النفوذ المستتر للعملات الافتراضية وانعكاساته على الامن القومي: تداعيات تتخطى العملة
بحث واعداد: خولة كلاحشي باحثة في العلوم السياسية والاتصال السياسي.
الطبيعة الأصلية للعملات الافتراضية
تعدّ العملة الافتراضية واحدة من أكبر الظواهر المالية في عصرنا، ففي حين فجّر ارتفاع قيمتها السوقية الصاروخي أواخر العام الماضي أحلام الثراء السريع والسهل لدى الكثيرين، فإن تراجع قيمتها خلال العام الحالي أثار المخاوف الصارخة في هذه السوق الافتراضية لدى المتعاملين بها.
تعرف العملة الرقمية على انها عملات افتراضية قابلة للتبادل في البورصة وتستعمل التشفير من اجل التأمين والتحقق من المعاملات، و انتشرت انتشارا واسعا حول العالم على غرار: بيتكوين اول عملة رقمية، إيثريوم، ريبل ونيم، لكنها مُنعت في بعض البلدان الاخرى لدرأ كل مخاطر استخدام هذه العملات الرقمية على غرار بنغلاديش وبوليفيا والإكوادور وقيرغيزستان وفيتنام وتونس.
وتعدّ العملات المشفرة وسيلة دفع رقمية غير نقدية، ويتم إدارتها وتداولها في نظام دفع لامركزي على الإنترنت ويحظى بحماية شديدة بعيدا عن سيطرة البنوك وتحكمها، وحسب إحصائيات منصة “كريبتو. كوم” (Crypto.com) لتداول العملات الرقمية المشفرة، كان هناك ما يقرب من 300 مليون شخص يمتلكون عملات رقمية مشفرة مع نهاية 2021.
الطبيعة القانونية للعملات الافتراضية في القانون التونسي
يلف الغموض مجال العملات المشفرة وامكانية تعدينها بالتزامن مع ارتفاع المطالب بتقنين مجالها وتحديد الضوابط التي تؤطرها، حيث يفرض جمود القوانين ضبابيتها بهذا الشّأن الذي لا يزال محظورا ومجالا متخوفا منه من قبل المشرع التونسي رغم موجة الدفع التكنولوجي التي يواكبها العالم وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذا المجال الافتراضي.
وتجدر الاشارة إلى أنّ الأصل في الأمور هي الإباحة ٬وهو مبدأ عام في القانون المدني والجزائي تخضع له فلسفة التشريع ويعد استثناء للتجريم والمنع، فكلما انعدم النص الخاص، نعود للمبادئ العامة للتفسير.
وعليه فان العملات الافتراضية في الاصل مباحة في التعامل بها لعدم تجريم استخدامها في النص العام، كما لا يوجد أي نص يمنع “البتكوين” باعتبارها عملة افتراضية أو عملة معترف بها، أي هنالك فراغ تشريعي للتجريم أو المنع ،لكن السلطات قد تتبع أشخاصا بمقتضى قانون المقامرة، غير أنه لا يمكن إدانة أي شخص لاستخدام أو استعمال العملات الافتراضية بناء على مبدأ عدم الرجعية لأن القانون الجزائي لا يطبق بصفة رجعية إلا إذا كان لمصلحة المتهم.
وتبعا للمبدأ الدستوري شرعية الجرائم، الذي يقتضي أن لا يعاقب شخص ما إلا بنص سابق الوضع ، مما يدعو إلى التساؤل هل أن فقه القضاء التونسي قادر على تلافي الفراغ القانوني بالإدانة علما وأن القضاء لم يستقر الى يومنا لحداثة الطرح؟
ومن الغلط القانوني مبدئيا، إدانة شخص بتعلة اعتبار الأمر من قبيل توريد عملة دون ترخيص وهو ما أقره القضاء حيث أقرت المحكمة الابتدائية بتونس بعدم سماع الدعوى في قضية استعمال العملة الافتراضية، وأعلنت في حكمها الابتدائي الصادر بتاريخ 8 ديسمبر 2021 ” بعدم سماع الدعوى وبإرجاع الهاتفين الجوالين المحجوزين لمن حجز عنه”، ويعتبر هذا القرار سابقة في تاريخ القضاء التونسي الذي يمنع استخدام العملات الافتراضية ويجرمه.
