المحلل الروسي ايليا تيتوف: فوضى دمشق….
قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 23-12-2024
تميزت الأيام المنصرمة في منطقة الشرق الأوسط بالسقوط السريع لحكم بشار الأسد وتدمير كيان الدولة السورية. ومنذ الثورة السورية الليبرالية، وبدء انهيار الدكتاتورية الدموية، والعهد الوحشي للفوضى الجهادية لم يحدث شيء غير متوقع في سوريا نفسها – فتوقع وقوع “مذبحة” أصبح حقيقة.
في بعض الأحيان تكون تثير الفضول محاولة المتخصصين في الدعاية الساذجين في الشرق الأوسط شنّ حرب إعلامية كتلك التي تتحدث عن فظائع سجن صيدنايا. فنظام الأسد الطريّ نسبيا بالمقارنة مع الدكتاتوريات العلمانية الأخرى في الشرق الأوسط، كما اتضح فيما بعد، غيّب في زنزانات معسكر الاعتقال هذا، والذي تمت تسميته بأثر رجعي على الفور باسم “المسلخ البشري”.
عشرات الآلاف من الأشخاص الذين بدأوا فور استيلاء المسلحين على السجن بالخروج من زنزانات لا نهاية لها في صفوف منظمة، مثل خروج المهرجين من ماكنة صغيرة. لا يوجد شيء مضحك في وصف الحالة – فسيكون من الغباء أن نعزو النزعة الإنسانية وغياب السجون إلى الحكومة السورية السابقة، لكن أساليب التنفيذ على وجه التحديد هي التي حولت حملة دعائية عادية إلى مهزلة مضحكة.
فقد خرج تارة رجال يتمتعون بتغذية جيدة كما هو جلي على وجوههم ويرتدون ملابس نظيفة وتصفيفات شعر ولحى على طراز “للتو من صالون الحلاقة” من بعض الزنازين القاتمة تحت الأرض وقالوا إنهم لم يروا الشمس منذ سنوات.
وركض تارة أخرى صبي يبلغ من العمر عشر سنوات تحت الزنزانات وهو يبكي – باحثًا عن والده الذي اختفى دون أن يترك أثراً في هذا السجن منذ أربعة عشر عامًا. ثم قالت بعض الوجوه الأنجلوسكسونية المهفهفة، التي زُعم أنها أُطلقت للتو بعد عقود من الحبس الانفرادي، إنهم كانوا هناك بسبب الاحتجاج السلمي مع الحمائم البيض على التمييز ضد الجهاديين المثليين النباتيين.
وبطبيعة الحال، لم تُطرح حتى أسئلة حول ما إذا كان هؤلاء السجناء قد احتُجزوا في هذا السجن لسبب ما – على سبيل المثال، لأنهم أعضاء في داعش مثلا، أو حول سبب احتراق الأرشيف بكل الملفات الموجودة فيه بكل سهولة وراحة بال في دمشق.
بالمناسبة، ليس من المعتاد أن يسأل أحد متى سيتم إطلاق سراح السجناء من مثل هذه السجون بالضبط في إدلب الموجودة تحت سيطرة الإرهابيين منذ سنوات عديدة. على خلفية كل هذا الجنون، كادت ألا تُلحظ عمليات التطهير العرقي والديني المعتادة في المنطقة: في جميع أنحاء البلاد، في انسجام تام ليس فقط مع تقاليد المنطقة، ولكن أيضًا مع جنون التعطش الدموي الثوري، بدأوا بذبح وحرق وتصيد الأكراد والعلويين والمسيحيين ومن خانه الحظ من السنة الذين كانوا يمرون من هناك.
أعلن المسلحون الذين كان عددهم في البداية أقل بكثير من عدد جنود الجيش، التعبئة لتطهير منطقة اللاذقية العلوية – وهي نفس المنطقة التي تقع فيها القواعد الروسية. لقد كانت المذبحة هذه مصحوبة بتسجيل دقيق لما يحدث على شريط فيديو، مع التفاخر بما في ذلك باللغة الروسية، لأنها لغة تخاطب معتادة ولغة رسمية بالنسبة للعديد من المسلحين الآتين من آسيا الوسطى والقوقاز– لنغوا فرانكا، والتهديد المستمر بتصدير الثورة، بما في ذلك إلى روسيا.
