القرن الافريقي بين التوجه السلمي للصين ومحاولات إحكام السيطرة الغربية على المنطقة
اعداد: سارة الزنطور- باحثة متربّصة بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس
تحتل منطقة القرن الإفريقي موقعا استراتيجيا هاما كما تتوفر طبيعتها على العديد من الطاقات الحيوية والحياتية بالنسبة للعديد من الدول وخاصة الغربية منها، الأمر الذي جعلها مطمع للعديد من الدول على غرار أمريكا وفرنسا على وجه الخصوص وحولها إلى وجهة اقتصادية وتجارية بعيون وسياسات مختلفة تماما على منطق النهب والاستقواء والاستعمار بأشكال جديدة.
وإذ تحيلنا هذه المقارنة على استقدام اثنين من السياسات المختلفة للدول العظمى فإننا سوف نحاول تبيان أوجه الاختلاف بين القوى الاستعمارية الغربية ذات السياسات الإكراهية والإلزامية وبين السياسات الاسيوية وعلى رأسهم الصين التي تتواجد في هذه المنطقة من خلال فتح أبواب التعاون التجاري والاقتصادي بعيدا عن سياسة التغول والتجبرواعتمادا على سياسة الربح المتبادل والمتضايف.
ما الذي نقصده بالقرن الإفريقي؟
نقصد بمنطقة القرن الإفريقي -جغرافيا- ذلك الجزء الممتد على اليابسة الواقع غرب البحر الأحمر وخليج عدن على شكل قرنحيث تشمل هذه المنطقة أربعة دول، كلا من الصومال وجيبوتي وإثيوبيا وإريتريا و تقدر مساحة القرن الأفريقي بمفهومه الضيق (الصومال، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا) بنحو 1.9 مليون كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانها نحو 115 مليون نسمة وفقا لتقديرات عام 2014.
بالإضافة إلى ذلك فهي تعد من بين أهم منافذ التجارة عالميا ويعود ذلك لحيازتها على السواحل الغربية لمضيق باب المندب الذي يعتبر البوابة الجنوبية للبحر الأحمر أي الطريق الأساسي لقناة السويس، كما أنها متاخمة لخليج عدن وهي ممرات مائية هامة تخول لمنطقة القرن الأفريقي التحكم في طريق التجارة العالمي، زيادة على موقعها الاستراتيجي فإن منطقة القرن الإفريقي تتوفر على طبيعة خصبة وثروات طبيعية وطاقية على غرار البترول والغازومعادن نادرة ونفيسة ناهيك عن موانئها التي تسمح بالمعاملات التجارية الكبرى التي تقلل من كلفة حركة البضائع الأمر الذي يجعل منها بيئة مميزة ووجهة استثمارية تجارية واقتصادية للكثير من الدول.
هذه المنطقة وعلى أهميتها الاقتصادية والطبيعية والاستراتيجية لم تدر على شعوبها إلا الويلات والحروب والإحتراب، نتيجة سياسات غربية أمريكية فرنسية على وجه الخصوص تواصلت لعقود من النهب والاستغلال وإثارة الفوضى، في ظل قطبية أحادية تقودها أمريكا وترعاها فرنسا المتوغلة في إفريقيا منذ القرن 15 وزاد من ويلاتها تفكك الاتحاد السوفياتي وتراجع الإمبراطورية الصينية.
إلا أن التغير في موازين القوى معاصرتيا وعودة روسيا الاتحادية بالإضافة إلى عودة التنين الأحمر كأكبر قوة اقتصادية في العالم أعاد معه إعادة التموقع داخل منطقة القرن الإفريقي لكن بسياسات مختلفة راديكاليا، فإن كانت الأولى أي السياسات الغربية سياسات مشروطة تلقي بثقلها الاستعماري والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة فإن الثانية أي الصينية والروسية تهدف إلى التعاون المتبادل وسياسة النأي بالذات عن الشؤون الداخلية للدول وتهدف إلى تحقيق سياسة “الرابح الرابح” لا سياسة “الرابح والخاسر” ذات الخلفية الليبرالية ومنطق الربح والخسارة التجاري.
فماهي أوجه الإختلاف بين السياسات الغربية والسياسات الصينية في المنطقة؟
السياسات الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي
برزت أهمية منطقة القرن الأفريقي بالنسبة للسياسة الأمريكية منذ خمسينات القرن الماضي وتجلى ذلك في التصريح الشهير للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بقوله “أنه آن الأوان لوضع أفريقيا على خريطة الأمريكيين”.
