السّلطوية الرقمية: ديمقراطيّة الفيسبوك في إفريقيا
إعداد: منى بوسيف، باحثة في المركز الدّولي للدراسات الإستراتيجيّة الأمنيّة والعسكريّة.
“القارة البكر“، كما يحلو للراحل جمال حمدان تسميتها، أوالقارّة السّمراء كما يحلو للكثير تسميتها، تلك القارّة التي تزخر بخيراتها وثرواتها المعدنيّة والنّفطيّة وغاباتها الشّاسعة وأنهارها المتدفقة، تشهد اليوم ثورة متفرّدة من نوعها، ثورة اشتعلت كالنار في الهشيم يقودها جيل الفيسبوك، داعين إلى حاضر تعمّه سبل التحرّر والإنعتاق، ساعين إلى تحقيق حلم التّنمية المستدامة، باعثين في أرجاء هذه القارّة التي قد يراها بعض المتشائمين مظلمة، بل حالكة السواد، روحا متجدّدة مليئة بالحياة.
- حلم الشّباب: متأرجحا بين كفّتي التّنمية والدّيمقراطيّة:
- التضييقات التي تعترض سبيلالشباب في مسيرتهم نحو الدّيمقراطية (السودان، زمبيا، نيجيريا) نموذجا.
تدفق آلاف المحتجّين من الشباب إلى شوارع عدّة مدن في السّودان، إثر التضييقات الحكوميّة التي تمثّلت في انقطاع خدمات الإنترنت، تنديدا بالانقلاب العسكري في 25 أكتوبر2021 والذي عرّض للخطر خطوات البلاد الهشة نحو الاستقرار ومحاولتها التحول الديمقراطي بعد عقود من الحكم العسكري.
وعلى الرغم من استمرار حملة القمع التي تشنّها قوّات الأمن إلا أن الحركة الاحتجاجية، طيلة الشهرين الماضيين، تشير إلى مدى تضامن الشباب “حماة الثورة”ومدى إصرارهم على المطالبة بالعودة الكاملة إلى الحكم المدني.
ومن السّودان مرورا إلى زامبيا حيث نجد سيطرة كبيرة لما يُسمى بالدّعاية السوداء، عبر الرّسائل المشفّرة التي ما فتئت وسائل الإعلام المنحازة تبثّها، لكن المواطنين تجاهلوا تلك التّهديدات، وبذلوا قصارى جهدهم من اجل التخلص من حكومة الرئيس إدغار لونجو المستبدة إذ اعتبروا أن الانتخابات كانت بعيدة كل البعد عن الحرية والنزاهة.
أما في نيجيريا فقد نظم المتظاهرون نصبا تذكارية وحملات عبر الإنترنت لإحياء ذكرى أولئك الذين لقوا حتفهم في الاحتجاجات المناهضة لعنف الشرطة في عام 2020 وللمطالبة بالعدالة والقصاص لرفاقهم الذين بذلوا حياتهم في سبيل هذا المبدأ.
حتى في ايسواتيني التي تمثل آخر معقل للملكية المطلقة في أفريقيا جنوب الصحراء، يواصل المتظاهرون المخاطرة بالاعتقال والتعذيب والموت على الرغم من الصعاب الكبيرة التي تواجههم.
نظريّة التشاؤم الإفريقي: هل تلاشى حلم الدّيمقراطيّة؟
لو نظرنا مليّا وسلطنا الضوء على الوضع الحالي في إفريقيا، سنجد أن إفريقيا اليوم تسير نحو الإزدهار، إلا أنالبعض من مناصري نظرية التشاؤم الإفريقي يرون أن عام 2021 يُعد عاما سيئا في مسيرة التحوّل الدّيمقراطي الإفريقي، وينص الجدل الإفريقي المتشائم على أن إفريقيا هي تلك القارة التي أقيمت على أرض معادية، تلك القارة المفقودة الجامدة سياسيا واقتصادياواجتماعيا. و يرى أصحاب هذه النظريّة أن السبب الرئيسي يعود إلى عدم وجود فرق بين الديمقراطية والديكتاتورية، إلى جانب المحسوبيةوتركيز السلطة في الحكومات.
ولسان حال الواقع السياسي في إفريقيا يقول أن موجة الإنقلابات ذات الطابع التقليدي الذي يعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تكتسح المشهد السّياسي بقوّة. إذ تشهد كل من التشاد والسودان وغينيا ومالي موجة من الإنقلابات أدّت إلى صراعات أهليّة مدمّرة ومزعزعة للإستقرار في كل من إثيوبيا والموزمبيق.
كما تزايدت العمليات الإجرامية ومعدلات انعدام الأمن في نيجيريا.أضف إلى ذلك فقد استمرت أزمة الساحل تؤثر على درجة العنف السياسي في النيجر وبوركينا فاسو ومالي ولاسيما بعد عزم فرنسا تخفيض وجودها العسكري في المنطقة.
وعلى صعيد العملية الانتخابية شهدنا انتخابات معيبة في تشاد وإثيوبيا وأوغندا وحتى إحدى الدول الديمقراطية البارزة السابقة في القارة، وهي بنين.
يبدو ولو ظاهريا أن هناك تراجعا ديمقراطيا، تسرع جائحة كوفيد-19 من وتيرته في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ويخلص هذا الاتجاه التشاؤمي إلى أن عددا من الأفارقة يعيشون اليوم في ظل دول استبدادية كليًا أو جزئيًا أكثر مما كان عليه الحال في معظم الأوقات خلال العقدين الماضيين. حتى قبل الجائحة، تحرك عدد متزايد من رؤساء الدول الأفريقية لتقويض مبدأ حدود فترة الولاية الرئاسية أو تزوير الانتخابات للبقاء في السلطة. كما زادت الجائحة من سيطرتهم ونفوذهم، ووفرت ذريعة أخرى إما لتأجيل الانتخابات كما حدث في الصومال وإثيوبيا، أو تكميم أفواه شخصيات المعارضة كما حدث في أوغندا وتنزانيا، أو فرض قيود على وسائل الإعلام، وهو ما حدث في جميع أنحاء القارة.
غالبًا ما كان تطبيق القيود الوبائية من قبل الأجهزة الأمنية وحشيًا، مما أثار مظاهرات في كينيا وحتى في الديمقراطيات الأكثر تقدمًا مثل جنوب إفريقيا. وتستند هذه النظريّة التشاؤميّة أساسا على استطلاعات مؤشر أفروباروميتر التي أجريت في 34 دولة بين عامي 1999 و2021. فإن غالبية المواطنين “غير راضين” عن الديمقراطية في 26 (76٪) من أصل 34 دولة مشمولة في العينة. في بعض البلدان، يكون “الرضا” منخفضًا لدرجة أنه يكاد يكون معدومًا: 11٪ فقط في الغابون و17٪ في أنغولا.
في غينيا، تحايل الرئيس ألفا كوندي من أجل الحصول على فترة ثالثة من أجل الاستمرار في منصبه. وفي مالي، اتُهم الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا على نطاق واسع بتأجيل الانتخابات التشريعية في مارس 2020 والتلاعب بنتائجها.
- 2021، صنفت منظمة فريدوم هاوس ثمانية بلدان فقط في أفريقيا جنوب الصحراء على أنها حرة. ويلاحظ أن نصف هذه الدول الثمانية عبارة عن جزر صغيرة: الرأس الأخضر وموريشيوس وساو تومي وبرينسيب وسيشيل.
جدلية العلاقة بين الدّيمقراطية والتنمية
لقد استحوذت العلاقة بين التنمية والديمقراطية وجدواها على اهتمام السياسيين والاقتصاديين والباحثين فتلك العلاقة تعكس مدى الترابط بين الادارة السياسية للسلطة التنفيذية والوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي الاجتماعي.
إن مفهوم التنمية المستدامة والديمقراطية ليسا بجديدين على ساحة النقاش الأكاديمي والسياسي، وعلى الرغم من تداول هذين المفهومين بكثرة، إلا أننا قليلا ما نفكر في العلاقة الجدلية التي تربط الديمقراطية بالتنمية.
مما لا شك فيه ان التنمية تجعل المؤسسات الديمقراطية أكثر كفاءة وانتاجاً والقيم الديمقراطية أكثر ترسخا متى توفّرت الامكانات المادية اللازمة لذلك، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بأنّ التنمية تؤدي بشكل حتمي إلى الديمقراطية، فقد تنجم عن السّعي إلى تحقيق التّنمية المستدامة عدة مشاكل من شأنها أن تهدد مسارالديمقراطية ما لم تتضافر جهود المواطنين والدولة لحلها عن طريق الحوار والتواصل، وتنطلق من الإحساس بالمسؤولية المشتركة والإدراك بضرورة التعاون لحلها.
الديمقراطية والتنمية في إفريقيا: وجهان لعملة واحدة:
على عكس ما تروّجه النظرية التشاؤميّة من أفكار حول الوضع الرّاهن في إفريقيا تصبّ معظمها، بل جلّها، حول تواري حلم الديمقراطيّة في إفريقيا، يرى البعض أن للحكاية أوجها أخرى، إذ يمكن القول بأن إفريقيا أكثر ديمقراطية من المناطق الأخرى بالنسبة لمستوى التنمية فيها.
يجادل جاكي سيليرز مدير برنامج الدراسات المستقبلية في معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا بأنه نظرًا لأن الديمقراطية تتبع التنمية عمومًا، فإن البداية المبكرة لإفريقيا تعني أن القارة يجب أن تحقق الأمرين معًا في وقت واحد، وهو أمر صعب بدون قيادة رشيدة.
تؤدي الديمقراطية المتعجلة في القارة إلى عدم الاستقرار لأنها سوف تكون غير مصحوبة بالمؤسسات المطلوبة للانتقال من حكم الفرد أو القلة إلى حكم المؤسسات.
- بعيدًا عن هذه التطورات والأحداث، سيكون من السهل وصف عام 2021 باعتباره العام الذي توارى فيه حلم الديمقراطية في إفريقيا، خاصةً بعد تعدد تلك الأحداث والتطورات التي تقع في موقع القلب من عملية التراجع الديمقراطي.
صمود الشباب “جيل الفيسبوك” من أجل تحقيق الدّيمقراطية
من الجدير بالذّكر أن واقع الأحداث في إفريقيا اليوم، يركز بشكل أكبر على الصمود والنضال الذي يقوم به الشباب الأفريقي بغية تحقيق الوعد بالديمقراطية.وجد تقرير مؤسسة باروميتر لعام 2019 أن أغلبية كبيرة من الأفارقة يواصلون دعم الديمقراطية ورفض البدائل الاستبدادية. يريد “جيل الفيسبوك” من الشباب في إفريقيا حوكمة أفضل وأكثر خضوعا للمساءلة ويصرون على الديمقراطية والتنمية في آن واحد، بدلاً من القول بأن أحدهما يغني عن الآخر.
إن التأييد الشعبي القوي للديمقراطية (77٪ في غينيا،و62٪ في مالي) يمثل أحد الأسباب التي جعلت النخب العسكرية الحاكمة اليوم تشعر بالحاجة إلى تبرير تدخلاتها، جزئيًا على الأقل، على أساس الحاجة إلى استعادة حكومة ديمقراطية منتخبة.ومع ذلك تظهر موجة الاحتجاجات التي يقودها الشباب الأفارقة في كل مكان بما في ذلك بعض الوسوم التي غزت مؤخرا صفحات الفيسبوك من قبيل:(#الردة مستحيلة في السودان) أووضع حد لقمع الشرطة (#endSARS) في نيجيريا، والمظاهرات المناهضة للملكية في ايسواتيني، واصلاح الدولة (#Fixthecountry) في غانا. وما لم يتم حل الانفصال بين الشباب المحبط في القارة وقادتهم الذين يتحصنون خلف أسوار السلطة المنيعة ، فإن مسار التصادم أمر لا مفر منه.
حروب الجيل الرّابع في إفريقيا: السّلطوية والاستبداد الرّقمي
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن التكنولوجيا الحديثة أضافت بعدا جديدا إلى ديناميكية سياسية معقدة بالفعل، إذ ظهرت الديمقراطية الرقمية والديكتاتورية الرقمية كوجهين لعملة واحدة،حيث يتنافس السياسيون والمواطنون على استغلال التكنولوجيا لتعزيز أجنداتهم.سيحدد هذا الانقسام ما إذا كانت الدول تتبنى أنظمة مفتوحة وشفافة أو تتخذ طريق النظم القمعية والمراقبة وكلاهما له آثار كبيرة على التماسك الاجتماعي.
وعلى سبيل المثال اعتمدت مختلف الحكومات في دول شمال إفريقيا مجموعة من التدابير والإجراءات لمواجهة انتشار فيروس كوفيد-19، وعلى رأسها توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال. وعلى قدر الأهمية التي تكتسبها هذه التكنولوجيا الرقمية من خلال أهدافها الصحية المعلنة، إلا أن اعتماد قوانين قمعية وتعسفية مع إدخال أدوات مراقبة رقمية حديثة يتجاوز في كثير من الأحيان هدفها الأصلي الذي يتمثل في مواجهة انتشار فيروس كوفيد-19 وحماية الصحة العامة، إلى تكريس ممارسات السلطوية الرقمية التي تستهدف بسط مراقبة شاملة على المواطنين، والتي تتنافى مع قواعد احترام حقوق الإنسان والحريات العامة ومبدأ الخصوصية، خصوصًا في الجانب المتعلق بحماية حرية الإنترنت، وبروز خطر انتهاك الخصوصية والبيانات الشخصية، كما تُمكِّن المراقبة الرقمية هذه الأنظمة من بسط سيطرتها وهيمنتها السلطوية عن طريق إسكات أصوات الاحتجاج الشعبي ووسائل الإعلام المستقلة والمعارضين مع بروز مخاوف كثيرة حول إمكانية استمرار هذه المراقبة الرقمية حتى بعد نهاية أزمة كوفيد-19.
على الرغم من أن التكنولوجيا قد ساعدت في تسهيل الاحتجاجات، إلا أن هذه الأنظمة السلطوية بفعل انفتاحها على الذكاء الاصطناعي، تستخدم بعض الابتكارات التكنولوجية نفسها للرد على عمليات التعبئة الشعبية الخطيرة، فهي تستخدم التكنولوجيا ليس فقط لقمع الاحتجاجات، ولكن أيضًا لتشديد أساليب السيطرة القديمة، فبالإضافة إلى أنها تزيد من استخدامها للقمع الرقمي، فإنها تميل أيضًا إلى زيادة استخدامها لأشكال الممارسات العنيفة «في الحياةالواقعية»، لاسيما القمع والاعتقال والتعذيب.
إن تكثيف ممارسات السلطوية الرقمية في دول شمال أفريقيا أملته النزعات السلطوية المتجددة لهذه الأنظمة، والتي رأت في أزمة كوفيد-19، فرصة ذهبية سانحة لا يمكن تفويتها لتثبيت مقومات السلطوية الرقمية التي يمكن أن تكسب مشروعيتها في صفوف فئات عريضة من المواطنين، بفعل أهدافها الصحية المعلنة، وبث عامل الخوف والترهيب بين صفوف المواطنين وهذا ما يظهر جليًا بفعل حزمة التدابير الاستثنائية والتطبيقات الإلكترونية التي تم اعتمادها، وأضف إلى ذلك الفعل التعسفي والقسري في تعقيداتها وإجراءاتها.