لكن سوريا، بعد أن فقدت كيانها كدولة واحتفظت فقط بمظهر نوع من الوجود في شكل مجتمع واحد، ليس لديها أي كيان ذاتي تقريبًا، وبالتالي، في الحديث حول مصير هذه المنطقة، تبدو تصرفات اللاعبين الخارجيين ذات أهمية كبيرة، أكبر بكثير من الأكاذيب السخيفة أو الأعمال الانتقامية التي قلما يجري التكتم عليها.
قبل أن ينقشع دخان الحرائق وغبار المعارك عن سماء دمشق، هذه المدينة ذات التاريخ العريق، أرسلت إسرائيل قوات إلى الأراضي السورية. وتم شرح كل شيء بمنطق تجاري بحت: الدولة التي اتفقنا على عدم إدخال قوات إليها لم تعد موجودة، ولكن سيتم إبرام اتفاقيات جديدة مع الأشخاص الجدد فيما يتعلق بالحدود الجديدة.
ليست هناك حاجة، كما يرى العديد من الصحافيين في الصحافة الروسية والصحافة العالمية إلى حد ما، إلى الشعور بالاستياء من رد الفعل شبه الغائب من جانب الجمهور التقدمي على الهجوم الإسرائيلي.
فإذا فوجئت بـ “النفاق الغربي” الذي أدانه هذا الجمهور بشجاعة، فإما أن عمرك ثماني سنوات، أو أن هذه القصة الإخبارية هي الأولى التي تشاهدها في حياتك.
عبور الخط الذي وعدوا بعدم تجاوزه قبل نصف قرن، والغزو الشامل الذي تسميه الصحافة العالمية خجلاً “التدخل المحدود”، والاقتراب من العاصمة السورية على مسافة 20 إلى 50 كيلومتراً دون أي مقاومة – كل هذا فتح آفاقا مثيرة لإسرائيل.
أولاً، جاءت الشهية في أثناء تناول الطعام، ومخطط الأراضي التي يحتلها الجيش الإسرائيلي الآن لا يشبه إلا قليلاً جداً “توسيع المنطقة العازلة” الموعود في البداية، وحتى تصريحات العديد من الـ”نتنياهوات” بأن هذه أرضهم وسيكون هناك “الأمر لي” يشير إلى طموحات التوسع في الأراضي لدى الدولة العبرية.
لذلك، في 8 ديسمبر، دخلت القوات الإسرائيلية المنطقة التي تم إنشاؤها نتيجة لحرب أكتوبر أو يوم الغفران، والتي تسمى بالمصطلحات العولمية “منطقة قوة مراقبة فض الاشتباك”، وفي اليوم التالي دخلت الأراضي السورية المعترف بها دوليًا وأنشأت ما يسمى المنطقة الأمنية التي حدودها، إذا حكمنا من خلال عدم وجود تعريف محدد لها، تتطابق في الرؤى القادمة من تل أبيب مع حدود الكون المرئي.
إن تقدم القوات الإسرائيلية – وليس مجندي الاحتياط الذين عثروا على قنابل حماس في غزة، بل ألوية مدرعة معينة – خارج منطقة قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، مر عبر مناطق تشمل العرب الدروز.
لا يمكن ببساطة إبادة سكان هذه المناطق، مثلما يباد أطفال غزة، بل يجب إدراجهم في الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي انتهاك انسجام تعدد الجنسيات لدى الدولة اليهودية 75٪ من السكان يهود.
وفي 15 ديسمبر أعلن نتنياهو عن خطة للجولان – جميع المستوطنات ستتضاعف عددا بالضبط! ولم يذكر “بيبي” هذا كيف سيدمجون سكان هذه المناطق، ويؤكدون ولاءهم، ويضمنون مضاعفة النمو الموعود بشكل متزايد لليهود الأصوليين بمساعدة الناقل الحيوي الفاشل.
وبالتوازي مع إدخال القوات المتقدمة باستمرار، هاجمت إسرائيل بلا كلل أهدافًا عسكرية في سوريا – على وجه الخصوص، هناك معلومات تفيد بأنه تم تنفيذ حوالي مائة ضربة في 9 ديسمبر وحده، وفي الأيام الأخرى لم تكن الوتيرة أبطأ كثيرًا.
