوّن عناصر المجتمع المدني بذلك نسقًا اجتماعيًا متكاملًا من العلاقات والتفاعلات التي تمارس نوعًا مغايرًا من السيطرة السياسية والقانونية، ليست كالسيطرة الحكومية (الديكتاتورية).
تتمثل الوظيفة الرئيسية للمجتمع المدني في نشر الأفكار والمبادئ والقيم الخاصة بطبقة معينة، بحيث يبرز صراع آخر إلى جانب الصراع الطبقي: صراع بين عناصر المجتمع المدني الساعية لكسب التأييد الجماهيري لصالح طبقة محددة. فمثلاً، تسعى بعض الوسائل الإعلامية من المجتمع المدني إلى كسب تأييد جماهيري من خلال العمل الدعائي لأيديولوجية نظام سياسي معيّن، كما يمكن أن تعمل الأحزاب والمنظمات والجمعيات لصالح فكر محدد عبر إقناع الجمهور بأن الوضع الذي يمر به المجتمع سليم وأن سياسات الدولة ديمقراطية (الإقناع بوضع الهيمنة).
يعتبر الفكر الماركسي أنّ الدولة أداة تفرض بها الطبقة المهيمنة سيطرتها وتساهم في ديمومتها، في حين يرى غرامشي أنّ الطبقة المهيمنة قد تلجأ أحيانًا إلى تهدئة الأوضاع وترويض الصراعات من خلال التحالفات والمشاريع المشتركة للحفاظ على استقرارها كطبقة مسيطرة سياسيًا. بالتالي، فإن مفهوم الدولة بالنسبة له أعمق من كونها مجرّد آلة لكبح الصراعات وفرض الهيمنة؛ فعندما يقتصر دورها على ذلك الجانب فقط، تكون مهددة بالانهيار بسهولة، بينما يستمرّ وجودها مرتبطًا بمدى ليونتها وقدرتها على التحوّل من وضعية القمع إلى التحالفات والحلول والتنازل عن المصالح إذا تطلّب الوضع ذلك.
يمكن اختصار هذه الوضعية المخالفة للقوة والقهر فيما يُطلق عليه “أيديولوجية المجتمع المدني”، أي تلك الأفكار والقيم المهيمنة على العقول. بذلك، يتكرّس مفهوم الدولة المهيمنة بالجمع بين القوة والأيديولوجيا، حيث تُمارس الأولى عبر العناصر الحكومية، والثانية وظيفة المجتمع المدني. ويجدر القول إن المجتمع المدني يعتمد على أدوات واستراتيجيات مختلفة في السيطرة السياسية، مما يجعل تأثيراته أقوى من استراتيجيات الحكومة المقتصرة على القوة والقمع فقط، وهو ما يبرّر نجاح الدولة في استمرارها بشكل جدلي يجمع بين قمع الجهاز الحكومي وأيديولوجية المجتمع المدني.
المثقف العضوي بالنسبة لغرامشي
تستمدّ كل جماعة في المجتمع وجودها من وظيفتها في نظام الإنتاج الاجتماعي، وينبثق عن كل طبقة أو جماعة مثقف عضوي يكوّن لدى عناصر طبقته وعيًا بهذه الوظيفة، ويعمل على تقسيم وتنظيم أدوارها داخل الطبقة، ويتم ذلك عبر ديناميكيته في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. توضع على عاتق المثقف العضوي العديد من المسؤوليات التنظيمية والرقابية، ويعمل على نشر قيم وأفكار طبقته قدر الإمكان وصياغتها ضمن أيديولوجية واضحة، أي توحيدها في منظومة موحدة لضمان تجانسها. ذلك لأن هدفه الرئيسي هو هيمنة طبقته على المجتمع وفرض مصالحها والدفاع عن حقوقها.
