آسياأخبار العالمأمريكابحوث ودراسات

المنطق والخصائص والتخطيط لـ”حرب التعريفات الجمركية” في نسخة ترامب الثانية

بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أطلقت الحكومة الأمريكية سلسلة من إجراءات “حرب التعريفات الجمركية”، حيث أعلنت عن فرض تعريفات جمركية إضافية على المنتجات المستوردة من كندا والمكسيك والصين وغيرها، بالإضافة إلى تنفيذ قيود تجارية على صناعات محددة مثل الصلب والألومنيوم والنحاس، ودفع خطة “التعريفات الجمركية المتكافئة”.

وقد صرح ترامب بأن “حرب التعريفات الجمركية” تساعد في تصحيح اختلالات التجارة، وزيادة إيرادات الحكومة الأمريكية، وتعزيز عودة التصنيع إلى الولايات المتحدة. وتحاول الولايات المتحدة أيضا الاستفادة من التعريفات لتحقيق أهداف مرتبطة بالأمن الحدودي، والهجرة غير القانونية، ومكافحة مادة الفنتانيل.

وبلا شك، تتبوأ “حرب التعريفات الجمركية” موقعا مركزيا في تخطيط إدارة ترامب في ولايته الثانية، ومن المتوقع أن يتجاوز تأثيرها نطاق السياسة الاقتصادية والتجارية ليؤثر بشكل كبير على مسار العلاقات بين الصين والولايات المتحدة.

المنطق العميق لـ”حرب التعريفات الجمركية” في نسخة ترامب الثانية

بالمقارنة مع الولاية الأولى، يظهر إصرار ترامب في ولايته الثانية على “حرب التعريفات الجمركية” بشكل أعمق. وبناءً على آراء ترامب، وكبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية، وفريقه الاستشاري الأساسي، فإن الأهمية الاستراتيجية للتعريفات بالنسبة للولايات المتحدة تشمل الجوانب الثلاثة التالية:

أولاً، يمكن للتعريفات الجمركية توفير إيرادات ضخمة للحكومة الأمريكية لمواجهة أزمة الدين العام المتزايدة في الولايات المتحدة.

ويرى الممثل التجاري الأمريكي السابق روبرت لايتهايزر وآخرون أن الولايات المتحدة لديها تقليد “بناء الدولة عبر التعريفات الجمركية”، حيث أدت التعريفات دورا هاما في مسيرة الولايات المتحدة نحو أن تصبح قوة عالمية.

وبين عامي 1789 و1939، كانت التعريفات الجمركية تمثل 90% من إيرادات الحكومة الفيدرالية الأمريكية. وفي نظر ترامب، تخفيض التعريفات الجمركية يُعد “دعما” تقدمه الحكومة الأمريكية لدول أخرى، مما يجعل إيرادات الحكومة تعتمد بشكل متزايد على ضرائب الدخل المحلية، ويؤدي ذلك بدوره إلى أزمة الدين العام.

وقد ذكر ترامب أن الولايات المتحدة ليست غنية، ويصل حجم الدين الفيدرالي إلى 36 تريليون دولار. ويأمل من خلال إيرادات التعريفات الجمركية تحسين الوضع المالي للحكومة الأمريكية.

وفي يناير 2025، أعلن ترامب في خطاب تنصيبه لولاية رئاسية ثانية أنه سيُجري إصلاحا شاملا للنظام التجاري، ومن خلال فرض التعريفات الجمركية على الدول الأجنبية، سيجعل المواطنين الأمريكيين أكثر ثراءً.

ولهذا الغرض، قرر ترامب إنشاء “إدارة الإيرادات الخارجية” لتحقيق هدف “خلق الثروة للشعب الأمريكي”. وتهدف هذه الهيئة إلى إدارة التعريفات الجمركية والإيرادات الأخرى المتعلقة بالتجارة التي تُفرض على الخارج.

وأكد كيفن هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض، أنه عبر فرض 10% من التعريفات الجمركية على السلع المستوردة من الصين، وإلغاء آلية “الإعفاءات الصغيرة” التي تقل عن 800 دولار، ستحصل الولايات المتحدة خلال السنوات العشر القادمة على إيرادات جمركية تتراوح بين 500 إلى 1000 مليار دولار من الصين.