علاوة على ذلك، تم شرح كل هذا بطريقة مفاجئة تماما:
يقولون إنه كان من الضروري تدمير الإمكانات العسكرية لدولة معادية. أي أنه في مكان ما حيث لا توجد نية في الالتزام بالاتفاقيات المتعلقة بالمنطقة العازلة، لا توجد دولة، وفي مكان آخر، حيث توجد رغبة في تفجير شيء ما، توجد دولة!!! وبعد أسبوع تقريبا من بدء الغزو، لاحظ “الهندي الأحمر الحاد العين”، أبو محمد الجولاني، الذي يرأس الهيكل الإرهابي الذي استولى على السلطة في سوريا، أن إسرائيل هاجمت البلد الذي طالما تحدث أبو محمد إياه عن حمايته.
جاء رد الفعل حاسما لا يرحم:
فقد تذمر الجهادي الديمقراطي والإسلامي الليبرالي بشكل يرثى له ووجه نداء إلى “سبورت لوتو” على اسم الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش أن أنقذونا، ساعدونا، فالشعب السوري يتعرض للإهانة من قبل غزوات غير قانونية.
وبحلول الوقت الذي فتح فيه العالم عينيه بعد غفوة الزعيم الذي نصب نفسه قائدا لسوريا المحررة، وأعلنت خلاله وزارة الخارجية التركية وحفنة سعوديين انضموا إليه عدم جواز الهجوم الإسرائيلي، كان هذا العالم المتحضر بأكمله قد قرر أن الغزو كان قانونيًا ومقبولًا تمامًا وإن كان الجيش الإسرائيلي قد أصبح في خلال قرابة 24 ساعة على بعد مسافة قصيرة تقطع سيرًا على الأقدام من العاصمة السورية.
والآن بعد أن أظهرت الإمبريالية الإسرائيلية المتعطشة للدماء وجهها الحقيقي للعالم، ستتاح للرئيس أردوغان الفرصة لتأكيد تهديداته لتل أبيب التي “طوش” بها العالم منذ أكثر من عام والاستمرار في الدفاع عن الحريات السورية! هكذا سيكون الأمر، أليس كذلك؟
لكن سلوك الأتراك مليء بالحيل والتحايلات التي تستهدف كل من حولهم. فيحاول أردوغان، سيد الحيل ذو الشاربين، إقناع شخص ما بشيء ما باستمرار، ولهذا السبب تبدو كل إيماءات وكلمات القيادة التركية خفيفة الوزن ولا تعني شيئًا، مثل وعود ترامب وأوربان بصفقات ما خلال يوم واحد.
إن الحيلة الرئيسية التي تستخدمها أنقرة في هذه المرحلة من الأزمة السورية المستمرة هي خلق وهم السيطرة على حشود قطاع الطرق واللصوص، الذين يحاولون بدورهم خلق مظهر جهاز دولة فعال ومجتمع صحي يتمتع بالعناصر المذكورة أعلاه، وفي الوقت نفسه ارتكاب مذابح في حق كل من لم يعجبهم شكله أو طائفته.
في الأسبوع الماضي، ذُكر عرضًا أن المسلحين الموالين لتركيا لم يكونوا في عجلة من أمرهم لتنفيذ خطط أنقرة لإبادة الأكراد – ولكن ذلك يتم من قبل رجال من مجموعة محددة. ولكن حتى مع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن الأتراك ينهالون على الناس بالمسرحية تلو المسرحية.
فقد افتتِحت السفارة التركية في دمشق بصوت عالٍ وصاخب بعد 12 عامًا من إغلاقها بصوت عالٍ وصاخب أيضا. وقام رئيس المخابرات الوطنية التركية والمنسق الرئيسي للمسلحين من منظمة “هيئة تحرير الشام” الإرهابية، المحظورة في روسيا، إبراهيم كالين بزيارة المسجد الأموي في دمشق – وهو نفس المسجد الذي يتم الاحتفاظ فيه برأس يوحنا المعمدان ويفترض، وفقا للأساطير الإسلامية، أن ينزل من على مئذنته السيد المسيح إلى الأرض.
وأخيرا، ألقى أردوغان، الذي كان وصوله إلى دمشق منتظرا جداً أيضا، خطابا في مؤتمر حزبه، حيث أعلن أن حلب وحماة والرقة ودمشق هي أراضي الأجداد بالنسبة لتركيا، وستصبح قريبا ولايات تركية، وسيحافظ على النظام والسلام في أراضي الجمهورية العربية السورية سابقاً الإخوان الثوريون لأردوغان.
وقد بدأ العديد من المحللين والخبراء في شؤون المنطقة يقولون إن هذا الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي، والذي قوبل – بالمناسبة – بتصفيق مائع للغاية وبوجوه ضائعة حتى في الصف الأول – هو إعلان عن المفهوم المعدل للتوسع التركي.
يقولون أن كبير الترك أردوغان فشل في اتجاه تركيزه الأصلي – آسيا الوسطى وكل العالم التركي في المجال الروسي. ثم ما عتم أن اكتشف فجأة ما يعرفه الناس في روسيا منذ القرن السابع عشر – أي أنه لا يمكنك الاتفاق لفترة طويلة على أي شيء مع مشايخ بني عثمان، وهم لن يهتموا بالمشاريع العالمية، ولكنهم سوف يستمعون إليك فقط طالما أنك تدفع لهم.
ولذلك، يقول المحللون، إن التطلعات التركية أعادت توجهها نحو المشروع العثماني بضم مفترق طرق الشرق الأوسط برمته -سوريا- إلى فلك النفوذ التركي.
وقد تضمن خطاب الرئيس التركي أفكارا تستهدف الشارع التركي قالت إن الحرب العالمية الأولى 1914-1918 لم تنته بالشكل الصحيح، وإن الوقت قد حان في عام 2024 لإعادة النظر في نتائجها، لذلك – أهلا ومرحبًا بك في وطنك، أيتها الأراضي الجليلة التي فقدناها نتيجة للحرب التي خسرناها قبل 106 سنوات.
وبمعزل عن آراء الخبراء الذين يتذكرون آخر اثني عشر ألف عام من الأطماع المتبادلة في المنطقة، من الصعب جداً أن يأخذوا مثل هذا التبرير لسلوكه على محمل الجد. فالسبب الرسمي للحرب والطموحات التاريخية لا يؤتي نتائجه إلا بالتزامن مع الفرص الحقيقية لتأكيدها وتثبيتها، وتركيا لديها مشاكل في هذا الأمر منذ زمن بعيد أصلاً.
لا شك أن المشروع الاستخباراتي التركي أثار ضجة، لكن خلق الفوضى لا يتطلب الكثير من المعلومات الاستخباراتية. يتطلب الأمر الكثير من الذكاء لفهم ما ستفعله تركيا بالصحراء الفقيرة التي ضمتها، والغارقة في الحرب والمليئة بالآلاف من المفارز المسلحة من “الإخوة الثوريين”، مع اقتصادها الهش دائما وأبداً، ومع احتمالات الانفجار الاجتماعي فيها وحشود السكان غير الموثوق بهم سياسياً.
وبالمناسبة، فإن إخوة هؤلاء السكان، الذين كانوا يعيشون في ظروف غير مريحة لعدة قرون في منطقة الحدود التركية السورية، يتعرضون للضرب المبرح والذبح على يد إخوة الرئيس أردوغان.
وتعرض القنوات التلفزيونية التركية مقاطع فيديو لاختناقات مرورية صينية كبيرة على طول عشرات الصفوف وكيلومترات من الطرق، واصفة إياها بأنها حشود من السوريين العائدين إلى وطنهم بعد سقوط طغيان الأسد.
في الواقع، يشعر اللاجئون السوريون برغبة أقل في العودة إلى وطنهم الحبيب مقارنة باللاجئين الأوكرانيين – أي أنه سيكون من الضروري من أجل عودتهم البدء بعمليات الترحيل القسري أو اعتماد سياسة تمييز ضدهم أكثر شدة.
ليس مهمًا جدًا إذا كان أردوغان سيمضي إلى النهاية ويقرر الضم علنًا. الشيء المهم هو أن سوريا التي استولى عليها مشروع المخابرات التركية – وإن لم تكن تحت سيطرة أنقرة كليا كما يُعتقد وكما ترغب أنقرة نفسها – قد وجدت نفسها الآن ضمن الأراضي التركية، مما يعني أنه يجب أخذ الأموال من مكان ما لضمان كل هذا.