كما أن آلية التشفير تزيد من تعقيد وصعوبة القدرة على السيطرة في السوق الافتراضية برغم انها تعتبر ضامنا لإتمام مبادلة الأموال وتطورت لتشمل مجالات عديدة بفضل سرعتها وتسهيلها حتى للمعاملات المعقدة التي تتطلب توافق أشخاص على مبادلة ما، واختصرت الزمن والوقت والمسافات كما أنها يمكن أن تتم دون أن يعرف المستخدمون بعضهم البعض من خلال تقنية البلوكشين.
وبالتالي فان السوق الإعلامية ضخمت الظاهرة و روجت لها لاستقطاب الجمهور دون الخوض في الاصل و المضمون الحقيقي ، ذلك أنه لا يعلن سوى عن مكاسب هذه السوق والتي لا تعد المبدأ في حين تغيب الخسائر و التحديات التي تواجه مستعمليها، و أكد بعض الخبراء عن أن ما يقال حول تحقيق الأرباح العالية هو اعتقاد خاطئ.
العملات الافتراضية ،الجانب الآخر للنفوذ السياسي
لا مجال لشك قانونا،أن العملات الافتراضية هي ليست عملة لذلك يتم إلقاء القبض أحيانا على من يتداولها من الشباب بمقتضى قانون المقامرة، وبذلك تحتاج الى اكسائها صبغة قانونية.
وجاءت محولة إسناد ترخيص بشأن تداول التعامل بالعملات الافتراضية في عهد حكومة يوسف الشاهد، لكنه عُورض بان الترخيص لا يتم بأمر حكومي أو رئاسي، وقانون مسك العملة وترويجها وتداولها ينبغي أن يكون منظّما بصفة اصلية لدخوله مجال الامن القومي التونسي، بحيث تعد العملة احد العناصر الاساسية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي وأحد العوامل الجوهرية لتحقيق الهدف الاوحد من الامن القومي الوطني الا وهو تحقيق الرفاه للمواطنين التونسيين.
وقد روج بعض السياسيين ممن تحدثوا عن أهمية تطوير التشريعات عن اهمية تحقيق التوازن بين التقنين و الواقع واشاروا لتقنين العملات الافتراضية لكن ذلك جاء ضمن مبادراتهم في إطار حملاتهم انتخابية لا غير، أو لربح نقاط سياسية ضد خصومهم والفاعلين السياسيين الاخرين.
رغم زخم الدفع التكنولوجي وديناميكيته غير المشروطة ،لا يزال مستخدمون العملات المشفرة في تونس يواجهون عراقيل تشريعية واضحة لاسيما بعد تكرر تتبعات أمنية مالية من البنك المركزي لشباب استخدموا هذه العملات، في ظل منع القانون التونسي مبدئيا لأي مبادلات مالية خارج القنوات المصرفية الرسمية نظرا لما يثيره ذلك من مخاطر حول صعوبة تتبع مصادر هذه الأموال و حقيقة مستخدميها و المتعاملين بها ما يطرحه من شكوك حول توجيهها نحو تبييض الأموال ودعم الإرهاب وعدت جرائم اخرى.
وحسب البنك المركزي إن هذه العمليات معقدة على عكس ما يروج له ، بحثلا توفر أية حماية في مراحل التعامل بها في السوق وتتطلب تأطيرا قانونيا دقيقا في حال السماح باعتمادها في تونس حيث لا تصنّف ضمن أصناف العملة في القانون التونسي، طالما لم يتم البتّ في أمرها وإعطائها إطارا قانونيا خاصا ومواكبا للتطور التكنولوجي و للتصورات الاستشرافية العالمية.