ووفقا لرأي ترامب، تحتاج الحكومة الأمريكية بشكل عاجل إلى “خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات”، ويمكن لزيادة إيرادات التعريفات الجمركية تهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ تخفيضات ضريبية واسعة النطاق خلال ولايته الثانية. وبالإضافة إلى ذلك، تحاول إدارة ترامب استخدام إيرادات التعريفات الجمركية لدعم صندوق الثروة السيادية الأمريكي الذي أعلنت عن تأسيسه في أوائل فبراير 2025.

ثانيا، تعتبر التعريفات الجمركية وسيلة للحد من دخول السلع الأجنبية وتعزيز انتعاش الصناعة الأمريكية.

 ويولي ترامب أهمية كبيرة لمشكلة توازن التجارة، ويرغب في تقليل عجز الميزان التجاري الأمريكي من خلال فرض التعريفات الجمركية. ووضع أيضا هدفا لجعل الولايات المتحدة الدولة الأولى في مجال التصنيع، ويسعى لاستخدام “جدار التعريفات الجمركية” لحماية الصناعات المحلية بشكل أكبر، ودعم ازدهار “اقتصاد الشارع الرئيسي” (Main Street، أي الاقتصاد التقليدي للقطاع الحقيقي). وبالإضافة إلى ذلك، يركز ترامب على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل دعم شركات تصنيع الرقائق مثل إنتل وصانعي السيارات.

وقد اقترح ضمان أن تكون سلاسل توريد المنتجات الرئيسية متمركزة بنسبة 100% داخل الأراضي الأمريكية، مع تقديم معدل ضريبي للشركات المصنعة داخل الولايات المتحدة يبلغ 15%.

وأعلن الممثل التجاري الأمريكي جيمسون غرير أن الرقائق والأدوية والمعادن الحيوية والتربة النادرة هي المجالات الصناعية التي تركز عليها حكومة ترامب بشكل أساسي. وبالنسبة لحكومة ترامب، تعد التعريفات الجمركية في جوهرها سياسة صناعية، فهي تحاول تصحيح سياسة الدعم الصناعي التي اُتبعت في عهد جو بايدن، وتحويل الضغط إلى فرض التعريفات الجمركية لإجبار إنتاج المنتجات الرئيسية على الانتقال إلى داخل الولايات المتحدة.

وقالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إن التعريفات الجمركية ليست سوى أداة، والهدف النهائي هو تعزيز عودة التصنيع إلى الولايات المتحدة وضمان أمن الاقتصاد الأمريكي.

ثالثا، يمكن استخدام التعريفات الجمركية للضغط على الدول الأخرى من أجل تحقيق تنازلات لصالح الولايات المتحدة، وتحقيق مبدأ “المعاملة بالمثل” وأهداف أخرى في مجالات سياسية متنوعة.

واشتكى ترامب من أن العديد من الدول، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، استفادوا لفترة طويلة من “استغلال أمريكا”، وأن الولايات المتحدة تعرضت لـ”معاملة غير عادلة”.

 وفي 13 فبراير 2025، أصدر البيت الأبيض “مذكرة بشأن التجارة المتبادلة والتعريفات الجمركية” أكد فيها أن الولايات المتحدة تعد من أكثر الاقتصادات انفتاحا في العالم، بمتوسط معدل تعريفات جمركية هو على الأرجح الأدنى عالميا، وتفرض الولايات المتحدة حواجز أقل على الواردات؛ لكنها تعاني من “معاملة غير عادلة” من شركاء التجارة مما أدى إلى حدوث عجز ضخم في تجارة السلع، وأضر بمصالح العمال والصناعات الأمريكية، وهدد الأمن الاقتصادي والوطني للولايات المتحدة.

