المنافسة والتعاون الدوليان في مجال الذكاء الاصطناعي من منظور علاقات السلطة بين الدول
تساي تسوي هونغ: أستاذة في مركز الدراسات الأمريكية بجامعة فودان 30-09-2024
يمثل عام 2023 العقدة الرئيسية بالنسبة للذكاء الاصطناعي ليكون له أهمية كبيرة في العلاقات الدولية. من المنظور التقني، فإن التطور السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي يوفر حاملات وقدرات جديدة للتبادل مع الدول الأخرى، كما يجلب أيضا مخاطر وتحديات جديدة للأمن القومي.
ومن منظور الأجندة، أنشأ الذكاء الاصطناعي سلسلة من الأجندات الجديدة للعلاقات الدولية، مثل الأمن والأخلاق والتنمية، والتي تحتاج إلى التسريع بمعالجتها في إطار الحوكمة العالمية. من منظور الأشكال، تتطور المنافسة والتعاون على المستوى الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي بسرعة، وقد دفعت علاقات السلطة المختلفة الدول إلى اتباع مسارات مختلفة من المنافسة أو التعاون، مما يكوّن أشكالا متنوعة للتفاعل الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي. ويمكن أن يوفر التحليل الشامل لأثر الذكاء الاصطناعي على اكتساب السلطة الوطنية وحيازتها وتوقعها ومناقشة منطق السلطة الكامنة وراء المنافسة والتعاون الدوليين في الذكاء الاصطناعي، أفكارا جديدة لحل معضلة المنافسة الدولية، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحسين الحوكمة العالمية.
تأثير الذكاء الاصطناعي على استراتيجيات سلطة الدولة
كتقنية استراتيجية وعالمية ناشئة، يتطور الذكاء الاصطناعي بسرعة، وتوفر هذه التقنية قدرات ووسائل جديدة للبلدان على المستوى التكنولوجي، كما تؤدي أيضا إلى تغييرات عميقة في مجالات السياسة الدولية والاقتصاد والأمن. وقد أصبحت كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على استراتيجيات السلطة بين الدول أحد محاور الاهتمام في مجال العلاقات الدولية.
أولا، من منظور اكتساب السلطة، تأثرت تكاليف وفوائد الوسائل الثلاث “للعقاب” و”المكافأة” و”التنظيم” بشكل خطير، مما أدى إلى تغيير جذري في استراتيجية الدولة لاكتساب السلطة. حيث إن تأثير الذكاء الاصطناعي على اكتساب سلطة الدولة معقد وعميق: فمن ناحية، تلعب تقنية الذكاء الاصطناعي دورا تمكينيا للرقمنة والذكاء، مما يمكنه التقليل بشكل كبير من تكلفة استحواذ الدولة على السلطة.
وبدعم من التكنولوجيا الذكية، يمكن للدولة إدراك الوضع الاستراتيجي والحكم عليه في الوقت الفعلي، واختيار وسائل أكثر كفاءة لممارسة السلطة. فمنذ عام 2018، أطلق نشاط مشاريع أبحاث المخابرات المتقدمة (IARPA) (وكالة أبحاث في الولايات المتحدة) ومكاتبه عشرات المشاريع للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مشروع ميركوري، الذي يعمل على أتمتة التنبؤ بالأحداث السياسية، مما يحسن بشكل كبير من تفوقها الاستخباراتي وقدراتها على صنع القرار.
من ناحية أخرى، خلقت تقنية الذكاء الاصطناعي مجالا جديدا للمواجهة بين القوى وقدمت حاملا جديدا لتفاعل السلطة بين البلدان. كتقنية للأغراض العامة، يمكن أن تنتج عن تفاعل السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي تأثيرات الامتداد المهمة التي تزيد من مكاسب السلطة في المجالات الأخرى. فعلى سبيل المثال، مارست الولايات المتحدة وشركات التكنولوجيا التابعة لها خلال الأزمة الأوكرانية، سلطات عقابية على روسيا من خلال العقوبات والحصار والانسحابات وغيرها، وفي هذا الإطار قالت ثيا كيندلر، مساعدة وزير التجارة الأمريكي لإدارة التصدير في مكتب الصناعة والأمن: “هذا لا يجعل من الصعب على روسيا الوصول إلى التكنولوجيا الرقمية المتطورة فحسب، بل يحرم أيضا صناعتها الدفاعية والعسكرية وأجهزة الاستخبارات من الوصول إلى معظم المنتجات الغربية الصنع مما يضعف القدرة العسكرية لروسيا”. ونتيجة لذلك، يعتبر الذكاء الاصطناعي أيضا تقنية رئيسية وتخريبية واستراتيجية.
أشار وزير المالية البريطاني جيريمي هانت في 22 نوفمبر 2023 بالعاصمة لندن إلى أن المملكة المتحدة ستستثمر 500 مليون جنيه إسترليني خلال العامين المقبلين لتسريع بناء الذكاء الاصطناعي
أدت التغييرات في تكاليف وفوائد اكتساب السلطة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي إلى إمكانية استخدام المزيد من البلدان بمرونة للسلطات الثلاث المتمثلة في “العقاب” و “المكافأة” و”التنظيم”، وهي ظاهرة جديدة تختلف عن الجغرافيا السياسية التقليدية. أولا، من حيث السلطة العقابية والتي ترتبط تقريبا بالقوى الكبرى في الجغرافيا السياسية التقليدية، غالبا ما يتطلب اكتساب السلطة قوة وسيطرة قوية، وبالتالي ولدت مفاهيم استراتيجية مثل “التفوق البحري” و “التفوق الأرضي”.
أما في مجال الذكاء الاصطناعي، يمكن للبلدان وحتى الجهات الفاعلة غير الحكومية التي لا تملك القدرات العسكرية القوية الخاصة بها أن تمارس نفوذها من خلال الهجمات الإلكترونية أو حرب المعلومات أو السيطرة على تدفقات البيانات والخوارزميات. ولا يعتمد اكتساب مثل هذه القدرات كليا على القوة العسكرية التقليدية أو الحجم الاقتصادي، بل يعتمد أكثر على الابتكار العلمي والتكنولوجي، وجمع المواهب، والتطبيق الذكي للاستراتيجية والتكتيكات.
ثانيا، في ظل التطور السريع للذكاء الاصطناعي، أصبحت الطرق التي يمكن للدولة من خلالها جعل الطرف الآخر يظهر الطاعة ويحصل على فوائد من خلال المكافآت والوسائل الأخرى أكثر تنوعا وذلك يجعل التكلفة تنخفض بسرعة. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن انتشار التقنيات الرقمية وتكرارها لا يزيد من التكاليف، ويمكن أيضا أن تزداد قيمتها من خلال مشاركة المزيد من المستخدمين. لذلك، فإن القانون الاقتصادي التقليدي لتناقص العوائد الحدية لا ينطبق بشكل كامل على العالم الرقمي للذكاء الاصطناعي.
ومن منظور التفاعل الفعلي للسلطة بين الدول، فإن تقديم المكافأة من خلال الدعم الفني وتبادل البيانات والمساعدة الاقتصادية، يكاد يكون بتكلفة صفرية بالنسبة للبلد الذي يكتسب السلطة. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نوع جديد من علاقات التبعية الناتجة عن اعتماد البلدان الأكثر تخلفا من الناحية التكنولوجية على المساعدات التقنية من البلدان المتقدمة، مما يخلق حالة جديدة من عدم المساواة في العلاقات الدولية.
وأخيرا، فإن السلطة التنظيمية في مجال الذكاء الاصطناعي ليست أكثر تكاملا مع وسائل العقاب والمكافأة فحسب، بل لها أيضا تأثير أبعد مدى من ذلك. فمن ناحية، يمكن للسلطة التنظيمية أن توفر إطارا تنفيذيا أكثر “شرعية” لوسائل العقاب والمكافأة من خلال وضع المعايير الدولية، والاتفاقات التقنية، ومدونات قواعد السلوك وغيرها. فعلى سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمراجعة «اتفاقية واسنار» منذ عام 2019 لتشمل التقنيات ذات الاستخدام المزدوج والناشئة على قائمة المراقبة، مما يوفر المزيد من الإمكانيات لممارسة السلطة بشكل مشترك من خلال الوسائل العقابية مثل الحصار والعقوبات والحظر. من ناحية أخرى، على عكس المجالات التقليدية، فإن الآثار المترتبة على التدابير التنظيمية في مجال الذكاء الاصطناعي هي أبعد مدى.