لكن لا بد من الانتباه جيدا لمخاطر توظيفها كالآلية لتبييض الأموال وغيرها من المخاطر التي تعرقل اعتماد هذه المنظومة والسماح باستخدامها بصفة مؤطرة ومحددة من أصحاب المشاريع الناشئة.
نعيش اليوم فجوة عميقة بين استراتيجية الدولة وتشريعاتها ومتطلبات الشباب في المجال الرقمي والعولمة وذلك بسبب تخوف الدولة من مآل هذه التعاملات و امكانية ضبط استخداماتها.
و سبق وأوضح البنك المركزي التونسي موقفه من استعمال العملة الرقمية “بتكوين”، معتبرًا أن التعامل بهذه العملة يجب أن يخضع لدراسة واختبارات للوقوف على إيجابياتها وسلبياتها واعتماد رصد للاستخدامات المتعاملين التونسيين و وضع استراتيجية تعتمد على قراءة تحليلية لمناخ التعاملات المالية في تونس.
وهو ما يؤكد أنّ اعتماد هذه العملة يتطلب إمكانيات تكنولوجية عالية، كما أنه يصعب تعقبها الأمر الذي يسهل استعمالها في أغراض مشبوهة، وهو السبب الرئيسي في رفض التعامل بالأموال الافتراضية في البلاد وعلى رأسها “البتكوين” و العملات الإلكترونية المشفرة بصفة عامة، خاصة و أن هذه المواقع تستعمل تكنولوجيات عالية التشفير، ممّا يجعل عمليات تعقبها شبه مستحيلة إلى جانب أنها تمكن مستعمليها من التهرب الضريبي.
رغم النجاح الذي عرفته العملات الافتراضية، فإن بعض التقارير الصادرة مؤخرا حذرت من مخاطر استخدامها بسبب صعوبة مراقبتها ومتابعتها وتغير حالاتها في السوق بصفة فجائية، وعدم قدرة أية جهة، التحكم والسيطرة على سوقها.
وتبعا، حذر تقرير لبنك التسويات الدولي “بي.آي.إس” في سويسرا من أن العملات الرقمية خطرة وضارة وعديمة القيمة، و خصص التقرير السنوي للبنك المعروف بأنه البنك المركزي العالمي للبنوك المركزية الوطنية، فصلا كاملا عن العملات الرقمية وخطورتها على النظام المالي العالمي، وعلى ثروات الأفراد، و أوضح أن العملات الرقمية تصبح “بلا قيمة من خلال عمليات الغش أو القرصنة”، وغالبا ما يتم التداول فيها عبر صناديق وهمية تودي بثروة المواطنين بعيدا عن قواعد التعامل الرسمية وضرورة السعي لوضع تشريعات وقوانين لتنظيم عملها وحماية حقوق المتعاملين بها.
مخاطر التعامل بالعملات الافتراضية[1]:
- الفقدان أو السرقة: يمكن فقدان العملة الرقمية من خلال الخرق الأمني، أو خطأ المستخدم، أو الفشل التكنولوجي في محفظة العملة الرقمية، فعند حدوث ذلك، فلا يمكن استعادة العملة الرقمية.
- الاحتيال أو الاستخدام غير المصرح به: عموماً، يمكن لشخص ما حصل بطريقة احتيالية على بيانات الملكية الخاصة بصاحب محفظة النقود الرقمية – مثل كلمة السر – أن ينفق منها، حينئذ لا يمكن عكس المعاملات في معظم العملات، حتى لو كانت نتيجة الاحتيال أو الاستخدام غير المصرح به.
- باستثناء عدد قليل من جهات التعامل الرسمية، فإن الكثير من “بورصات” العملات الرقمية، تبين أنها لا تعدو كونها عمليات نصب منظمة تستخدم التكنولوجيا لنهب ثروات الأفراد.