يتمثل دور المثقف العضوي في بناء قواعد ثابتة وخاصة بالطبقة التي ينتمي إليها، عبر العمل على صقل فكر أفرادها وتصوراتهم وتمثلاتهم تجاه الأشياء، ليقوم فيما بعد بالدخول في صراع مع الطبقات الأخرى لفرض الهيمنة. ويشير غرامشي إلى أنّه لا يمكن اعتبار كل المثقفين مثقفين عضويين؛ فالمثقف العضوي له وظائف اجتماعية وروابط عضوية بمجتمعه، وهو قادر على تحديد أهدافه مسبقًا والعمل على تحقيقها من خلال كفاءاته الفكرية.
ومن هنا يمكن تمييز المثقف بالمعنى التقليدي عن المثقف العضوي بمعناه العملي المرتبط بالإنجاز والتحقيق والأفكار والوظائف: فالمثقف التقليدي لديه وعي مبالغ فيه بمكانته الاجتماعية، ما يجعله يتخذ مسافة عن مختلف الطبقات الأخرى في المجتمع (منغلق على ذاته ومتمركز حولها)، بينما ينصهر المثقف العضوي في قضايا مجتمعه وطبقته، ويسعى إلى التغيير والهيمنة وتحقيق أهدافه، حاملاً وعيًا كبيرًا بمشاكل المجتمع، ويعمل على توظيف معارفه وقدراته لتحقيق تطلعات الطبقات العاملة، مواجهاً الفكر الرأسمالي المهيمن والمسيطر على نظام الإنتاج الاجتماعي وكل الجوانب القانونية والسياسية في المجتمع.
ويرى غرامشي أنّ الخلل يكمن في المعايير التي على أساسها يُثمن نشاط المثقفين ويميز بينهم، فالمثقف الحقيقي بالنسبة له هو من يمارس أنشطة تُحقّق تغييرًا فعليًا في المجتمع الذي يعيش فيه، وتخدم غايات الطبقة التي يؤمن بها. ومن ثم، فإن تمييز الأنشطة وإعطاؤها قيمة خارج أنساق المجتمع وقضاياه لا يعدّ تقييماً ناجعًا بالنسبة له.
كما يرى أنّ الرأسمالية الجديدة، عندما اتجهت إلى الأساليب والعناصر المعتمدة على الأدوات الأيديولوجية، كان هدفها الرئيسي تلافي وقوع ثورة تقودها الطبقة العاملة (البروليتارية) والتي قد تتسبب في انهيارها. فوجدت في المراوحة بين وسائل القوة وأسلوب الإرضاء تكريسًا لثباتها وحفاظًا على هيمنتها. ويُطلق “غرامشي” على هذا النوع من الرأسمالية اسم “الرأسمالية الجديدة”، وهي تعتبر أقوى وأكثر تأقلمًا من المفهوم الذي يقدمه “ماركس”، والذي يرى أنها تعتمد فقط على القوة في فرض هيمنتها وتعتمد على الدولة في السيطرة على الصراعات خدمةً لمصالحها.
لكن قد يشكّل المثقف الوظيفي نقطة مفصلية هامّة في تغيير الأوضاع لصالح البروليتارية، دون أن تنطلي عليه استراتيجية الرأسمالية الجديدة، التي قد تظهر في أغلب الأحيان في شكل عدد من “المثقفين التقليديين” المهيمنين على الطبقة العاملة. ويكون ذلك عن طريق “الحزب الثوري” المكوّن من طبقة من المثقفين العضويين الذين يحملون هدفًا واضحًا، وهو مجابهة الرأسماليين والمثقفين التقليديين المسيطرين على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، لصالح الفلاحين والعمال والأفراد المهمّشين. ويمكن أن تسمح فاعلية هذه الطبقة (من المثقفين العضويين) بتشكيل قوة هيمنة بديلة عن هيمنة الرأسمالية. فكلما كان الارتباط بين المثقف وهموم مجتمعه وقضاياه عضوياً، تمكّن هذا الأخير من الإنجاز والتحقيق وخدمة مصالح الطبقة التي يعمل للدفاع عنها.