ويحاول ترامب من خلال خطة “التعريفات الجمركية المتكافئة” إجبار الدول الأخرى على خفض مستويات التعريفات الجمركية المفروضة على الولايات المتحدة، وتعديل ما يسمى بـ”الترتيبات الضريبية التمييزية” مثل ضريبة القيمة المضافة وضريبة الخدمات الرقمية، وتقليل الحواجز غير الجمركية الناتجة عن سياسات الدعم والتنظيم وسعر الصرف التي تتبعها تلك الدول، لتوسيع فرص السوق أمام الشركات الأمريكية.

 وبالإضافة إلى ذلك، يسعى ترامب لربط فرض التعريفات الجمركية بمطالبات تتعلق بالأمن الحدودي، والهجرة غير الشرعية، ومكافحة المخدرات، معتبرا التعريفات الجمركية أداة ضغط في المفاوضات.

 ويعتبر الحفاظ على مكانة الدولار أيضا موضوعا مهما بالنسبة له، حيث هدد باتخاذ إجراءات انتقامية مثل فرض تعريفات جمركية بنسبة 100% إذا استمرت دول أعضاء مجموعة بريكس في محاولاتها لإضعاف الدولار الأمريكي.

خصائص رئيسية لـ”حرب التعريفات الجمركية” في نسخة ترامب الثانية

تُظهر الحماسة التي يبديها ترامب في ولايته الثانية تجاه “حرب التعريفات الجمركية” طبيعته العميقة الجذور في النزعة القومية الاقتصادية، وهي مقاربة قد تُلحق الضرر بالولايات المتحدة نفسها.

وبناءً على ذلك، يُولي ترامب اهتماما بتقليل الخسائر الأمريكية عند تنفيذ “حرب التعريفات الجمركية”، من خلال تأجيل فرض التعريفات أو منح إعفاءات مشروطة، ويُظهر ما يسميه بـ”فن الصفقة”.

وتتّسم تكتيكات إدارة ترامب في “حرب التعريفات الجمركية” بعدة خصائص رئيسية:

أولا، يروج ترامب لإجراءات التعريفات الجمركية على نطاق واسع، ليُظهر صورة “الرجل القوي” الذي يُسرع في تنفيذ وعوده الانتخابية.

 وفي 20 يناير 2025، أي أول يوم له بالمنصب، أصدر ترامب “مذكرة سياسة التجارة أمريكا أولاً”، وأعلن عن إجراءات تشمل فرض تعريفات جمركية عالمية شاملة وإنشاء “إدارة الإيرادات الخارجية”.

وبعد ذلك، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية بنسبة 25% على واردات من كندا والمكسيك، و10% على السلع الصينية.

وفي 10 فبراير، أعلن ترامب فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع منتجات الصلب والألمنيوم المستوردة.

وفي 13 فبراير، أطلق رسمياً خطة “التعريفات الجمركية المتكافئة”. وتسعى إدارة ترامب أيضا إلى فرض تعريفات جمركية على قطاعات محددة مثل السيارات والرقائق والأخشاب والأدوية.

وفي مطلع مارس، طلب ترامب من وزير التجارة الأمريكي إطلاق “التحقيق 232” بموجب “قانون توسيع التجارة الأمريكي” لعام 1962، وذلك لتحديد تأثير واردات الأخشاب والمواد الخشبية والمنتجات ذات الصلة على الأمن القومي الأمريكي. وتأتي هذه الخطوة في إطار التحضير لاتخاذ إجراءات تقييدية تجارية ذات صلة.

 وفي 26 مارس، وقّع ترامب إعلانا في البيت الأبيض بفرض 25% تعريفات جمركية على السيارات المستوردة. وقد استند ترامب إلى “قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية” للإسراع في تنفيذ سلسلة من إجراءات التعريفات الجمركية.

وفي 9 فبراير، أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته شبكة “سي بي إس” (CBS) أن ترامب حصل في بداية ولايته الجديدة على تقييم إيجابي بشكل عام من الشعب الأمريكي، حيث اعتبر معظم المستطلعين أنه “حازم” و”مفعم بالحيوية” و”مركّز” و”فعّال”، كما رأى 70% من المشاركين أن ترامب أوفى بوعوده التي قطعها خلال حملته الانتخابية.