وتعود فحوى هذا التصريح إلى الخلفية التفكرية للسياسات الأمريكية التي لا تريد التفويت في أي منطقة من العالم لتبسط فيها نفوذها وتمرر مشروعها السياسي والاقتصادي والثقافي، فالعمق الاستراتيجي لمنطقة القرن الإفريقي يلقي بظلاله على الاستراتيجيات الأمريكية الهادفة بطريقة سيزيفية إلى درأ وصد القوة العسكرية النووية الروسية وتواجدها في المنطقة والمحافظة على النصيب الأكبر التجاري وإحكام السيطرة على الموانئ والموارد الطاقية لمجابهة القوة الاقتصادية المتعاظمة للصين ومبادرة الحزام والطريق التي قد تجهز نهائيا على أمريكا اقتصاديا.
هذه العوامل المسكوت عنها وغير المعلنة تقريبا تغطيها أمريكا بسياسات محاربة الإرهاب في المنطقة، فالمبادرة التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى “عملية الحرية الدائمة- القرن الإفريقي” في سنة 2002 بذريعة مواجهة التيارات الراديكالية والتي قامت بعمليات ميدانية في جيبوتي تجاوزت حدود المبادرة لتصل إلى جزر القمر ليبيريا تنزانيا رواندا وغينيا، وبينت الهاجس الأمريكي الكامن في أن يكون له موطئ قدم داخل المنطقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وإن كان فاقد للكثير من الأسس وغير قابل لمنطق التكافل الاقتصادي والتبادل المتكافئ، إلا أنه جعل من القوة العسكرية المدخل القسري لتحقيق السياسات الأمريكية في المنطقة، فالتواجد العسكري الأمريكي من خلال قواعد عسكرية في كل من جيبوتي (قاعدة ليمونية ) التي توسعت من 39 هكتار إلى ما يزيد عن 202 هكتار في سنة 2007 والتي أصبحت تضم أكثر من 4000 جندي أمريكي إلى جانب جنود الحلفاء ليست إلا دليل على الغطرسة الأمريكية والغربية واستغلال وانتهاك حرمة الدول في خرق وضرب واضح للمواثيق والمعاهدات الدولية، سياسات استغلال واجتياح وهتك لسيادات الدول و نهب لمقدرات الشعوب تتفنن الدول الغربية في ممارسته، وإذ ليست أمريكا وحدها التي احترفت هذا الخزي والعار فإن فرنسا على نفس خطى أمريكا تعيد ترتيب أوراقها لتعيد التمركز من جديد ووفق سياسات واستراتيجيات جديدة سيما في ظل تخلل وتزعزع براديغماتها وتعافي الكثير من الدول الوازنة في بلورة المشهد السياسي العالمي.
السياسة الفرنسية في منطقة القرن الإفريقي
ترتكز السياسة الخارجية الفرنسية التقليدية على الإرث التاريخي والثقافي الناتج عن الفترة الاستعمارية لغالب الدول الأفريقية، كما أن مداخلها القائمة على منطق القضاء على ظاهرة التشدد الإسلامي في القرن الأفريقي وبتوقيع معاهدات دفاعية ليس إلا ضربا من ضروب المغالطة السياسية والثقافية التي تدعم سياسات النهب التي تنتهجها باريس، فإفريقيا بالنسبة للباريسيين هي الينبوع الذي تتفجر منه كل الطاقات التي تحقق رفاه الشعب الفرنسي وتضيئ طاقاتها شوارع الإيليزي…
من هذا المنطلق وجب أن نفهم أن السياسة الفرنسية في القرن الإفريقي وإفريقيا عموما لا تقوم على منطق ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان كما تدعي، بل هذه المقولات ليست إلا مقولات جوفاء مقارنة بالغاز والبترول والأورانيوم الذي تنعم به فرنسا والذي يقابله فقر وفاقة ومجاعة لشعوب هذه الطاقات والموارد.