في الوقت الحاضر، لا يزال الذكاء الاصطناعي في المرحلة الأولى من تطوره، وبمجرد أن تشكل دولة ما لوائح إلزامية ضد دولة أخرى، فإنها قد تجعل الأخيرة التي تعاني من السلطة تتخلف بشكل مباشر في مسيرة التطور التكنولوجي من خلال ممارسة السلطة الهيكلية، ومن الصعب عليها الوصول إلى الريادة في الثورة التكنولوجية المستقبلية. إذ يمكن لهذا النوع من السلطة تشكيل المعايير والقواعد التقنية الدولية، كما يمكنه أيضا تحديد اتجاه وسرعة التطور التكنولوجي، مما يؤثر بدوره على القدرة التنافسية الاقتصادية والموقع الاستراتيجي بين الدول. لذلك، يلعب تطبيق الوسائل التنظيمية في مجال الذكاء الاصطناعي دورا مهما في تشكيل النظام الدولي المستقبلي.
ثانيا، من منظور الاحتفاظ بالسلطة، فإن الفجوة بين السلطة المحتملة والسلطة الفعلية في مجال الذكاء الاصطناعي تسد تدريجيا، مما يغير بدوره الطريقة التي يتم بها تقييم موارد السلطة التي تحتفظ بها الدولة. حيث إنه هناك فرق بين السلطة الكامنة والسلطة الفعلية. إذ ترى السلطة الفعلية السلطة كنقطة انطلاق للسببية وتعني القدرة على تغيير نوايا الآخرين، بينما تشير السلطة الكامنة إلى إمكانية تحويل الموارد إلى قوة فعلية.
ونظرا للقيمة المضافة العالية لبيانات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات والنماذج وغيرها من موارد السلطة، فضلا عن التقييم التطلعي لاستراتيجيات الذكاء الاصطناعي من قبل البلدان، غالبا ما ينظر إلى السلطة المحتملة على أنها عامل تقييم مساو للسلطة الفعلية. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أنه لا تزال هناك فجوة بين الصين والولايات المتحدة في مستوى تنمية الذكاء الاصطناعي، إلا أن الولايات المتحدة كانت دائما حذرة من قدرة الصين السوقية ومستواها في الابتكار، وتعتقد أن الصين يمكن أن تستغلهما “لتقويض” أرباح الهيمنة التي تستحوذ عليها الولايات المتحدة حاليا على أساس التفوق التكنولوجي. ويمكن أن نلاحظ أنه في مجال الذكاء الاصطناعي، يميل تقييم علاقات السلطة إلى تضمين مجموعة واسعة من الموارد المحتملة، لذلك هناك قدر أكبر من عدم اليقين وقابلية التشغيل.
ثالثا، من منظور تطور السلطة، يتغير باستمرار مستوى قدرات الذكاء الاصطناعي وتضارب المصالح بين البلدان، مما يؤثر بدوره على تحديد الأهداف الاستراتيجية الوطنية وتوقعات السلطة. هناك عنصران أساسيان لا غنى عنهما في تكوين علاقات السلطة، أحدهما هو الفجوة في مستوى الكفاءة، والآخر هو تضارب المصالح. أما في مجال الذكاء الاصطناعي الناشئ، فإن الطبيعة المفاجئة للتطور التكنولوجي وعدم اليقين في الدلالة التكنولوجية تجعل العلاقة بين البلدان أكثر تعقيدا في هذين العنصرين: فمن ناحية، هناك مصالح مشتركة واسعة النطاق بين البلدان على المستوى الكلي في مجالات مثل أمن الذكاء الاصطناعي والمخاطر الأخلاقية وتعزيز تنمية وتمكين الذكاء الاصطناعي. ومن ناحية أخرى، وبما أن الذكاء الاصطناعي أثّر على نطاق واسع على جميع مستويات الأمن الوطني والتنمية الاجتماعية، فهناك أيضا تضارب في المصالح بشكل عام في قضايا محددة تتعلق بموضوع الحوكمة. وهذان الجانبان يزيدان من تعقيد تفاعل السلطة بين الدول.