ثانيا، التلويح بالعصا الغليظة مع ترك هامشٍ للمناورة لإجبار الدول المعنية على تقديم تنازلات ومكاسب للولايات المتحدة.

وبعد تهديد ترامب بفرض تعريفات جمركية على المكسيك، أعلن الرئيس المكسيكي على الفور نشر 10 آلاف جندي من الحرس الوطني لضبط الحدود بين البلدين، مما دفع الجانب الأمريكي إلى تعليق إجراءات فرض التعريفات على المكسيك.

 ومن أجل تجنّب الضغط الجمركي من الولايات المتحدة، أعلن رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا خلال زيارته لواشنطن عن زيادة كبيرة في الاستثمارات بالولايات المتحدة وتعزيز شراء منتجات أمريكية كالغاز الطبيعي المسال.

وفي فبراير، زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي البيت الأبيض ووافق على الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة لحل مشكلة “اختلال التوازن التجاري الطويل الأمد” بين البلدين، كما تعهدت الهند بزيادة مشترياتها من منتجات الطاقة والأسلحة المتقدمة الأمريكية.

وعند إعلانه عن مراجعة سياسات الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في إطار “التعريفات الجمركية المتكافئة”، شدد ترامب على أنه قبل التنفيذ الرسمي لسياسة التعريفات، يمكن عدم فرض بعض هذه “التعريفات المتكافئة” إذا وافقت الدول الأخرى على تصحيح سياساتها.

وبعد تنفيذ السياسة، إذا رأت دولة ما أن التعريفات الأمريكية المفروضة عليها مرتفعة، فما عليها سوى خفض أو إلغاء التعريفات المفروضة على الولايات المتحدة. وإذا صُنعت المنتجات داخل الولايات المتحدة، فلن تُفرض عليها أي تعريفات جمركية.

ثالثا، تركز الإجراءات الجمركية على تحقيق هدف “مكافحة التحايل”، لا سيما من خلال تعزيز الرقابة على منطقة أمريكا الشمالية الاقتصادية.

وفي الوقت الذي كانت فيه إدارة ترامب تدفع بسياسات مكافحة الإغراق والدعم، أولت اهتماما كبيرا لمفهوم “مكافحة التحايل”، أي التصدي لممارسات الشركات من دول مثل الصين وروسيا التي تسعى إلى تجنب التعريفات الجمركية الأمريكية من خلال التجارة عبر دول ثالثة.

وقد طالبت “مذكرة سياسة التجارة أمريكا أولاً” الوكالات الحكومية الأمريكية بإجراء تحقيقات معمقة بشأن هذا النوع من التحايل عبر دول وسيطة. وفي مخطط إدارة ترامب، تُعد منطقة أمريكا الشمالية ذات أهمية حاسمة.

وفي ولاية ترامب الأولى، استبدلت الولايات المتحدة “الاتفاقية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا” بـ”اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية”. وأما في ولايته الثانية، فيسعى ترامب لإعادة التفاوض على بنود هذه الاتفاقية، وفرض تدابير حماية جديدة ضد التجارة غير المباشرة (إعادة التصدير)، بهدف منع الدول الأخرى من استخدام كندا أو المكسيك كقنوات لبيع منتجاتها داخل السوق الأمريكية.

وقد طرح وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت فكرة إنشاء “منطقة التعريفات الجمركية التمييزية” أو ما يُعرف بـ”حصن أمريكا الشمالية”، لتعزيز هيمنة الولايات المتحدة على السياسات التجارية للدول الأخرى. وصرّح ترامب مرارا أن كندا إذا كانت راغبة في تجنّب الضغوط الجمركية، فيتعين عليها التفكير في أن تصبح “الولاية الأمريكية رقم 51”.

رابعا، تُستخدم التهديدات الجمركية كأداة لتحقيق أهداف سياسية متعددة المجالات.

وقد كانت “حرب التعريفات الجمركية” التي شنّتها الولايات المتحدة على كندا والمكسيك إلى حد كبير امتدادا لسياساتها الداخلية، حيث سعت إدارة ترامب إلى استخدام التعريفات الجمركية لتحقيق تقدم في معالجة مشكلة الفنتانيل.

