المفاوضات غير المباشرة: من هو البديل عن هوكستين؟

إعداد كلير شكر: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 24-10-2025
يجزم دبلوماسيّ عربيّ أنّ لبنان ليس أولويّة على الأجندة الأميركيّة، بمعنى أنّ إدارة دونالد ترامب غير مستعجلة لترتيب هذا الملفّ على نحو سلميّ، ولا هي متحمّسة لخيار التصعيد العسكريّ. وفق توصيف الدبلوماسيّ، الملفّ اللبنانيّ مجمّد، وليست هناك نيّة في الوقت الراهن لتسخينه أو تبريده. ولكنّ هذا لا يعني أبداً أنّ إسرائيل ملتزمة هذه الأجندة، كما يقول، لأنّ المؤشّرات العسكريّة من جانب الحدود الجنوبيّة للبنان باتت مقلقة.
بناء عليه، لم تفهم مصادر دبلوماسيّة متابعة توقيت دعوة رئيس الجمهوريّة جوزف عون المفاجىء إلى إحياء المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، حين أعلن أنّه “سبق للدولة اللبنانيّة أن تفاوضت مع إسرائيل برعاية أميركيّة والأمم المتّحدة، فنتج اتّفاق لترسيم الحدود البحريّة”.
ثمّ تساءل: “ما المانع أن يتكرَّر الأمر نفسه لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، لا سيما أنّ الحرب لم تؤدِّ إلى نتيجة، فإسرائيل ذهبت إلى التفاوض مع حركة حماس لأنّه لم يعُد لها خيار آخر بعدما جرّبت الحرب والدمار؟”.
اللافت أنّ الرئيس نبيه برّي سارع بدوره إلى نسف هذا الطرح من خلال كشفه أنّ مسار التفاوض المقترَح قد سقط بسبب رفض تل أبيب التجاوب مع مقترح أميركيّ بهذا الشأن، قائلاً لـ”الشرق الأوسط” إنّ المسار الوحيد حاليّاً هو مسار “الميكانيزم”.
قال الرئيس برّي إنّ “الموفد الأميركي توماس بارّاك أبلغ لبنان بأنّ إسرائيل رفضت مقترحاً أميركيّاً يقضي بإطلاق مسار تفاوضيّ يُستهلّ بوقف العمليّات الإسرائيليّة لمدّة شهرين، وينتهي بانسحاب إسرائيليّ من الأراضي اللبنانيّة المحتلّة وإطلاق مسار لترسيم الحدود وترتيبات أمنيّة”.
إذاً لماذا تقصّد رئيس الجمهوريّة التأكيد أنّه “لا يمكن أن نكون نحن خارج المسار القائم في المنطقة، وهو مسار تسوية الأزمات، ولا بدّ أن نكون ضمنه”؟
وفق المعلومات الرسميّة، ثمّة تفاهم لبنانيّ – لبنانيّ على آليّة التفاوض وشكله، بمعزل عمّا يصدر من مواقف علنيّة قد لا تعبّر أحياناً عن حقيقة الموقف. والأهمّ من ذلك هو أنّ هذا المسار مرتبط بضمانات أميركيّة مطلوبة تثبت التزام إسرائيل في حال انطلقت المفاوضات لكي لا تكون عبثيّة.
يجزم دبلوماسيّ عربيّ أنّ لبنان ليس أولويّة على الأجندة الأميركيّة، بمعنى أنّ إدارة دونالد ترامب غير مستعجلة لترتيب هذا الملفّ على نحو سلميّ.
الرّدّ على “الحزب“
في هذا السياق، تؤكّد مصادر مطّلعة أنّها ليست المرّة الأولى التي يتحدّث فيها رئيس الجمهوريّة عن ضرورة إحياء المسار التفاوضيّ، لكنّ إبراز هذا الموقف في هذا التوقيت يرتبط بمسألتين:
- التطوّرات في المنطقة التي تسير باتّجاه تفعيل مسارات السلام.
- اندفاع “الحزب” إلى إعلان رفضه بشكل علنيّ وحاسم تسليم السلاح، وكأنّ “الحزب” قرّر مواجهة المجتمع الدولي بعدما صار يلمّح إلى تعهّد حصل عليه من جوزف عون عشيّة انتخابه.
