أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

المخطط الأمريكي ينجح ويعصف بالإنتخابات الأوروبية: واليمين يصعد بتكتيك أمريكي ويضرب بقوة  

سجلت أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا زيادة في عدد المقاعد بحصولها على المركز الأول في إيطاليا وفرنسا والمركز الثاني في هولندا وألمانيا، في أجواء مضطربة وانتقادات شعبية كبرى للتيارات السياسية السائدة.

وتبرز أهمية هذه الانتخابات في أن المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي معنيان بصياغة ومناقشة وإقرار وفرض الإلزامية على الدول الأعضاء للقوانين والتنظيمات والمعايير التي تمس المسائل الأمنية والدفاعية والزراعية والمالية والبيئية والهجرة.

وقبل الحديث عن رياح التغيير التي هبَّت على أوروبا مجددًا، ورفعت أسهم الأحزاب اليمينية، لا بد من الإشارة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ليست على وفاق تام بينها فالعلاقات تسودها الكثير من التوترات الداخلية فضلًا عن خلافات وتنافس الدول الأوروبية فيما بينها وهذا ما تدركه الولايات المتحدة الأمريكية وما تستغله لصالحها فهي تتلاعب بالدول الأوروبية وتجعلها تحت أمرها فالأمريكان يهيمنون على الأوروبيين.

فهناك دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق وهي دول تابعة إلى حد كبير للولايات المتحدة، ويبرز ذلك واضحًا في مواقفها من العلاقة مع روسيا والحرب الأوكرانية، وبخاصة دولة رومانيا، وبولندا التي شاركت في تفكيك الكتلة الشرقية، واعتراف كثير من سياسييها بتبعيتهم لأميركا.

 وكذلك جمهوريتا ملدوفا وجورجيا اللتان تقودهما سياسيَّاتٍ تلقَّيْن تعليمهُن في الجامعات الأميركية، وعملن في شركاتها، وطبقن سياساتها.

وهناك دول مركزية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا التي تتفاوت علاقاتها بالولايات المتحدة، إذ تسير في فلكها في كثير من الملفات السياسية مع هامش ضئيل في المناورة والنزوع إلى الاستقلال الذي لا تتمكن من بلوغه في أغلب الملفات الخارجية.

علمًا بأنَّ كثيرًا من قادة أوروبا بمن فيهم قادة بريطانيون قد تلقوا تدريبات ودورات في القيادة في معاهد أميركية، وعمل بعضهم في شركاتها.

 كرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، فضلًا عن زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر، والمرتبط بعلاقة عميقة ومشبوهة مع الولايات المتحدة، والذي انضم مع كبار السياسيين العماليين إلى قوائم الأعضاء السرية في المشروع البريطاني الأميركي (BAP).

 وهو المشروع الذي أنشئ في الثمانينات بتمويل من السفارة الأميركية وسط مخاوف وكالة المخابرات المركزية بشأن الانجراف “المعادي لأميركا” في حزب العمال، حسبما كشفته صحيفة Declassified.

موقف الدول الأوروبية من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، إذ كانت ترى أن تركيا بمثابة “حصان طروادة” الأميركي الذي سيفضي انضمامه للاتحاد إلى إضعاف الدول المركزية ألمانيا وفرنسا من خلال نصاب التصويت على القرارات الأوروبية.

ومن الأمثلة عليها أيضًا ملف العلاقة الأوروبية مع روسيا، حيث حاولت ألمانيا وفرنسا تحديدًا الحفاظ على البيئة الأمنية الأوروبية من خلال علاقة جيدة مع روسيا، إذ رفضت فرنسا تصنيف حلف الأطلسي لروسيا كعدو رئيسي، وحاولت التقليل من أهمية الحلف، ودعت إلى الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة، عبر دعوة ماكرون لإيجاد قوة أوروبية موازية بغرض تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة في الجانب الأمني، وسعيه للاستقلال عن أميركا في العلاقة مع الصين وتمسكه بمناطق النفوذ الفرنسي في غرب القارة الأفريقية، وفي هذا السياق قال ماكرون: “نرفض أن نصاب بالعمى قصير الأمد، والذي يقودنا للرهان بكل شيء على المظلة الأميركية… لا نريد الاستيقاظ متأخرين”. وقال: “لا توجد سيادة جيدة إذا كان المرء تابعًا. لا توجد أوروبا قوية”.

وهذا إلى جانب محاولة فرنسا اللعب خارج الصندوق في الملف الليبي، وهو الأمر الذي دعا بعض المسؤولين الأميركيين إلى التحذير من نوايا فرنسا في ليبيا.

 ومن جانبها حاولت ألمانيا منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي وحاولت أيضًا احتواء الخلاف الأوكراني الروسي عبر منصة منسك دون جدوى، وسارت في النهاية وفق إرادة أميركا رغم أن الصدام والحرب الأوكرانية قد عادت بالضرر على اقتصادها وعلاقتها بروسيا، وزادت من اعتمادها على الولايات المتحدة، وأسكتت النقاش حول القيمة الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي وتوسعته.