وفضلا عن ذلك، تتحمل الدول المتقدمة التكنولوجيا مخاطر مرحلة نشأة التكنولوجيا الجديدة وفي المقابل تحصل على ميزة أنها المبادر الأول، وفي الوقت نفسه تشعر بالقلق من أن تستفيد الدول الأخرى من فرصة الطفرة التكنولوجية للحاق بالركب بسرعة وتجاوزها، لذلك تربط بشكل وثيق المزايا التكنولوجية بالأمن القومي والمصالح الوطنية، وبالتالي تصبح أكثر حساسية للتغيرات في علاقات السلطة. وتخشى البلدان التي لم تُثبت بعد تفوقها التكنولوجي أن تتبع البلدان المتقدمة منطق “الفائز يأخذ كل شيء”، مما يضع الأولى في موقف سلبي. وفي الوقت نفسه تريد هذه الدول “المتخلفة” الاستفادة من حالة عدم اليقين الناجمة عن تطور الذكاء الاصطناعي في السعي إلى تحقيق مصالح وطنية أوسع وموقف دولي أكثر ملاءمة لنفسها. وقد أدى هذان الجانبان إلى تنوع أكبر في توقعات الدول حول السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي.
العلاقات المترابطة وتباين الموارد واليقظة الاستراتيجية والمنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي
في مجال الذكاء الاصطناعي، تعد المنافسة الدولية موضوعا ساخنا، لكن المناقشات السابقة فقد ركزت بشكل أكبر على المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبيرة واعتبرت الذكاء الاصطناعي كأحد الموضوعات الفرعية، وقد ركزت أيضا بشكل أكبر على المنافسة في مجال التكنولوجيا والأعمال التجارية، بدلا من وضعها في الإطار الأوسع للسياسة الدولية. في عام 2023، بدأ المزيد من صانعي السياسات في الاهتمام بعلاقات السلطة بين الدول في مجال الذكاء الاصطناعي، وتأتي الفرصة لتفكيك المنافسة الدولية من منظور السلطة.
أولا، نظرا لإمكانية اكتساب السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر شمولا ومرونة، غالبا ما تحوّل الدول العلاقات الاستراتيجية في مجالات أخرى إلى مجال الذكاء الاصطناعي، وتستخدم السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي لتحقيق آثار تعاقبية، ما يمكن وصفه بـ”العلاقات المترابطة” والتي تُعدّ واحدة من الأمور الشائعة في المنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، فقد تحولت العلاقة الاستراتيجية المتنافسة بين الولايات المتحدة وإيران إلى مجال الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت الذي تسلم فيه الجيش الإيراني صواريخ كروز “أبو مهدي” المزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي، أرسلت الولايات المتحدة أيضا فرقة “العمل 99” للعمل مع حلفائها في منطقة الخليج لاستخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بهجمات الطائرات الميسرة الإيرانية المحتملة وإقامة الدفاع ضدها.
بالإضافة إلى ذلك، أدت المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبيرة الرئسية حتما إلى ظهور “العلاقات المترابطة” في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد صرح عضو الكونجرس الأمريكي مايكل والتز أن الذكاء الاصطناعي هو أداة مهمة للولايات المتحدة للقيام بمنافسة استراتيجية شاملة مع الصين، وإذا أرادت الولايات المتحدة ألا تخسر المنافسة بأكملها، فيجب عليها تعزيز التطور التكنولوجي بقوة وتشكيل مزاياها وتفوقها على الصين. من هذا المنظور، فإن المنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي هي، إلى حد ما، صورة مصغرة لعلاقات السلطة بين الجانبين على النطاق الأوسع والتي تعكس المنافسة على المستوى التقني وتكشف أيضا بعمق عن ديناميكيات السلطة في النسق السياسي والاقتصادي العالمي.
ثانيا، فيما يتعلق بالاحتفاظ بالسلطة في مجال الذكاء الاصطناعي، يمكن تحويل الموارد التكنولوجية الكامنة التي يمتلكها بلد ما بسرعة إلى سلطة فعلية للدولة، لذلك يسعى كل بلد إلى تراكم السلطة الكامنة على أساس مزاياها الخاصة ويسعى إلى تحويلها إلى سلطة فعلية. لم يتشكل التقسيم الدولي للعمل في مجال الذكاء الاصطناعي بعد، بينما لا تزال قواعد المنافسة والتعاون في مرحلة صياغتها، فيما تمتلك مختلف الدول مزايا مختلفة وتعيش بيئات خارجية مختلفة، مما يؤدي بسهولة إلى الخلاف والمنافسة، ونسمي ذلك “تباينا للموارد”.
فعلى سبيل المثال، في عملية التفاوض على «قانون الذكاء الاصطناعي» للاتحاد الأوروبي والدفع بتمريره، اختلفت وتنافست فرنسا وألمانيا اللتان تتمتعان بموارد الابتكار لشركات الذكاء الاصطناعي الكبيرة مثل “Mistral AI” و”Aleph Alpha”، مع دول أعضاء مثل إسبانيا، التي أرادت تعزيز وضع المعايير وتوحيد موارد السوق، مما دفع موضوع “ما اذا كان يجب تنظيم نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة ” إلى بؤرة الجدل. وهذا يشير إلى أن البلدان ذات الموارد الكامنة المختلفة لديها اعتبارات وتوقعات مختلفة للابتكار التكنولوجي وتعزيز الرقابة.
هذا الخلاف والمنافسة بين فرنسا وألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي يشبه المنافسة الأمريكية الأوروبية في مجال الذكاء الاصطناعي، أي الصدام بين “ثقافة وادي السيليكون” و”تأثير بروكسل” في مجال الذكاء الاصطناعي. ونظرا لتباين موارد السلطة وتشابه قدرات تحويل الموارد، حتى لو كان للجانبين مصالح استراتيجية مشتركة وأسس تعاونية، فسوف يقعان حتما في المنافسة حول القضايا الرئيسية، مما يؤثر على التنمية الصحية وعملية الحوكمة للذكاء الاصطناعي العالمي.
ثالثا، فيما يتعلق بتوقعات السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي، غالبا ما تشعر الدول بالقلق إزاء المخاطر والتحديات الناجمة عن عدم اليقين في التطور والتطبيق التكنولوجيين على مكانها وأمنها ومصالحها. فإذا اعتقد بلد ما أن دولة أخرى قد طورت استراتيجية تكنولوجية مهددة وقابلة للتنفيذ، فمن الممكن أن تحدث المنافسة، حتى ولو لم يكن هناك تضارب في المصالح، ونسمي ذلك “اليقطة الاستراتيجية”.
وهي ما تجسده المنافسة الاستراتيجية الحالية التي تخوضها الولايات المتحدة مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي هذا الإطار، شوهت الولايات المتحدة تفسير خطة “صنع في الصين 2025” وعرّفت استراتيجية التنمية الصينية بأنها استراتيجية تنافسية، وبالتالي عززت تصور التهديد الأمريكي لسياسة التكنولوجيا الصينية. لطالما كانت الولايات المتحدة أكثر يقظة وحساسية بسبب خوفها الطويل الأمد من إضعاف هيمنتها وحلول “لحظة سبوتنيك” في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومع تزايد نضج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واستخدامها على نطاق واسع، أصبحت كيفية إدارة التوترات الحالية بين الصين والولايات المتحدة وتخفيفها، وإيجاد مصالح مشتركة، وتجنب الوقوع في جولة جديدة من المواجهة على غرار الحرب الباردة، مصدر اهتمام مشترك للمجتمع الدولي.
استنادا إلى الجوانب الثلاثة المذكورة أعلاه، كشفت العلاقات المترابطة وتباين الموارد واليقظة الاستراتيجية في المنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي عن تعقيد تفاعل السلطة بين البلدان. ولا تعكس المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي السعي وراء التفوق التكنولوجي فحسب، بل تعكس أيضا ديناميكيات السلطة العميقة في المشهد السياسي والاقتصادي العالمي. ومع التطور السريع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أدى سوء الفهم وانعدام الثقة الاستراتيجية والمخاوف بشأن المشهد التكنولوجي المستقبلي بين البلدان إلى تفاقم المنافسة والتوترات. وهذا يدل على أن المنافسة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي ليست منافسة تقنية فحسب، بل تتأثر أيضا بعمق بعوامل متعددة مثل العلاقات الدولية والاستراتيجيات الأمنية وأنظمة الحوكمة العالمية.
البناء المشترك للقدرات والتكامل بين الأطراف المتباينة والرؤى المجردة والتعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي
تحت تأثير علاقات السلطة الدولية، تشهد الدول المتنافسة فرصا عديدة للتعاون، مما سيساعد على تعزيز التنمية الصحية للذكاء الاصطناعي وتشكيل نمط جديد لتطوير الذكاء الاصطناعي الدولي.
أولا، من منظور اكتساب السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي، إذا أرادت الدولة ممارسة سلطتها بشكل أكثر فاعلية من خلال تنفيذ وسائل العقاب والمكافأة والتنظيم بطريقة أكثر شمولية، فمن المرجح أن تميل إلى تنفيذ بعض جوانب التعاون في مجال القدرات، أي “البناء المشترك للقدرات”. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن تخفي الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا (أويكوس) في باطنها نوايا شريرة، لكن تعاونها في مجال الذكاء الاصطناعي يجسد منطق البناء المشترك للقدرات. في عام 2023 ، عقدت أويكوس أول تجربة للذكاء الاصطناعي والاستقلالية في المملكة المتحدة، في خطوة تعد الأولى من نوعها في العالم لتسريع الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، وذلك يمثل تعاونا بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في اكتشاف وتتبع الأهداف العسكرية.
وتأمل الدول الثلاث في بناء قدرات الذكاء الاصطناعي بسرعة في المجال العسكري لتتمكن من اكتساب المزيد من تفوق الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، فإن برنامج تسريع الابتكار الدفاعي في شمال الأطلسي (DIANA) التابع لحلف شمال الأطلسي، وآلية تبادل البيانات والاستخبارات في تحالف “العيون الخمسة”، وغيرها من أشكال التعاون في القدرات، تستند أيضا إلى حد كبير على نفس المنطق، أي تعزيز التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي بهدف مشترك يتمثل في اكتساب السلطة. وبطبيعة الحال، فإن التعاون في “بناء القدرات” داخل هذه التحالفات العسكرية له طابع حصري، وهدفه الأساسي هو الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مجال الذكاء الاصطناعي. إذ سيؤدي التعاون في مجال “بناء القدرات” في إطار هذه التحالفات إلى عدم المساواة في السلطات الدولية ويجلب معضلات أمنية جديدة ويهدد السلام والاستقرار الدوليين.
ثانيا، من منظور الاحتفاظ بالسلطة في مجال الذكاء الاصطناعي، تحدث الخلافات والمنافسة دائما بين البلدان التي تمر بمراحل مماثلة من التنمية، وغالبا ما يكون من السهل العثور على فرص تعاونية عندما تكون هناك فجوة معينة في القدرات بين البلدان المختلفة. ويمكن وصف هذا النوع من الشراكة، الذي يقوم على الاختلافات في القدرات، بأنه “تكامل بين الأطراف المتباينة”. وفي إطار هذا النموذج، يمكن للبلدان المتقدمة من الناحية التكنولوجية أن تساعد البلدان الضعيفة تكنولوجيا على تحسين قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال توفير الدعم الفني أو المساعدة المالية أو التعليم والتدريب.
وفي الوقت نفسه، يمكن للدول الضعيفة من الناحية التكنولوجية أيضا دعم مشاريع الذكاء الاصطناعي للبلدان المتقدمة من خلال توفير الموارد مثل العمالة والبيانات. فعلى سبيل المثال، أطلقت الصين والآسيان “مبادرة مشتركة بشأن التعزيز المشترك لتنفيذ خطة الصين والآسيان لتعزيز العلوم والتكنولوجيا والابتكار”، حيث تعهد الجانبان بتعزيز التعاون في المجالات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. إذ توفر التنمية السريعة للصين والاحتياجات المتنوعة لدول الآسيان فرصا فريدة للتعاون بين الجانبين. بالإضافة إلى ذلك، ينعكس هذا النموذج من التعاون أيضا في الشراكة بين الصين والدول العربية وبين الصين وأفريقيا في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية.
ويوضح نموذج التكامل بين الأطراف المتباينة كيف يمكن تحويل الاختلافات في موارد السلطة إلى قوة دافعة للتعاون بدلا من أن تكون ذريعة للمنافسة مع الحفاظ على خصائص ثقافات ومجتمعات كل منها، وذلك من أجل التصدي المشترك للتحديات العالمية وتعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي.
ثالثا، من منظور توقعات السلطة في مجال الذكاء الاصطناعي، غالبا ما يركز تشكيل التعاون الدولي حول رؤى مشتركة ومجردة، تتجاوز الصراع بين المصالح الوطنية المحددة والأهداف الاستراتيجية، وتعكس تباين علاقات السلطة واتساق المصالح العامة، والتي يمكن تلخيصها كونها “رؤى مجردة”، حيث تشير هذه الرؤى إلى توافق الآراء بشأن التعاون بين مختلف البلدان على نطاق عالمي على أساس فهم مشترك وتوقع للاتجاه والهدف النهائي لتنمية الذكاء الاصطناعي.
ويعزز هذا التوافق التبادلات والتعاون في مجال الابتكار العلمي والتكنولوجي، كما يوفر أيضا أفكارا ومنصات جديدة لحل المشكلات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي. وبتوجيه من الرؤى المجردة، لا تدع البلدان الصراعات حول أهداف استراتيجية محددة تعوق التعاون الدولي، لأن توافق الآراء في الرؤى المجردة مبني على مستوى أوسع، مع التركيز على المصالح الطويلة الأجل والأهداف المشتركة. ومع نشر وثائق مثل “إدارة الذكاء الاصطناعي من أجل الإنسانية” على مستوى الأمم المتحدة، فقد نفذت البلدان تعاونا متنوعا في حل التحديات العالمية، مثل إدماج الذكاء الاصطناعي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، وبناء على هذه الرؤى المشتركة، اعتمدت الأمم المتحدة قرارا تاريخيا في مارس 2024 يحدد هدف “اغتنام الفرص التي تتيحها أنظمة الذكاء الاصطناعي الآمنة والموثوقة من أجل التنمية المستدامة”.
بالإضافة إلى الآليات الدولية التقليدية التي تمثلها الأمم المتحدة في تعزيز الاستجابة للذكاء الاصطناعي، تقوم الدول حول العالم أيضا ببناء آليات تعاون جديدة حول رؤية التنمية والأمن. وفي نوفمبر 2023، أصدرت 28 دولة في العالم والاتحاد الأوروبي بشكل مشترك “إعلان بلتشلي”، والذي طرح أول بيان عالمي حول الذكاء الاصطناعي من منظور بقاء الإنسان وأمن التنمية، وهو تجسيد مهم للتضامن الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، أنشأت مراكز الفكر ومعاهد البحوث وشركات التكنولوجيا في الصين والولايات المتحدة والهند ودول أخرى وبدعم من الأمم المتحدة ما يُسمى “برامج بحوث المصلحة العامة والشبكات التعاونية الدولية من أجل التنمية المستدامة (AI4SDGs Network) “وتم تشكيل آلية تعاون مهني تركز على دعم البلدان والمناطق المتخلفة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بمساعدة الذكاء الاصطناعي. وتركز آليات التعاون الجديدة هذه على التحديات العالمية، وتمكّن البلدان المختلفة من تجاوز الانقسامات الجيوسياسية والأيديولوجية التقليدية، واستثمار الموارد والحكمة معا، وإجراء التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، وتقاسم الإنجازات التكنولوجية.
يمكن ملاحظة أنه على الرغم من المنافسة بين الدول في مجال الذكاء الاصطناعي، لا تزال هناك إمكانية وضرورة للتعاون. ويمكن للتعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي تعزيز الابتكار والتطبيق التكنولوجيين، كما يوفر أيضا زخما وأفكارا جديدة لحل مشاكل الأمن والتنمية والقضايا الاجتماعية العالمية. ويتطلب مستقبل التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي تواصلا وتنسيقا وتعاونا أعمق بين الحكومات والمنظمات الدولية ومؤسسات البحث العلمي والشركات، من أجل تحسين استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لصالح البشرية والاستجابة بفعالية أكبر للتحديات التي تنشأ في عملية التطور التكنولوجي. وفي هذه العملية، سيستمر البناء المشترك للقدرات والتكامل بين الأطراف المتباينة والرؤى المجردة في لعب دور أساسي في قيادة التعاون الدولي بشأن الذكاء الاصطناعي إلى آفاق أوسع.