المملكة العربية السعودية تقتلع مكانتها الإقليمية والعالمية بإستراتجية “العمل البراغماتي”
إعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية 26-06-2024
العالم اليوم يشهد تحولات وديناميكية متسارعة واغلب الدول إستفاقت على هذه التحولات وتسعى بطرق مختلفة مواكبتها وتخشى ان يفوتها القطار فتبقى دائما في تباعية.
والمملكة العربية السعودية قد أدركت ذلك وتحاول مواكبة كل التحولات بل وأكثر من ذلك، فهي تحاول أن تكون فاعلة وعنصرا مهم ومؤثر في الأحداث في منطقتها الإقليمية وفي العالم ككل، ودولة لا تترقب الأحداث لتتفاعل معها بل اصبحت دولة “تصنع الحدث” وتفرض قوانينها.
في أعقاب التحولات المملكة العربية السعودية الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية الأكرانية، وضعف الغرب وانسحابه من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استخدمت السعودية طاقتها ورأس مالها المالي والسياسي لتظهر كقوة وساطية تتمتع بنفوذ كبير في عالم متعدد الأقطاب والى حدّ كبير قد نجحت في ذلك.
كما تلتزم الرياض في سياستها الخارجية بنهج “العمل البراغماتي”، الذي يتميز بالديناميكية، ويهدف إلى تحقيق مصالحها الوطنية المباشرة أولا تحت شعار “المملكة أولا”.
كما تسعى السعودية إلى أن تصبح مركز اهتمام المنطقة الإقليمية بكاملها من أجل إعتلائها مقعد على طاولة المفاوضات العالمية، ممثلًا لشرق أوسط مترابط ومستقر اقتصاديًّا، وهي اليوم قد وصلت الى عتبة ترأس طاولة الشرق الأوسط والخليج والعالم العربي وبالتالي قد وصلت الى كرسي ضمن حكام العالم.
وضمن استراتجياتها على المستوى العالمي، المملكة اليوم شرعت في بناء علاقات تجارية مع مختلف البلدان وفقًا لمصالحها وخياراتها الإستراتجية، ونقاط ضعفها، التي تحاول أن تتجاوزها بحنكة كبيرة ويمكن إعتبارها قد نجحت الى حد ما، وكذلك نقول لا يزال الطريق أمامها طويل ولكن خياراتها وتكتيكها يسير في الطريق الصحيح وبسرعة كبيرة.
كما لا ننسى أن المملكة العربية السعودية تعد شريكًا اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا متزايد الأهمية لأوروبا، وتضطلع بدور حاسم في المناقشات العالمية بشأن تغير المناخ، والاتصالات، والطاقة… واغلب الدول الأوروبية تدرك أهمية الرياض وبذلك يسعون للتعاون معها بل وأكثر وطلب رضاها.
وبالتالي لتعزيز موقفهم تجاه المملكة، يجب على الدول الأوروبية إشراك الرياض على نحو أكثر نشاطًا في المفاوضات العالمية- على سبيل المثال بشأن الحد من المخاطر- والتركيز على أن يصبحوا شركاء مفضلين في المجالات ذات الاهتمام المشترك، مثل الطاقة، والمناخ، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، والاتصالات، والتكنولوجيا، والمملكة تدرك ذلك تمام الإدراك وتتعامل بحرفية كبيرة معهم… فليست المملكة من تسعى وراء أوروبا بل هم من يسعون ويحاولون إرضائها.
وبشكل عام وغير موضوعي، اللوبي الليبرالي في الاتحاد الأوروبي ينظر إلى المملكة العربية السعودية من منطلق مصالحه الخاصة، ويسعى جاهدًا إلى التكيف بشكل “انتهازي” مع الوضع المتغير.
وبناءً على ذلك، تنظر الدول الأخرى إلى السعودية من منظور مصالحها وقيمها الخاصة، وماذا يمكن أن تستفاد من المملكة كقوة إقتصادية عالمية.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال تنكر التقدم التي عملت عليه المملكة ووصلت إليه، فهي لا تزال أكثر قسوة في تعريفاتها للمملكة العربية السعودية ولا تزال نظرتها “قديمة” ولا تريد الإعتراف بما وصلت إليه المملكة “الحديثة”.
فمثلا مجلة نيوزويك، قد قيّمت المملكة العربية السعودية على أنها “دولة متأرجحة، لم تقرر سياستها الخارجية بعد”.
طبعا فالغطرسة الأمريكية تقول من ليس معنا فهو ضدّنا، والمملكة التي تفتح الأبواب للشراكات المتعددة تخالف “القانون الأمريكي” وربما في وقت لاحق تصنفها على أنها عدوة وهذا راجع بالأساس إلى المسار الذي تنتهجه المملكة حاليًا.
موقف المملكة اليوم يتوازن في ظل الاضطراب العالمي الحالي
في الواقع، تريد القيادة السعودية أن يكون لها وزن جدّي في العلاقات مع جميع الجهات الفاعلة الرئيسة، مثل روسيا، والصين، والولايات المتحدة واختارت منهجها الواضح اليوم “لا تبعية بعد اليوم الى أي جهة” فالقرار السيادي للمملكة أصبح أولاوية المملكة.
وتتأكد هذه السياسة من خلال حقيقة أنه في عام 2023، أنفقت السعودية (87.112.626) دولارًا على جهات الضغط لأجل مصالحها في الولايات المتحدة، وهو أعلى رقم في السنوات الثماني الماضية.
وفي الوقت نفسه، سُجّلَ 16 كيانًا للضغط، وفي السابق، كانت المملكة تنفق من 10 إلى 30 مليون دولار سنويًّا لهذه الأغراض. ومن غير المرجح أن تشارك المملكة في هذه الاستثمارات في ظل موقف عدائي، مع أن هذا مبلغ صغير قياسًا إلى ميزانية البلاد.
ومن ناحية أخرى، كل الموازين قد تغيرت في منطقة الشرق الأوسط فلقد تحسّنت العلاقات مع إيران، وهو ما أصبح ممكنًا من خلال وساطة العراق والصين.
كذلك سقوط مشروع التطبيع مع إسرائيل، التي وجدت نفسها، بسبب سياسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، معزولة في جميع البلدان العربية والإسلامية تقريبًا، وجُمِّدَ اتفاق تطبيع العلاقات الثنائية وانتهى مشروع “الصهيوالأمريكي” مع المملكة.
ومع ذلك، فالأمريكان والصهاينة مستمرين في مكائدهم ضد القيادة السعودية بطريقة فضّة احيانا وأحيانا أخرى بطريقة ملتوية ورغم كل هذا فإنّ الأولوية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، هي السياسة الإقليمية والمصالحة مع محيطه الإقليمي ومع الجيران.
ومما يؤكد ذلك بعد رجوع الديبلوماسية النشطة مع إيران تعلن المملكة تعيين سفير جديد لدى سوريا، ليصبح أول سفير للمملكة في دمشق منذ انقطاع العلاقات مع اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، وقد استُقبِلَ هذا التعيين على نحو إيجابي في روسيا والعكس كان سلبيا في واشنطن والغرب.
وضمن سياسة الإنفاتح والإبتعاد عن “العداوات التي صنّعت في غرف الإستخبارات” والتي يدرك الأمير محمد بن سلمان كيف صنعت ومن ورائها تؤكد المملكة على انها قد تجاوزت كل الخلافات وأنها تبني لنفسها عصرا جديدا “متصالح” مع كل دول المنطقة، كما تعرض المملكة نفسها على أنها مع السلم والتعايش مع محيطها الإقليمي.
فمثلا وفي السابق، لم يَزُر أي دبلوماسي سعودي، أو أي مسؤول آخر، المزارات الشيعية، وفي سابقة من نوعها فقد زار السفير السعودي لدى بغداد، عبد العزيز الشمري، مرقد الإمام الحسين في كربلاء، وهو المزار الشيعي الرئيس في العراق، وكان برفقة السفير محافظ كربلاء نصيف جاسم الخطابي، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين، وشخصيات دينية تحدثوا عن “التكامل الاقتصادي والسياسي في المجالات كافة”.
وتنسب مصادر عربية هذه المبادرة على نحو مباشر إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي ينتهج بثبات سياسة تحسين العلاقات مع جيرانه.
وفي نهاية أبريل، أُعلِنَ إطلاق رحلات جوية مباشرة بين مدينة الدمام شرقي المملكة العربية السعودية ومدينة النجف جنوب العراق، التي تضم مزارًا شيعيًّا آخر لا يقل أهمية عن كربلاء، حيث يقع قبر الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد وصهره… وبحسب المختصين فهي خطوة ذكية جدا من ولي العهد فهو بذلك يقطع طريق “الفتنة الطائفية” التي تعمل عليها اسرائيل وواشنطن.
تجدر الإشارة إلى أن السعودية لديها برنامج رؤية 2030، الذي يتضمن أيضًا مبادرات دبلوماسية إقليمية.
تقدم هذه الرؤية تنويعًا طموحًا يهدف إلى تشجيع الاستثمار من خلال التبادلات الاقتصادية والثقافية.
على الجانب الآخر المملكة تدرك جيدا أهمية الجارة العراق، وذلك لاسباب عدّة نذكر منها:
السبب الأول: الحدود الطويلة والشاسعة، لدى البلدين حدودًا طويلة إلى حدًّ ما، وبالنظر إلى التجربة السلبية لظهور داعش، فإن الرياض ترغب في أن يكون لها جارة تتمتع بمستوى مناسب من الأمن.
السبب الثاني: بسبب تنفيذ طريق لوجستي عبر العراق وتركيا، يعرف بالقناة الجافة، أو طريق التنمية. وهذا مشروع اقتصادي حيوي للعراق، وسلطات البلاد “تدعو الجميع إلى المساهمة في إنجاح هذا المشروع الذي يمثل حلقة وصل بين الشرق والغرب”.
السبب الثالت: وبالعودة إلى عام 2023، أعربت السعودية عن استعدادها للاستثمار في جميع محافظات العراق، وقبل ذلك ببضع سنوات قدمت للعراق قرضًا بمبلغ مليار و500 مليون دولار.
السبب الرابع: إن الحصول على حصة في مشروع القناة الجافة، مع توزيع الأرباح المقابلة في المستقبل، سيكون فرصة جيدة للمملكة؛ ومن ثم فإنها لن تفوت هذه الفرصة. كما أن تعزيز الثقة المتبادلة سوف يسهم في ذلك.
إنفتاح المملكة على روسيا يزعج واشنطن
ومن مصادر مقربة من الرئيس فلادمير بوتن فإنّ الأخير معجب كثيرا بذكاء وحنكة ولي العهد السعودي ويراه زعيما عربيا له مستقبل كبير وسيساهم في تأمين منطقة الشرق الأوسط.
فلقد رحّبت روسيا بهذه المبادرات التي من شأنها تحسين الوضع في الشرق الأوسط، خاصة في الأماكن المتأثرة والمتضررة من الصراعات، التي تشمل إلى جانب العراق (اليمن، وفلسطين، ولبنان، وسوريا).
أما فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية، فهي تتطور في اتجاه الثقة المتبادلة التي تراعي مصلحة الطرفين.
وأعربت موسكو عن تقديرها لمكانة المملكة في أوبك، خاصة في ظل محاولات واشنطن السابقة لتغيير سياسة تسعير النفط.
في أغسطس 2003، أُرسلت شحنة في رحلة تجريبية لقطار على طول الممر الجنوبي من روسيا، وكانت الوجهة النهائية هي مدينة جدة السعودية.
على الرغم من كل هذه النجاحات في العلاقات الثنائية السعودية- الروسية، فإن هناك حاجة أيضًا إلى تفهم أنها ما زالت تمس مجالات السياسة العليا، والمشروعات الاقتصادية الكبرى.
ومن أجل تغيير التفكير على المستوى الشعبي في الشارع، تحتاج السعودية إلى مشروعات مختلفة داخل روسيا حتى تظهر صورتها وقدراتها على مستوى مناسب يليق بمكانتها، والتطورات التي أحدثها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
إذا كانت قد موّلت في السابق دورات اللغة العربية، مع التركيز على دراسة القرآن الكريم، فمن المحتمل أنه سيكون من الممكن الآن إيجاد طرق أخرى لإظهار ثقافتها، وتقاليدها، وابتكاراتها، وستجد استجابة جيدة بين المواطنين الروس.
الخلاصة
وفي الختام يمكن القول أن المملكة العربية السعودية قد بدأت تواكب وخاصة تشارك وبفاعلية كل التحوّلات الإقليمية والعالمية، وهي تخطوى خطوات عملاقة في كل المجالات الإقتصادية الثقافية والسياسية الداخلية.
وأهمّ خطوة هي إدراكها لأهمية محيطها الخارجي وخاصة محيطها الإقليمي وجيرانها فهناك تطوّر ايجابي، وهذا المنهج الذي ترسمه اليوم سيكون من أهم اسباب نجاحها.