كما لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن السياسة الأوروبية تسير في فلك الولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط، بل وتخدم السياسة الأميركية وبخاصة فيما يتعلق بدعم الأمن الإسرائيلي، والضغط على الحكومة اليمينية الصهيونية سواء من طرف الحكومات الأوروبية الراهنة، أو اليمينية كالحكومة الإيطالية التي وجهت النقد للحكومة الإسرائيلية حيال العدوان على غزة، ولوَّحت بالاعتراف بـ”الدولة الفلسطينية”.

كما وتسير أوروبا أيضًا في المشروع الأميركي فيما يتعلق بالتحديات القيمية الإسلامية التي تهدد مركزية القيم والمصالح الغربية.

وتجدر الإشارة هنا وفي معرض الحديث عن اليمين الأوروبي أن أميركا تستثمر فيه وتقوم بتوجيهه عن طريق ستيف بانون مستشار ترمب، وتستغل دعواته المناهضة للمهاجرين للدفع نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما تستغله أيضًا في تشتيت المواقف الرسمية الأوروبية، وتفكيك الوحدة السياسية، وبعثرة الهوية الأوروبية لصالح مفهوم “الغرب” لتعزيز التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة والجنس الأنجلوسكسوني، وتبرير التدخل الأميركي في السياسات الأوروبية والعلاقة الأوروبية الروسية والصينية.

ومن أبرز نتائج الانتخابات خسارة تجمع ماكرون “مجموعة التجديد الأوروبية” لأكثر من 23 مقعدًا بعد انهيار عدد الناخبين المؤيدين له في فرنسا، وحصوله على 15٪ من الأصوات مقارنة بـ أكثر من 31٪ لحزب الجبهة الوطنية بقيادة جوردان بارديلا والذي بدأ اسمه يلمع كمرشح محتمل لرئاسة وزراء فرنسا، وهو الأمر الذي استدعى ماكرون لحل البرلمان الفرنسي وتنظيم انتخابات برلمانية جديدة.

كما نتج عن الانتخابات ارتفاع حصة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتجمعها “المحافظون والاصلاحيون الأوروبيون” من المقاعد ونسبة الأصوات، حيث حصلت على قرابة 11٪ ليصبح تحالفها رابع أكبر تجمع في البرلمان الأوروبي، وهو ما سيمكنها من التأثير المباشر على اختيار رئيس البرلمان ورئيس المفوضية الأوروبية.

كما أكدت الانتخابات التشظي السياسي في الاتحاد الأوروبي، حيث خاض الانتخابات أكثر من 185 حزبًا منقسمين على كافة المسائل الأوروبية من أوكرانيا والأمن والطاقة والهجرة والاندماج والتوسع.

 وهذا الانقسام يشمل اليمين ذاته، حيث يتكون من أربعة تجمعات من يمين الوسط الذي يشمل “حزب الشعب الأوروبي”، و”مجموعة التجديد الأوروبية”، وتجمع الشعبويين ويشمل “المحافظين والاصلاحيين الأوروبيين”، وتجمع اليمين المتطرف ويشمل تجمع “الهوية والديمقراطية”، بالإضافة إلى تجمع أقصى اليمين ويشمل الآخرين ومن ضمنهم “البديل من أجل ألمانيا”، و”حزب الحرية” FPO في النمسا.

والواضح من استقراء الوضع السياسي على الساحة السياسية الأوروبية أن اليمين ليس كيانًا موحدًا وليست لديه رؤية موحدة، فتجمع “حزب الشعب الأوروبي” بقيادة أرسولا فون دير لين مكون من 47 حزبًا وطنيًّا، يمثلون 28 دولة أوروبية، ولديهم خلافات متعددة بخصوص توسع الاتحاد الأوروبي وآلية التعامل مع الهجرة وكيفية الوفاء بالتعهدات البيئية في وجه سخط القطاع الخاص.

ومن الجدير بالذكر أن نجاح اليمين المتطرف والمتمثل في أحزاب “البديل من أجل ألمانيا” و”حزب الحرية”FPO في النمسا و”كفاية Chega” البرتغالي و”فيديتش” المجري وحزب “انتهى الحفل” الإسباني وحزب “الكونفدرالية والحرية والاستقلال” البولندي، قد بُنيَ على سخط الناخب في الفئات العمرية 18-35، وبخاصة الذكور على الأنظمة الحاكمة وعدم استجابتها لتطلعاته، وهو الأمر الذي استمال العديد من الشباب المتمرد، مستغلين سخط الناخب على أحزاب الخضر من جراء التغيير المطلوب وتكلفته للوفاء بالالتزامات البيئية في ظل أزمة الأسعار، واستياء الناخب من كيفية عمل الأحزاب والنخبة السياسية والمؤسسات الديمقراطية.

ولقد شهدت أوروبا زيادة في المظاهرات من قبل المزارعين وغيرهم وانتشارها على نطاق واسع وفي أكثر من دولة ومن ذلك المعاملة القاسية التي لقيها ماكرون في معرض الزراعة في باريس.

وهذا النجاح يعود إلى أن تعداد الناخبين الجدد؛ أي من بلغوا سن الـ 18، زاد في هذه الانتخابات إلى حوالي 23 مليون منهم 12.4 مليون ناخب فقط في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا حيث التقت مصالح ورؤية الناخب مع قائمة الشكاوى، والتي تشمل اعتراضها على العولمة وحرية التجارة وقوانين البيئة وتسلط بروكسل وقوانينها على حياة الناخب الأوروبي.

ومن النتائج الواضحة للانتخابات ضعف حظوظ المشرعين اليساريين في الانتخابات وهم الداعمين لـ”قضية فلسطين”، وهو ما يقلص قوة الأصوات المؤثرة على سياسة الاتحاد الأوروبي “المتسمة أساسًا بالمعايير المزدوجة والتوافق الكبير مع تل أبيب”.

 علمًا بأن نواب حزب “فرنسا الأبية” اليساري قد شاركوا في جميع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وطالبوا بفرض عقوبات وحظر الأسلحة على إسرائيل، وطالبوا بالاعتراف بفلسطين كدولة، كما أنهم امتنعوا عن وصف حركة حماس بأنها جماعة إرهابية، بخلاف الجماعات السياسية الفرنسية الأخرى.

ولا يخفى أن غزة قد أظهرت انقسامات عميقة داخل الاتحاد الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية، فألمانيا لا تزال حساسة بشأن تعاملها مع “إسرائيل”، بينما يتسم موقف فرنسا بالانتظار حسب تصريح وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه بأن “الاعتراف بدولة فلسطين ليس من المحرمات بالنسبة لباريس”.

ولعل اعتراف إسبانيا وأيرلندا إلى جانب النرويج وانضمام سلوفينيا إليهم بدولة فلسطين قد سلط الضوء على القضية أكثر من أي وقت مضى، فلقد أصبحت القضية محور النقاش السياسي في إسبانيا، مما عزز الدعم لحزب سومار اليساري المتطرف والحزب الاشتراكي والائتلاف الحاكم.

غير أن أحداث غزة لم تكن ضمن دوافع تغير مزاج الناخبين وميلهم إلى اليمين في أوروبا، وكانت دوافعهم متفاوتة وأبرزها السخط على الأحزاب الحاكمة في الدول الأوروبية نتيجة لسياسات الهجرة والاقتصاد بشكل أساسي.

وأما نتائج الانتخابات وانعكاساتها المحتملة على الناحية الأمنية والدفاعية لأوروبا، فإن هذه الانتخابات تمثل استفتاء على رؤية ماكرون للدفاع والأمن والاستقلال الاستراتيجي، وهو ما لم يُخفه ستيف بانون في تعليقه على الانتخابات السابقة.

ومن قراءة البرامج السياسية لأحزاب اليمين (الوسط والشعبوية) يتضح اتفاقها العام على رفض مشروع “الجيش الأوروبي” الذي يطالب به ماكرون، وعلى ضرورة زيادة الانفاق العسكري وارتباط دفاع أوروبا بحلف الناتو ومساندة ودعم أوكرانيا واستمرار العقوبات على روسيا.

وخلاصة الأمر أن مفاعيل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية التي غذتها الولايات المتحدة في أوروبا بالإضافة إلى نفوذ أميركا في الأوساط السياسية والمؤسسات المالية والاقتصادية والمؤسسات الإعلامية التي تشكل مزاج الناخبين، قد أحدثت ثقلًا أوروبيًّا داخليًّا موازنًا لأي محاولات من جانب فرنسا أو غيرها من القوى القديمة.

 مثل ألمانيا التي تضررت من وقف الغاز الروسي، والتي قد تبدأ يومًا ما في العمل ضد سيطرة الولايات المتحدة على أوروبا أو التشكيك في أجندتها.

 ولذلك تحرص الولايات المتحدة على إعادة تحويل أحزاب اليمين المتطرف إلى أحزاب يمين الوسط، والإخلال بتوازن الثقل السياسي بين الدول النافذة مثل فرنسا وألمانيا، وبين الدول الوافدة من شرق أوروبا ودول البلطيق إلى الاتحاد الأوروبي، والذين تسيطر عليهم عقلية الحرب الباردة والعداء لروسيا.

 وذلك لتعميق التوتر مع روسيا وتعزيز هياكل السيطرة والتحكم بالأمن الأوروبي عبر حلف شمال الأطلسي والصناعات الدفاعية الأميركية.

ولذلك أيضًا تحرص على بقاء بؤر التوتر في أوروبا وبحر الصين، وتستثمر في ردود الأفعال الأوروبية والصينية والروسية لدرء تحالفهم.

 ومن ذلك إلجاء كوريا الشمالية لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا في زيارة بوتين الأخيرة لكوريا الشمالية وفيتنام، وتلويح كوريا الجنوبية بتزويد أوكرانيا بالسلاح ردًا على الاتفاقية الروسية مع بيونغ يانغ، وهو ما يثير حفيظة الصين من تقدم روسيا نحو مجالها الحيوي، وتوسيع الصراع الروسي مع الغرب إلى جوارها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق