المعاهدة الروسية الإيرانية… هل تشكل متغيرًا جديدًا في المنطقة؟
إعداد الدكتور أحمد دهشان قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 21-01-2025
بعد عدة جولات من المفاوضات، وبعد وقت قصير من توقيع روسيا معاهدة دفاعية مع كوريا الشمالية وبيلاروس، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني مسعود بزشكيان، يوم 17 يناير في الكرملين “معاهدة الشراكة الإستراتيجية بين الاتحاد الروسي والجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
طرح توقيت توقيع هذه المعاهدة عدة أسئلة عن تأثيراتها، وهل تشكل متغيرًا جديدًا قد ينعكس على المنطقة، وربما العلاقات الدولية في منطقتي الشرق الأوسط وأوراسيا، أم مجرد اتفاقية لا تخرج عن نطاق تنظيم العلاقات الثنائية على نحو أكثر مؤسسية بين البلدين؟
أبرز نصوص المعاهدة
يتكون نص المعاهدة المنشور على الموقع الرسمي للكرملين من 47 مادة، بالإضافة إلى الديباجة. ثلث الوثيقة مخصص لقضايا التعاون العسكري الفني الثنائي (من تبادل الوفود العسكرية، وزيارات السفن الحربية إلى مواني بعضها البعض، وتدريب الأفراد العسكريين على الأنشطة العسكرية المشتركة، والتعاون في مواجهة التهديدات المشتركة، والأمن الدولي، والتعاون في مجال الحد من الأسلحة، ومجال أمن المعلومات الدولي).
في فقرة منفصلة المادة الثانية عشرة، اشترطت موسكو وطهران أن تُسهما في “تعزيز السلام والأمن في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى وما وراء القوقاز والشرق الأوسط”، وأن تتعاونا من أجل منع “التدخل في هذه المناطق والوجود المزعزع للاستقرار هناك لدول ثالثة”.
وعلى عكس معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين روسيا وكوريا الشمالية، المبرمة في عام 2024، فإن الاتفاق مع إيران لا يحتوي على بند ينص على أنه “إذا تعرض أحد الطرفين لهجوم مسلح من أي دولة أو عدة دول؛ ومن ثم وجد نفسه في حالة حرب، فإن الطرف الآخر سيقدم له على الفور المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات”، حيث حددت بدلًا من ذلك “المادة الثالثة في البند الثالث” آلية عمل مختلفة بين موسكو وطهران، نصت على أنه إذا كان أحد الطرفين “عرضة للعدوان”، فلا يجوز للطرف الآخر “تقديم أي مساعدة عسكرية أو أي مساعدة أخرى للمعتدي من شأنها أن تُسهم في استمرار هذا العدوان”.
عالجت المعاهدة مسألة الحركات الانفصالية في (المادة الثالثة من البند الرابع)، حيث جاء نصها كالتالي: “الطرفان المتعاقدان لا يسمحان باستخدام أراضيهما لدعم الحركات الانفصالية، وغيرها من الأعمال التي تهدد استقرار وسلامة أراضي الطرف المتعاقد الآخر، فضلًا عن الأعمال العدائية ضد بعضهما البعض”.
نصت (المادة الرابعة من البند الأول) على “عملية تعزيز الأمن الوطني، ومواجهة التهديدات المشتركة، وتبادل أجهزة الاستخبارات والأمن التابعة للطرفين المتعاقدين المعلومات والخبرات، ورفع مستوى تعاونها”.
ولأهمية بحر قزوين لكلا الطرفين، نصت (المادة الثالثة عشرة من البند الثالث) على “تعاون الطرفين المتعاقدين من أجل تعزيز الشراكة المتعددة الأوجه بين دول منطقة بحر قزوين وتعميقها”.
كما شددت على الاتفاقيات السابقة، وضرورة الالتزام بها “عند التعاون في بحر قزوين، تسترشد الأطراف المتعاقدة بالمعاهدات الدولية الخماسية الحالية لدول بحر قزوين، التي انضم إليها الاتحاد الروسي والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتؤكد الاختصاص الحصري لدول بحر قزوين في حل القضايا المتعلقة به، وعمل الأطراف المتعاقدة على تحسين التعاون الثنائي في القضايا المتعلقة ببحر قزوين”.
تحتوي المعاهدة أيضًا على عدة بنود بشأن تعزيز التعاون في مجالات مثل التجارة والاقتصاد والنقل، والاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والرعاية الصحية والتعليم، واستكشاف الفضاء، والتبادلات الثقافية، وغيرها.
الاستنتاجات
بعيدًا عن باقي بنود المعاهدة، التي لا تشكل جديدًا أو تغييرًا جوهريًّا في علاقة كلا البلدين، يمكن استخلاص عدة استنتاجات من أبرز ما ذُكِرَ في بنودها، وهي كالتالي:
تدرك كل من روسيا وإيران أن منطقتي الشرق الأوسط وأوراسيا مقبلتان على متغيرات جديدة، وقد تكون عميقة، على إثر عملية السابع من أكتوبر 2023، والحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا منذ عام 2022، وحاجتهما إلى الاستعداد لهذه المتغيرات، عبر تحويل العلاقات الثنائية من إطار التفاهمات المرتبطة بالأحداث ومتغيراتها إلى شكل أكثر مؤسسية، مُلزم لأي قيادة مستقبلية.
ارتباطًا بالإدراك المشترك من كلا الطرفين للمتغيرات القادمة، ومع مجيء إدارة أمريكية جديدة يقودها دونالد ترمب، الذي تعهد بإنهاء الحرب في أوكرانيا، وإجبار إيران على التوصل إلى اتفاق نووي جديد في مصلحة الولايات المتحدة، وانعكاسات هذه المتغيرات على سياسات كلا البلدين، مع إمكانية صعود تيار جديد داخل الإدارة الروسية والإيرانية قادر على التعامل مع هذه الوقائع المختلفة عن الماضي، تمثل هذه الاتفاقية عامل “أمان” لعدم تدهور العلاقات، أو تقديم أي طرف علاقاته مع الجهات الغربية على حساب العلاقات القائمة الحالية.
توضح المادة الثانية عشرة القلق الموجود لدى قيادة كلا البلدين من أن تؤثر هذه المتغيرات في علاقتهما، والمصالح المختلفة لهما في مناطق التماس المشتركة بحر قزوين، وآسيا الوسطى، وما وراء القوقاز، والشرق الأوسط في ظل وجود لتضارب المصالح بين عدة أطراف، أبرزها أوروبا، والولايات المتحدة، والصين، إلى جانب الفواعل الإقليمية، وعلى رأسها تركيا التي تشهد سياساتها توسعًا ونفوذًا متزايدًا في جميع هذه المناطق.
اكتفت المعاهدة في المادة الثالثة من البند الثالث بـ”تحييد” كلا البلدين في حال نشوب نزاع بين أحدهما وأي طرف آخر، دون ربط مصير أحدهما بالآخر، عبر اتفاقية دفاع مشترك، وفي الوقت نفسه ضمان عدم استخدام أي منهما لصالح طرف ثالث، وهو ما قد يشير إلى وجود تصورات لدى موسكو وطهران أن هناك انفتاحًا جديدًا في العلاقات مع واشنطن، وما يمكن تسميته “إعادة تموضع إستراتيجي” لكلا البلدين، عبر الاستفادة من تجارب الماضي، سعيًا إلى تجنب تحول إيران إلى المعسكر الغربي، ومن خلال قيادة جديدة قد تشكل عامل ضغط على روسيا والعكس، في حين راعى هذا البند الواقعية في عدم إمكانية استمرار كلا البلدين في حالة عداء مفتوح مع الغرب الجماعي؛ لذا سعيا إلى تجنب أي أثر سلبي قد يقع على أي منهما يستفيد منه طرف ثالث.
مسألة الانفصالية تشكل عامل قلق لكلا البلدين، وتاريخهما المشترك في هذا المجال ليس بالجيد بالمرة. أدت الحروب الروسية الفارسية من عام 1804 إلى عام 1813 إلى خسارة إيران الأراضي التي كانت تحكمها في منطقة القوقاز، وبعض مناطق آسيا الوسطى، وتقليص مساحتها مع فقدانها محيطًا قادرًا على أن يشكل فضاءً خاصًا لها، وحشرها في الهضبة الإيرانية لتصبح معزولة ومختلفة عن بقية جيرانها.
كما أن الإيرانيين لم ينسوا أن القوات الروسية دخلت الأراضي الإيرانية مرتين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي الأخيرة دعمت قيام كيانين انفصاليين، هما جمهورية أذربيجان الشعبية، في شمال إيران للقومية الأذرية (1945- 1946)، وجمهورية مهاباد الكردية، في أقصى شمال غرب إيران (1946)، وبذلك أُسِّسَ كيانان؛ أحدهما أذري والآخر كردي، ولولا التدخل البريطاني لربما ظلا منفصلين عن إيران حتى الآن، ولتبعهما بقية القوميات الأخرى، وتحولت إيران إلى عدة دويلات.
في المقابل، دعمت إيران البهلوية والجمهورية في حقبة الإمام الخميني، الحركات الانفصالية في القوقاز وآسيا الوسطى، والمقاتلين في أفغانستان.
تمثل المادة الثالثة من البند الرابع ما يبدو تسليمًا من كلا البلدين بتغير توجهاتهما عما قريب، والحاجة إلى ضمان عدم تأثير هذا التغير في دعم أي طرف للحركات الانفصالية ضد الآخر، وربما يعبر ذلك عن خشية مشتركة من التأثير الغربي في ظل المرحلة المقبلة التي ستشهد فيها منطقتا أوراسيا والشرق الأوسط إعادة رسم لخرائطهما الموروثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
يمثل بحر قزوين، الغني بثرواته الطبيعية التي لم تستغل بعد بالشكل الكافي، أهمية مشتركة لكلا البلدين، وقد حُرمت الدول المطلة عليه، سواء في العهد السوفيتي وما بعد تفككه، من الاستفادة من ثرواته الطبيعية؛ نتيجة الخلافات بشأن تحديد وضعه القانوني بحر أم بحيرة؟ لوضع الأسس القانونية لتقاسم الثروات فيه.
كان لدى موسكو وطهران تخوف مشترك من أن ترسيم حدود الدول الخمس المطلة على البحر قد يؤدي إلى سماح بعضها بدخول جهات أجنبية فيه، وبفضل تعاونهما تمكنا، في 12 أغسطس 2018، من فرض رؤيتهما على الدول الثلاث الأخرى المتشاطئة (كازاخستان، وأذربيجان، وتركمانستان)، وتوقيع معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين، التي نصت -من ضمن عدة بنود أخرى- على “منع وجود قوات مسلحة للقوى الأجنبية الإقليمية والدولية في بحر قزوين”، وللحفاظ على هذا “المكسب” المشترك، نصت (المادة الثالثة عشرة من البند الثالث) على ضرورة التزام كلا البلدين بما ورد في هذه المعاهدة؛ لضمان -فيما يبدو- عدم دخول أي قوة أجنبية للبحر إذا حدث انفتاح إيراني على الغرب.
الخاتمة
تؤهل فيما يبدو موسكو وطهران أنفسهما لعالم جديد متغير، وتدركان أن ما جمعهما حتى اللحظة لم يعد يشكل ضمانة لاستمرار العلاقات، وأن ما سيفرقهما في المستقبل ربما يفوق أي عوامل اتفاق في ظل عملية “إعادة التموضع الإستراتيجي” المقبلتين عليها.
وللتخفيف من وطأة هذا الأمر، جاء تنظيم شكل العلاقات القادمة بما لا يؤدي إلى أضرار جسيمة لأي طرف، بالاستفادة من تجارب الماضي الإمبراطوري لهما، حين أدى الصراع فيما بينهما لأن يصب في صالح بريطانيا العظمى، وفي العهد الجمهوري من خلال صراعهما في الحرب الباردة، الذي ربحت منه الولايات المتحدة، مع حاجتهما إلى التعاون المشترك لضبط النفوذ التركي المتنامي على حسابهما.
أخيرًا، جمعت المعاهدة كل الاتفاقيات السابقة بين البلدين، ووضعتها في إطار مؤسسي جديد، حيث نصت الديباجة على الاسترشاد بجميع الاتفاقيات القائمة بين الأطراف المتعاقدة، بما في ذلك الإعلان المشترك بين البلدين، المؤرخ في 16 يونيو (حزيران) 2020، بشأن تعزيز دور الحقوق الدولية، والمعاهدة بين جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية وبلاد فارس بتاريخ 26 فبراير (شباط) 1921، ومعاهدة التجارة والملاحة بين اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية وإيران بتاريخ 25 مارس (آذار) 1940، ومعاهدة أصول ومبادئ التعاون بين الاتحاد الروسي والجمهورية الإسلامية الإيرانية، المؤرخة في 12 مارس (آذار) 2001.