ناهيك عن السياسة المالية التي تعتمدها فرنسا في المنطقة وتدني ميزانية دعمها لاقتصادات دول شرق أفريقيا حيث لا تتجاوز ميزانيتها المخصصة لدعم اقتصاد المنطقة 1 % من عملتها الصعبة وعوض ذلك تضع فرنسا جل اهتماماتها في الشؤون السياسية والتدخل في القضايا الداخلية ودعم الانقلابات العسكرية وتركيز جيوشها داخل المنطقة، وإذ أن أهمية القرن الإفريقي اقتصاديا واستراتيجيا وعسكريا وأمنيا منطقة لا يمكن للغرب أن يغض الطرف عنها فكل الوسائل ممكنة للمحافظة على هذا العمق الاستراتيجي حتى وإن وصل الأمر إلى ترذيل سياسات الدول الأخرى في المنطقة عبر الترويج للأكاذيب والمزاعم الزائفة كما تفعل ذلك فرنسا مع الصين وروسيا لعلها تسترجع ممتلكاتها الاستعمارية القديمة وتوسع دائرتها الفرنكوفونية.
السياسة الصينية داخل منطقة القرن الإفريقي
تلعب الصين دور سياسي كبير في أفريقيا بشكل عام وفي منطقة القرن الافريقي تحديدا، وذلك عبر توظيف إقتصادها القوي وتحالفاتها العريقة مع دول المنطقة عبر تعزيز الحوار ورعاية المفاوضات مساندة للصراعات السياسية التيتعرفها المنطقة خاصة في الخرطوم وأديس أبابا، فرعايتها لأول مؤتمر سلام في القرن الأفريقي في محاولة لتسوية الصراعات بالمنطقة والذي جاء تباعا لتعيين لمبعوثها الخاص للقرن الأفريقي “شيويه بينغ” مطلع العام في يناير2022 له دلالة على تعزيز الصين لقيم التعايش السلمي ودرأ الشر وإقامة السلام بين دول المنطقة كبديل لحالة الفوضى المحدثة وحالة الإحتراب المفتعلة غربيا.
فالعقيدة الصينية ليست بالعقيدة المهادنة بقدر ماهي عقيدة تقوم على التعاون والتكاتف الدولي بما يحقق سياسات تحترم فيها سيادة الدول وأمن الشعوب وتهدف إلى التعايش السلمي وتحقيق النماء والرفاه،كذلك هي ليست بالسياسات المهادنة، بقر ماهي سياسات تهدف أيضا إلى تأمين مصالحها الاقتصادية في المنطقة لا بمنطق أنا أولا بل انطلاقا من منطق حماية استثماراتها التي تصب في خانة مصالح دول المنطقة أيضا.
ولعل تدشينها في سنة 2000 منتدى التعاون الصيني الإفريقي لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين ودول المنطقة له حجة ضد محاولات التشويه الغربي للاستفحال الصيني داخل المنطقة، فالمشاريع الصينية طالت استثماراتهاالضخمة كل من كينيا وأثيوبيا وأريتريا وجنوب السودان بما في ذلك عقود للتنقيب عن النفط في الصومال.
فالوجود الصيني في منطقة القرن الإفريقي وبعد عملية الضم الإقتصادي وبدايات إنشاء حزام واحد طريق واحد، بالإضافة إلى شبكة طرق برية وبحرية تجارية تربط اسيا بإفريقيا أخرجت المنطقة من أدران النهب ومنطق “الرابح والخاسر” إلى منطق “الرابح الرابح”،ناهيك عن عدم التدخل في الشؤون السياسية الداخلية للدول والقضايا الداخلية ومنطق الإصطفاف مؤكدة في كل خطواتها على تعاونها مع دول المنطقة.
الخلاصة
تعرف منطقة القرن الأفريقي متغيرات جيوسياسية ضمن إطار دولي يشهد بدوره تغييرات جيوسياسية أعمق وأكبر ستجعلها بالضرورة ترزح تحت طائلة صراعات ونزاعات دولية أكبر، الأمر الذي يبشر بخارطة مواجهات جديدة بين الصين وروسيا من جهة والقوى الاستعمارية القديمة من جهة أخرى في المنطقة، فالقرن الأفريقي المتميز جغرافيا واستراتيجيا وإن كان يدفع إلى استقطابات سياسية واقتصادية مختلفة من حيث الجوهر، فقد أصبح مطلبا غربيا ملحا سيما في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية التي دفعت العديد من الدول إلى تغيير وجهاتها الإقتصاديةوالإستراتيجية كما هو الحال مع دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات التي تشهد إستثماراتها تناميا ملحوظا في كل من أثيوبيا والسودان والصومال وجيبوتي.