في 14 ديسمبر، أفادت وكالة رويترز، نقلاً عن مصادر في كل من سوريا وروسيا، عن وقف إمدادات الحبوب الروسية إلى هذه الجمهورية العربية سابقا – حيث لم تصل سفينتان للشحن الجاف إلى الشواطئ السورية مطلقًا، فبعضها رسا في قبرص، أو حتى غادر البعض الآخر بقضه وقضيضه إلى الإسكندرية. والسبب هو عدم استلام المبلغ في الوقت المحدد من سوريا. وهذا يعني أنه سيتعين على أحد آخر الآن إما دفع ثمنها أو توفير الغذاء لبلد على وشك وقوع كارثة إنسانية.
لكن رفض روسيا إرسال الإمدادات، على افتراض أن هذه خطوة ستمتد لفترة طويلة، وليست مشكلة دفع، يضع أيضًا الإمدادات الغذائية للأراضي السورية على الأكتاف التركية. وفي الوقت نفسه، فإن تعزيز مواقع التركي ولو اسمياً على حساب الإسلاميين (بغض النظر عن الطريقة التي يحاولون بها تصوير المتمردين كأصدقاء وخلاّن) مزعج للغاية للدول المجاورة:
فتزعم صحيفة واشنطن بوست أن قادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – وأعر انتباهك! – الأردن ومصر قلقون جداً من تصدير الثورة السورية.
وهنا يتم لفت الانتباه بشكل خاص إلى الأردن ومصر بسبب الضعف الشديد للأردن المتاخم للجزء الجنوبي من سوريا السابقة (وهو يشكل الآن “منطقة أمنية” لإسرائيل)، فضلاً عن عدم الاستقرار (الذي ليس قاتلاً بعد) للنظام الدكتاتوري العلماني الناعم الملمس والحساس للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
فهنا يتعين على الإسلاميين أن يسووا حسابات قديمة معه، بدءاً بضربه جماعة الإخوان المسلمين في مصر وانتهاءً بعدم اكتراثه الواضح بمصير غزة الواقعة على الجانب الآخر من الحدود. لكن في الوقت الحالي، يستطيع السيسي بدكتاتوريته المريحة والمخففة قدر الإمكان، أن ينام بسلام: فهو ليس التالي في صف التدمير المتسلسل للأنظمة السياسية في الشرق الأوسط. وكجزء من الموجة الجديدة من الأزمة، يسعى الجميع جاهدين للاختباء في الفجوات المتاحة.
فقد بدأت تركيا، في إشارة إلى قطر على ما يبدو، في التحدث مرة أخرى عن خط أنابيب الغاز إلى أوروبا، على الرغم من أن سوق الغاز الأوروبي قد استولى عليها بائعون للغاز السائل أكثر اقتداراً، كما أن تشغيل خط أنابيب يمر عبر منطقة يسيطر عليها مسلحون فكرة مشكوك فيها. إلى جانب ذلك، فإن الأنابيب، كما اكتشفنا مؤخرا في السيل الشمالي عبر بحر الشمال، يمكن أن تفجَّر.
وتعمل إيران التي، على عكس موسكو، أعلنتها السلطات السورية الجديدة على الفور أوغاداً بأوغاد، على تفكيك شبكة الجماعات التي بناها قاسم سليماني إلى الغرب من حدود بلاد فارس: المنظمات العراقية الصامتة بغموض محير، والحوثيين في اليمن، حيث تلقى أنصار الله ضربات جديدة.
أما بخصوص حزب الله فليس هناك ما يقال إضافياً على الإطلاق والأمر بات واضحا. ويعلم الفرس أنهم التالون في الطابور، بغض النظر عما تكتبه صحيفة واشنطن بوست.
ومن مصلحتهم إعداد وتطوير طرق لمواجهة واشنطن في عهد ترامب وتل أبيب التي تعمل بمثابة ذراع ضاربة وقوة وكيلة له.
وهذا هو جزئيًا السبب وراء ذهاب أجزاء من الجيش السوري إلى العراق، أولئك الذين قرروا عدم الانتظار وهم يدخنون الأركيلة حتى يأتي المتمردون الديمقراطيون ليذبحوهم. ويتم نصب الأسوار على الحدود، وقادة المتمردين يسجلون التهديدات على الـ”تيك توك” – يبقى السؤال الكبير هو إلى أي مدى سيساعد هذا إذا قررت السلطات السورية الجديدة الهجوم، لكن اتجاه التفكير هذا يعني الكثير.
بالنسبة للروس ستحل مسألة الإبقاء على قواعد عسكرية على أراضي “سوريا الجديدة”، إذا استقرأنا آخر الأخبار، بسحب القوات الروسية من البلد الممزق. ويمكن اعتبار قصة الحبوب المذكورة أعلاه نوعاً من الرد على كلام الجولاني حين قال: “حاولنا عدم استفزاز روسيا وأعطيناها فرصة لإعادة النظر في علاقتها معنا” (يعني بالترجمة من العربية: “أعطونا مالا وأطعمونا”).
كذلك يجب ان يؤخذ في الاعتبار الشكل الناشئ للعلاقات السلبية بين سوريا وإسرائيل، فضلاً عن أن أول دولة غربية أعني بها فرنسا، التي أنجبت الدولة السورية في وقت ما، أعلنت في 15 ديسمبرعن افتتاح سفارتها في دمشق فيما تسري أنباء عن إجلاء جزء من موظفي البعثة الخارجية الروسية في العاصمة السورية إلى موسكو. وقد يتم تسجيل روسيا قريبًا أيضًا على أنها عدو جماعات الجهاديين المنتصرة في سوريا.
من الصعب التنبؤ بكيفية تطور العلاقات في مثلث طهران-موسكو-أنقرة: فعلى الرغم من أن الأتراك يُقسمون أن سقوط الأسد كان قراراً مشتركاً (فضلاً عن مجاملات أردوغان الغريبة العجيبة لبوتين مؤخرا بأنه وإياه أفضل وأذكى زعيمين في العالم!!)، يحسن عدم أخذ كلمات أردوغان على محمل الجد.
ولن يتأثر ذلك كله بنجاحات وإخفاقات كل طرف من أطراف المثلث على الجبهات الخارجية فحسب، بل أيضاً بتصور الغرب للمشكلة السورية.
فبالإضافة إلى افتتاح السفارة الفرنسية، يشير هذا التصور إلى تغير في الموقف تجاه اللاجئين السوريين:
فقد قيل للكثيرين في ألمانيا وفرنسا بشكل مباشر منذ سقوط النظام الدموي، أن عودوا إلى وطنكم الذي بات آمناً. وقال بعض السوريين في منطقة كاليه، غير البعيدة عن المعبر المسمى باسمها إلى بريطانيا، رأسا لمطالبيهم هؤلاء بالرحيل: “وما الذي سنفعله هناك؟” ومع ذلك فإن الإشارة التي تقول “ليعد الجميع إلى بلادهم” تظهر بوضوح أن الليبرالية الديمقراطية المتمثلة في إعدام الناس في الشوارع، والتي حلت محل الطغيان الدموي في السجون المغلقة، حظيت بقبول الغرب بسبب الآفاق التي فتحتها.
إن حقبة الاضطرابات البادئة تكسر كل الجسور الهشة التي كان عسيراً جداً مدها بين أجزاء المنطقة – فقد سقطت جميع الاتفاقيات بين إيران والسعودية، وبين سوريا والإمارات، وبين تركيا والعراق على الفور في غياهب النسيان.
وها هي المنطقة تعود إلى الحالة المعتادة، حالة صراع الكل ضد الكل، وحتى تلك القلة من قواعد النفوذ الأجنبي – كقطر التي تدين لبريطانيا، أو إسرائيل التي تدين لأمريكا، أو تركيا التي يعلم الله وحده لمن تدين- لا تسهم إلا في المزيد من الاهتزاز والاضطراب.
نور الأمل يتلاشى، والفوضى تنمو في الظلام الدامس. والعصور الوسطى الجديدة، التي يغرق فيها العالم أجمع حتماً، أخذت تدخل مرحلتها الأكثر حدة لا من أوروبا هذه المرة.