- الخطأ في معالجة المعاملات: في حالة تنفيذ مدفوعات بطريق الخطأ، مثل الدفع إلى مستفيد آخر، أو تحويل مبلغ غير صحيح، أو عدم إتمام المعاملة في الوقت المناسب، بسبب خطأ منصة محفظة العملة أو غيرها من الأسباب الفنية، فإنه في معظم أنظمة العملات الرقمية، لا يمكن عكس المعاملة الخطأ، ولا يكون للمتعامل حق الرجوع على الأطراف الأخرى.
- أخطاء مرتبطة بمنصات التعامل: لا تتوفر آلية تأمين لتعويض أصحاب المحافظ في حالة إخفاق المنصة الإلكترونية التي تنفذ عمليات المحفظة، أو في حال الأعطال التي لا يمكن معها الوصول إلى المحفظة.
- استخدامها لغسل الأموال وتمويل الإرهاب والأنشطة الإجرامية المتصلة بالإنترنت والمقامرة: العملات الرقمية هي عملات مُشفرة، يتم تسجيل المعاملات والتعريف بهوية المستخدمين فقط من خلال «عناوين» رقمية افتراضية تصدرها أنظمة التعامل بالعملات الرقمية، والتي لا يمكن أن تعكس الهوية الحقيقية للمتعاملين.
- وهم سرعة التعامل بالعملات الرقمية: بعيدا عن الأنظمة المالية الرسمية، وجب الاشارة إلى أن التدقيق في أي معاملة يأخذ في التباطؤ مع كل عملية، فكلما ارتفع عدد العملات المتداولة كلما زاد الوقت المطلوب للتداول وصولا إلى عدة ساعات.
لا يحتاج المشرع التونسي إلى الاعتراف بالعملة الرقمية كعملة حقيقية فتقنيا العملة موجودة في تونس كما في كل مكان يمكنك فيه الاتصال بالإنترنت أي أن الأمر لا يحتاج إلى بنية تحتية رقمية بل الأمر يحتاج إلى قوانين لتنظيم استخدام العملات الرقمية وتداولها في السوق وأن يسند لها صفة الرواج القانوني كما هم الحال بالنسبة للدينار التونسي بحيث تكيفه السلطات المعنية مثل البنك المركزي التونسي، وهيئة السوق المالية، ولجنة التحاليل المالية بصفة واضحة.
كما لا يحتاج أن يخاطر بالنظام المالي أو العملة الوطنية حتى نستفيد من الفوائد الاقتصادية والتكنولوجية المؤقتة فلم ينف أي خبير في السلامة المعلوماتية مخاطر العملات الرقمية الأمنية انها قد تكون منفذا لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب ” عملات الدم” خاصة بعد ما قامت به الصين مؤخرّا من منع استخدام هذه العملات في المعاملات المالية مما ضرب مصداقية هذه العملات وتسبب في تراجع قيمتها بنسبة وصلت نحو 40 في المئة في بعض الحالات وهو ما يحيلنا على الكثير من المخاطر التي تحوم حول استخدامات هذه العملات التي نحن في غنن عنها.
خلاصة القول، على الدولة التونسية أن تراقب فرص النمو والاستثمار باهتمام وانتباه، وان يتم احداث نظام قانوني يخول للشركات ان تنشط وفقا لما يحدده القانون التونسي، و تحدث نظام جبائي موازي خاصا بهذه الخدمات شريطة ان تأخذ بعين الاعتبار خصوصية نشاط العملة الرقمية وحجم السوق والشركات الناشطة فيه وبذلك تحدث فصلا بينها وبين النشاط الاقتصادي التقليدي.
المراجع:
https://democraticac.de/?p=58064
https://www.asjp.cerist.dz/en/article/140621
https://www.aljazeera.net/news/scienceandtechnology/2022/4/11
https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/research_reports/RR1200/RR1231/RAND_RR1231z1.arabic.pdf
https://www.ig.com/ar-ae/cryptocurrency-trading/what-is-cryptocurrency-trading-how-does-it-work