من هنا يسود الاعتقاد أنّ رئيس الجمهوريّة تقصّد مخاطبة المجتمع الدوليّ لتأكيد خيار التفاوض غير المباشر مع إسرائيل والوصول إلى تفاهمات، وخيار حصريّة السلاح، لا سيما بعد “ترحيب” الحكومة بخطّة الجيش، الذي بدا وكأنّه تراجع عن قرارات 7 و9 آب المنصرم.
لبنان متروك
لكن على الهامش يسود انطباع دبلوماسيّ بأنّ لبنان أطلق العنان لهذا النقاش، بخلفيّة شعور السلطة أنّها “متروكة” دوليّاً، بدليل عدم دعوتها إلى لقاء شرم الشيخ، وتراجع حركة الموفدين الدوليّين والعرب، وهو ما يدلّ على انكفاء الاهتمام الدوليّ بالملفّ اللبنانيّ.
من هنا كانت المبادرة لإحياء المفاوضات غير المباشرة، في محاولة لتعويض هذه “اللامبالاة” واستدراج الاهتمام الدوليّ. ذلك لأنّ السلطة اللبنانيّة تدرك أنّ التفاوض مع إسرائيل هو مطلب أميركيّ ألحّت عليه إدارة ترامب لفترة طويلة، لكنّ العقدة تكمن في إصرار الجانب اللبناني على وجود وسيط يتولّى نقل الرسائل، أسوة بالدور الذي تولّاه آموس هوكستين، وهو الأمر غير المتوافر راهناً.
تؤكّد مصادر مطّلعة أنّها ليست المرّة الأولى التي يتحدّث فيها رئيس الجمهوريّة عن ضرورة إحياء المسار التفاوضيّ.
في المقابل، يرى دبلوماسيّون غربيّون أنّ إسرائيل غير مستعجلة أصلاً على التفاوض مع لبنان مباشرة ولا عبر وسيط، ذلك لأنّ حرّية الحركة الممنوحة لها عسكريّاً من الجانب الأميركي تعطيها هامشاً عسكريّاً واسعاً، أقلّه في هذه المرحلة، قد لا تستغني عنه.
مع ذلك، يعتقد الدبلوماسيون أنّ أقصى ما يمكن لإسرائيل أن تطلبه من لبنان هو ترتيبات أمنيّة لأنهّا لا تطمح إلى توقيع اتّفاق سلام يعيد الاستقرار التامّ إلى لبنان، ويجعله وجهة تنافسيّة لها.
ما هي هذه الترتيبات الأمنيّة؟
حتّى الآن، لا تزال هذه الترتيبات موضع تكهّنات، لكنّ البعض يستعيد تجربة الرئيس السوريّ الراحل حافظ الأسد في الاتّفاق على ترتيبات أمنيّة، بقيت غير معلنة وغير موثّقة، مع كلّ من إسرائيل وتركيا، تحت عنوان “حقّ التعقّب الساخن”… لتقدير طبيعة هذه الترتيبات.
تُعرف هذه الترتيبات في الأدبيّات السياسيّة والأمنيّة باسم “حقّ التعقّب الساخن” (Right of Hot Pursuit).
أوّلاً: مع تركيا من خلال اتّفاق أضنة الأمنيّ (1998) حين التزمت سوريا وقف دعمها لحزب العمّال الكردستانيّ وطرد عبدالله أوجلان. سمح الاتّفاق بشكل غير مباشر لتركيا بالتعقّب الساخن داخل الأراضي السوريّة لمسافة محدودة (يُقال 5 كلم).
لم يُعلنه الاتّفاق بهذا المصطلح، لكنّه تضمّن ترتيبات ميدانيّة تجيز عمليّات محدودة على الحدود تحت علم الجيش السوري أو بتنسيق أمنيّ مباشر. هذا الحقّ لم يكن مطلقاً، بل مشروط بالتنسيق وبأن لا تُعتبر العمليّة انتهاكاً واسعاً للسيادة السوريّة.
ثانياً: مع إسرائيل بعد اتّفاق فكّ الاشتباك عام 1974 برعاية هنري كسينجر، فتمّ إنشاء منطقة فصل في الجولان بإشراف قوّات الأمم المتّحدة (الأندوف). وافق حافظ الأسد في حينه على ترتيبات أمنيّة تمنح إسرائيل عمق إنذار مبكر وحرّية مراقبة جوّية على طول خطوط الجبهة، مقابل ضمان عدم دخول قوّات إسرائيليّة إلى مناطق معيّنة. كان الأمر عُرفاً أمنيّاً ضمنيّاً أكثر منه نصّاً مكتوباً.