 وأما فيما يخص أوروبا، فقد حاولت الإدارة أيضا الاستفادة من تهديد التعريفات الجمركية لتحقيق أهداف سياسات متنوعة. وقال مستشار الرئيس، ستيفن ميلر، إن ضريبة القيمة المضافة والتعريفات الجمركية التي تفرضها أوروبا على صادرات السيارات الأمريكية تصل إلى 30%، فضلًا عن وجود العديد من الحواجز غير الجمركية، بينما لا تتجاوز التعريفات على السيارات الأوروبية المصدّرة إلى الولايات المتحدة 2.5% فقط.

وأدى هذا التفاوت، حسب ميلر إلى معاناة طويلة لقطاع السيارات الأمريكي وخسارة عدد كبير من فرص العمل. وأشار ميلر إلى أن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مطالبتها أوروبا بخفض التعريفات على المنتجات الأمريكية، ستضغط عليها أيضا لحل مشكلة ضريبة القيمة المضافة، وتقليل الضرائب الرقمية والغرامات التنظيمية المفروضة على شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، وتخفيف القيود على واردات المنتجات الزراعية والسيارات الأمريكية.

وسعى ترامب أيضا، من خلال “حرب التعريفات الجمركية”، إلى الضغط على اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وحلفاء الناتو الآخرين لزيادة إنفاقهم العسكري، والإسهام بشكل أكبر في تحمل تكاليف الأمن التي تتولاها الولايات المتحدة.

التخطيط لـ”حرب التعريفات الجمركية” إزاء الصين في نسخة ترامب الثانية

كرّر ترامب مرارا أن الولايات المتحدة يجب “فوزها” في ما يسميه “المنافسة مع الصين”، ويعتبر العديد من مستشاريه البارزين أن الصين هي الخصم الرئيسي. وقد زعم روبرت لايتهايزر بشكل مبالغ فيه، أن الصين تمثل “أكبر تهديد جيوسياسي” تواجهه الولايات المتحدة، داعيا إلى دفع عملية “الفصل الاستراتيجي” بين الاقتصادين الأمريكي والصيني. واقترح لايتهايزر تعاون الولايات المتحدة مع دول معنية لبناء نظام تجاري عالمي جديد يعتمد على ما سماه “التعريفات الجمركية ذات المستويين” لتحقيق التوازن:

  • الأول، فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الدول غير الديمقراطية وتلك التي تنتهج سياسات صناعية افتراسية، بهدف تقليص فوائضها التجارية؛
  • والثاني، تطبيق تعريفات جمركية منخفضة بين الدول الأعضاء في هذا النظام، مع إجراء تعديلات ديناميكية تسمح للدول النامية بالحفاظ على فوائض تجارية قصيرة الأجل لتحقيق أهدافها الصناعية. ومن الواضح أن هذا التصور يهدف إلى عزل الصين اقتصاديا عن النظام العالمي.

وفي الوقت نفسه، يسعى بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى إلغاء وضع “العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة” (PNTR) الممنوح للصين. وقد أعلن رئيس لجنة مجلس النواب الأمريكي المعنية بالصين جون مولينار بأن إقامة علاقات تجارية طبيعية دائمة مع الصين أضرّت بالمصالح الوطنية الأمريكية، وقوّضت القاعدة الصناعية في البلاد، ونقلت فرص العمل إلى الخصم الرئيسي للولايات المتحدة.

وفي هذا السياق، شكّلت الضغوط الجمركية التي مارستها إدارة ترامب على الصين جزءا مهما من “حرب التعريفات الجمركية”، إذ إن العديد من الإجراءات الجمركية التي اتُخذت كانت موجّهة بشكل مباشر ضد الصين. ولا يمكن التقليل من التأثير العميق لفكرة “الفصل الاستراتيجي” التي روّج لها روبرت لايتهايزر على سياسات إدارة ترامب، حيث لا تزال الولايات المتحدة تسعى إلى تقليل اعتمادها على الصين في المنتجات الحيوية، كما تحاول استخدام التعريفات الجمركية كوسيلة لإضعاف موقع الصين في سلاسل الإنتاج العالمية. وتشمل “حرب التعريفات الجمركية” التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين في الواقع محورين رئيسيين هما “الجبهة المباشرة” و”الجبهة غير المباشرة”، وتظهر هذه الحرب طابعا تكتيكيا  يتمثل في: “التهديد المسبق، والابتزاز الأقصى، وتوزيع القوى على المحيط الخارجي،  والضغط المتكامل”.

ومن منظور “الجبهة المباشرة”، كان خفض العجز التجاري مع الصين وتحقيق ما تصفه إدارة ترامب بـ”التكافؤ” و”العدالة” في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة هدفا رئيسيا.

ووفقا لبيانات مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، بلغ العجز في تجارة السلع الأمريكية مع الصين في عام 2024 نحو 295.4 مليار دولار، ويشكّل ذلك قرابة 25% من إجمالي العجز التجاري في السلع لدى الولايات المتحدة.

وقد صرّح بيسنت بأن الصين هي خصم عسكري واقتصادي للولايات المتحدة، وتستغل فائضها التجاري الضخم لتمويل توسّعها العسكري على نطاق واسع، مؤكدا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى استخدام التعريفات الجمركية كوسيلة ردع لإجبار الصين على إعادة التوازن إلى اقتصادها.

وحتى أواخر أبريل 2025، أعلنت إدارة ترامب عدة مرات فرض التعريفات الجمركية الاضافية على السلع الصينية، وقد بلغت التعريفات المفروضة على بعض المنتجات الصينية المصدّرة إلى السوق الأمريكية، تحت مسميات متنوعة، ما يصل إلى 245%.

وأمر ترامب أيضا وزارة التجارة ومكتب الممثل التجاري وغيرهما من الوكالات بفتح تحقيقات موسعة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بما في ذلك مدى التزام الصين بالمرحلة الأولى من الاتفاق التجاري الصيني والأمريكي الموقع في عام 2020، إضافة إلى “ممارساتها غير السوقية وغير العادلة” خارج مجالات مثل نقل التكنولوجيا والملكية الفكرية.

ولا شك أن “حرب التعريفات الجمركية” في ولاية ترامب الثانية تظهر طابعا واضحا من التنمّر والابتزاز، حيث يسعى إلى استخدام التهديد الجمركي لإبراز مواقفه المتشددة تجاه الصين، وإجبارها على الانخراط في التفاوض مع الولايات المتحدة، وتقديم تنازلات لصالح الجانب الأمريكي في قضايا مثل استحواذ الشركات الأمريكية على تطبيق “تيك توك”.

وقد وصلت إدارة ترامب إلى حد استخدام التعريفات الجمركية كأداة وأسلوب مُسلّح بشكل غير عقلاني تماما. وقد أوضحت الصين مرارا موقفها إزاء التعريفات الأحادية التي تفرضها الولايات المتحدة، مؤكدة أنها لن تلتفت إلى هذه اللعبة الرقمية العبثية التي تمارسها واشنطن بشأن التعريفات الجمركية.

ومن منظور “الجبهة غير المباشرة”، فإن تهديدات ترامب بفرض التعريفات الجمركية على كندا والمكسيك، وفرضه فعليا رسوما على الصلب والألمنيوم والنحاس، بالإضافة إلى إلغاء “الإعفاءات الصغيرة” ودفعه نحو تنفيذ خطة “التعريفات المتكافئة”، تنطوي جميعها على نوايا واضحة تستهدف الصين.

أولا، تحت ضغط الجانب الأمريكي، قد تلجأ كل من المكسيك وكندا إلى فرض مزيد من القيود على الأنشطة التجارية والاستثمارية التي تقوم بها الشركات الصينية على أراضيهما.

وثانيا، السياسات الجمركية التي تعتمدها إدارة ترامب في صناعات محددة مثل الصلب والألمنيوم والنحاس، وكذلك السيارات والرقائق والأدوية، من شأنها أن تُحدث تأثيرا مباشرا على الصين.