ويبيّن ذلك بعمق الفرق بينه وبين المثقف التقليدي، إذ أنّ الأخير لا يحمل في داخله قضايا المجتمع، بل يركّز اهتمامه على مصالحه دون الالتفات إلى هموم الطبقات المهمّشة، اعتقادًا منه أنّ ذلك قد يمس مصلحته وعلاقاته مع الطبقات المهيمنة، وذلك على عكس المثقف العضوي، الذي يستمد صفته ووجوده من الإنجازات التي يمكن أن يحققها لصالح الطبقات التي آمنت بقدرته على الدفاع عنها وقيادتها وتنظيمها، دون أن يولي اهتمامًا لانطباع البرجوازية المسيطرة على السلطة، فالمثقّف التقليدي خُلق من رحم الرأسمالية.
كما تدرك الطبقة البرجوازية تمام الإدراك مدى قدرة المثقف العضوي على صنع التغيير لصالح الطبقة المهيمنة عليه، وفي هذا الصدد يقول “غرامشي”: “إن البرجوازية تخشاهم وتعرف أنّ نفوذهم كبير، ولذلك تحاول أن تشتريهم بأي شكل”.
ويجدر الذكر أنّ المثقف العضوي ضمن المفهوم الغرامشي لا يُعتبر كذلك بمجرد أنه يعادي الرأسمالية، إذ يمكن للمثقف التقليدي أن يمثّل هذا الدور علنًا، بينما يعمل في الخفاء لصالح الطبقة المهيمنة لارتباطه بمصلحته. كما أنّ المناداة بشعارات الديمقراطية والحرية دون إنجازات وأنشطة حقيقية تستجيب لمتطلّبات الواقع، هي من أبرز سمات المثقف التقليدي غير الديناميكي وغير الفاعل في مجتمعه. بل يتسم المثقف التقليدي بكونه ينادي بمشاريع نظرية ليست ناجعة أو متوافقة مع الواقع الذي يعيشه مجتمعه، ذلك لأنه لا يدرك من الأساس ملامح وسمات الواقع الذي تعيشه الطبقات المهمشة، أي أن روابطه ليست وطيدة أو عضوية لدرجة أن يفهم متطلبات الطبقات العاملة، على عكس المثقف العضوي الذي يسعى دائمًا لرسم برامج ومشاريع تخدم فعليًا الطبقة التي ينتمي إليها.
حول جدلية المثقف العضوي والسلطة
تختلف العلاقة بالسلطة بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، ويجدر الذكر أنه أينما حلّ المثقف التقليدي في السلطة، إلاّ كانت الرأسمالية ترمي عليه بظلالها. فالاختلاف الكامن بينهما يؤثر على كيفية التفاعل مع متغيرات السلطة. ويقول “غرامشي” عن المثقف العضوي: “مثقف الكتلة التاريخية المهمّشة، مثقف عضوي؛ أي كعضو فاعل فيها، وكساعٍ لإزاحة القوى التاريخية القديمة والمهيمنة عن طريق كسر هيمنتها وفضح تزييفها لوعي المهمّشين، وأخيرًا هو المُلتحم مع الجماهير في نضالها الاجتماعي والسياسي”.
والسؤال المطروح في هذا الإطار، ماذا إن كان المثقف العضوي في السلطة، وكيف يمكن وصف وضعيته إذا ما نجح في تحقيق هيمنته البديلة؟
عموماً، لا تبدو علاقة السلطة بالمثقف العضوي منسجمة، أو على الأقل يمكن القول بأنها لا تتوافق مع الكثير من سماته وخصائصه. فالسلطة كانت ولا تزال حكرًا على الرأسماليين، وإلى يومنا هذا يقع التشكيك في النماذج الديمقراطية الحديثة وفي مدى نزاهتها أو تلبيتها لجميع احتياجات طبقات المجتمع، لذلك يمكن القول إنه تقريبًا لم يشهد العالم نظامًا سلطويًا يمكن وصفه بأنه ناجح بالمفهوم المطلق. فالمثقف العضوي خُلق لمقاومة الرأسمالية المحتكرة للسلطة، أي حتى وجوده ضمنها سيظل مرتبطًا دائمًا بالجانب الإصلاحي ونقد كل ما لا يخدم مصالح الطبقة التي ينتمي إليها، لذلك فإن طبيعة الأنظمة السياسية الحديثة لا تتماشى مع طبيعته النقدية، مما يؤثر على علاقته بالسلطة ويخلق دائمًا حالة من التوتر.
إذ كان مفهوم الديمقراطية قديمًا في منتصف القرن التاسع عشر يتلخّص في اختيار الشعب لمصيره بنفسه دون وجود أي طبقة فوقية تتحكم بهم وتفرض قراراتها، وبمرور تلك الفترة تمّ إعادة صياغة هذا المفهوم لتصبح السلطة حكرًا على النخبة البرجوازية، وأخذت الأمور من يد الشعب “المشاغب” و”المتسرع”، والذي لا يجب الاعتماد عليه وإلا سوف تتأزم الأمور.
من هنا فقدت الديمقراطية معناها الأصيل، وهو حكم الشعب لنفسه، وأصبحنا نتحدث عن ديمقراطية “مزيّفة”، أو التي تم تحويلها وفقًا لرغبات الطبقة المالكة، وكان نتيجة ذلك حدوث فجوة عميقة بين فئتين: الطبقة المتوسطة والفقيرة من جهة، والطبقة الرأسمالية من جهة أخرى.
وقد بدأ هذا المعنى الجديد للديمقراطية بالتفشي مع النموذج الأمريكي الذي أعلن انتصاره اقتصاديًا مع بداية تحالف السياسيين مع النخب المثقفة (المثقفين التقليديين) ورجال المال والأعمال (الرأسماليين)، لذلك أصبح نظام الولايات المتحدة الأمريكية مغريًا بالنسبة للعديد من الدول، وأصبح التوجه العالمي يقر بضرورة الجمع بين الديمقراطية والرأسمالية في نظام حكم كل بلد، وذلك بعد إثبات قدرته على الرقي بالمجتمعات، مثل ما حصل في اليابان وألمانيا والعديد من الدول الغربية الأخرى.
في خضم كل ذلك، كانت الدول العربية منجذبة إلى ما توصل إليه العالم الغربي من تطور اقتصادي، دون التركيز على حقوق الأفراد ومشاركتهم في الحكم والقضايا التي تواجهها الطبقة المهمّشة، أي ارتباط العملية الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا بكل ما هو تنموي، حتى أنها أصبحت ضمن معادلة ضيقة جدًا ولم نعد نتحدث عنها كمفهوم قائم بنفسه. نتيجة لذلك أصبحت نقطة قوة اقتصاد العالم الغربي هي نفسها سبب انهيار أنظمة العالم العربي، لأن التقليد لم يأخذ بعين الاعتبار العديد من المتغيرات والوقائع التي يتميّز بها العالم العربي، وأصبح الجمع بين الديمقراطية والرأسمالية ملاذًا للنخب الثرية لتزيد من ثروتها وتتحكم في المال العام بما يتوافق مع مصالحها، وهو ما زاد الأمور تعقيدًا في مختلف الأوضاع، وعلى رأسها الوضع الاقتصادي.
ولا ينشق المثقف التقليدي على المفهوم الجديد للديمقراطية التي يُسيطر عليها الرأسماليون، لذلك فإن وجوده داخل السلطة سيرتبط حتمًا بالمصالح المشتركة بينه وبين الطبقة البرجوازية.