وعلى الرغم من أن التعريفات المفروضة على الصلب والألمنيوم والنحاس تبدو موجهة ظاهريا إلى كندا والمكسيك والبرازيل، إلا أن الهدف الحقيقي منها هو الصين. وتخطط إدارة ترامب أيضا لفرض تعريفات جديدة على صناعات مثل الرقائق بتقنيات التصنيع الناضجة والأدوية، في محاولة لدفع الشركات الأمريكية إلى تقليل اعتمادها على سلاسل التوريد القادمة من الصين.

 وثالثا، أعلنت إدارة ترامب إلغاء نظام “الإعفاءات الصغيرة”، مما شكّل تحديا كبيرا لسلسلة صناعة التجارة الإلكترونية العابرة للحدود في الصين.

ورابعا، لا يمكن الاستهانة بتأثير خطة “التعريفات المتكافئة” التي تروّج لها الولايات المتحدة على تجارة إعادة التصدير المرتبطة بالصين.

الخاتمة

تنتهك سياسة “حرب التعريفات” التي تتبعها إدارة ترامب قواعد منظمة التجارة العالمية، وتمثل تحديا خطيرا للنظام التجاري المتعدد الأطراف، وتُعدّ نهجا خاطئا يضر بالآخرين كما يضر بالولايات المتحدة نفسها.

 ويرى ستيفن روش، كبير الاقتصاديين السابق في بنك مورغان ستانلي والباحث البارز في جامعة ييل الأمريكية، أن سياسة ترامب الجمركية تفتقر إلى الفهم الأساسي لمبادئ الاقتصاد الكلي، إذ تنسب بشكل تعسفي اختلال التوازن التجاري الناجم في الأساس عن عوامل داخلية أمريكية إلى دول أخرى.

 ويؤكد أن السبب الجذري للعجز التجاري الكبير هو انخفاض معدل الادخار المحلي في الولايات المتحدة، وليس غياب ما يسمى بـ”التكافؤ” مع شركائها التجاريين. ومنذ ولاية ترامب الأولى، ورغم استمرار “حرب التعريفات الجمركية”، فإن العجز في تجارة السلع الأمريكية لم يتراجع، بل ازداد.

 وتتّسم السياسات الاقتصادية لإدارة ترامب بتناقض داخلي واضح، حيث إن الجمع بين فرض التعريفات الجمركية والتخفيضات الضريبية، إضافة إلى إعادة المهاجرين بأعداد كبيرة، من شأنه أن يؤدي حتما إلى زيادة التضخم داخل الولايات المتحدة.

وبدأت حالة عدم اليقين المرتبطة بهذه السياسات تُلقي أيضا بظلالها السلبية على سوق الأسهم الأمريكية. وحذّر موريس أوبستفلد، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، من أن “حرب التعريفات الجمركية” قد تدفع الدولار نحو الارتفاع، وترفع أسعار المواد الوسيطة الأساسية، مما يؤدي إلى تراجع إضافي في صادرات الشركات الأمريكية.

وخلال السنوات الماضية، واجهت الصين “حرب التعريفات الجمركية” التي شنتها الولايات المتحدة بدون استسلام للضغوط، وواجهتها بثبات ، وأظهرت صادراتها الخارجية قدرا كبيرا من المرونة.

وفي المرحلة الحالية والقادمة، تحتاج الصين إلى الاستمرار في توسيع مجموعة أدواتها من السياسات، والاستعداد لتنفيذ إجراءات “ردع غير متماثلة” تجاه الولايات المتحدة، وتسريع وتيرة الإصلاحات وفق الخطط الموضوعة، والاستمرار في تعزيز تنويع التجارة الخارجية، والعمل بنشاط على بناء أنماط جديدة من الانفتاح، بما يرسّخ أساس أكثر صلابة لمواجهة استراتيجية الاحتواء الأمريكية ضد الصين بشكل فعّال.

________________

تشاو مينغ هاو: نائب مدير وأستاذ بمركز الدراسات الأمريكية بجامعة فودان، وباحث أول في معهد “الحزام والطريق” والحوكمة العالمية بجامعة فودان

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق